مختارات اقتصادية

كيف يؤثر ارتفاع التضخم على أسواق الأسهم؟ وهل يتسبب في انهيارها؟

تكافح العديد من الاقتصادات حول العالم للسيطرة على معدلات التضخم المرتفعة فيها، في ظل وجود أسباب هيكلية تدعم ارتفاع الأسعار ومنها خلل سلاسل التوريد، ونقص المواد الخام، والاضطرابات الجيوسياسية التي تؤثر على المناحي الاقتصادية، والقلاقل في سوق الطاقة وغيرها من أسباب التضخم عالميًا.
ولا شك أن ارتفاع معدل التضخم يؤثر على كافة أشكال النشاط الاقتصادي في كافة أنحاء العالم، بما في ذلك سوق الأسهم التي كثيرًا ما يعتبرها المراقبون بمثابة «مرآة» للوضع الاقتصادي العام.
تأثير قوي رغم تفادي الانهيار
فعلى الرغم من أن أسواق الأسهم العالمية لم تشهد انهيارًا بسبب التضخم وما يصحبه من رفع لأسعار الفائدة فإنها تأثرت بشكل كبير، فمن جهة يقدم رفع الفائدة بديلًا سلبيًا عن الاستثمار في الأسواق مع تجنب أي قدر من المخاطرة، ومن جهة أخرى للتضخم آثار سلبية على الكثير من الصناعات بما يؤثر على أسعار أسهم الشركات.
وعلى سبيل المثال تشير الدراسات في الولايات المتحدة إلى أن مؤشر «ستاندرد أند بورز 500» يحقق أفضل أداء في ظل معدل فائدة 2-3%، فهو معدل لا يشجع على الادخار على حساب الاستهلاك وبالتالي تتوجه الأموال إلى الاستهلاك على حساب الادخار السالب بما يسهم في تشكيل مؤشر مستهلكين إيجابي ويدعم مختلف الشركات.
كما لا يدفع مثل هذا المعدل للتضخم (2-3%) المستهلكين للاطمئنان «الزائد» بأن أسعار السلع ستبقى كما هي، وبالتالي فإن شراءهم للسلعة اليوم ليس ضروريًا ويمكن تأجيل شرائها للغد وستحتفظ بنفس السعر، وهي المعضلة التي واجهت اليابان لعقود في ظل تمتع «معاناة» الاقتصاد الياباني بمعدل تضخم صفري وأحيانًا سالب. ولذلك حققت الشركات المكونة لمؤشر «ستاندرد أند بورز 500» انخفاضًا متوسطًا في الأرباح بنسبة 4.6% في الربع الأخير من عام 2022، وهو أول انخفاض سنوي منذ الربع الثالث من عام 2020 (-5.7%)، وذلك بفعل تراكم تأثيرات رفع سعر الفائدة لامتصاص آثار التضخم السلبية على سوق الأسهم.
وبشكل عام انخفض المؤشر الأمريكي الرئيسي، عن قمته التي سجلها في 29 مارس 2022 حتى 7 مارس 2023 بنسبة 16%، وهو في ذلك مدفوع بشكل رئيسي بالتضخم وما يصاحبه من إجراءات من جانب الفيدرالي الأمريكي برفع الفائدة، حتى أن تقارير تشير إلى أن نصف هذا الانخفاض جاء بسبب تأثير التضخم.
حركية داخلية:- ويعتبر «كريس زاكاريلي»، كبير مسؤولي الاستثمار في «تحالف المستشارين المستقلين»، أن ضعف سوق الأسهم الأمريكية خلال الفترة الماضية كان مدفوعًا بالمخاوف بشأن استجابة السياسة النقدية للاحتياطي الفيدرالي لارتفاع التضخم.
ويضيف «زاكاريلي»: «نظرًا لأن مؤشر أسعار المستهلك وبيانات نفقات الاستهلاك الشخصي تظل أعلى بكثير من 2% إلى 3%، فإن الاحتياطي الفيدرالي سيواصل رفع أسعار الفائدة، ومع ثبات باقي العوامل فإن أسعار الفائدة المرتفعة تكون سيئة بالنسبة لسوق الأسهم».
وبشكل عام تشير التقارير إلى حالة من «الحركية» داخل أسواق الأسهم حول العالم وليس في الولايات المتحدة فحسب، وذلك من خلال بيع أسهم الشركات الأكثر تأثرًا بالتضخم، وفي مقدمتها شركات التكنولوجيا، لصالح شراء أسهم شركات أخرى مثل شركات النفط والطاقة والأغذية، ولكن الاتجاه العام السائد كان لتراجع أسعار ومؤشرات الأسهم.
ولعل ارتفاع أسعار أسهم شركات الطاقة بنسبة 14% في المتوسط في الولايات المتحدة خلال 2022 يعكس تلك الحركية من جهة، كما كان أحد أهم أسباب عدم انهيار سوق الأسهم بصورة كاملة، حيث رأى فيها الكثير من المستثمرين ملاذًا آمنًا وبالتالي أبقت على بعض الأموال دون الخروج تمامًا من السوق.
ضبابية مع «ربح حقيقي» أقل
والشاهد هنا أن «الربح الحقيقي» من الاستثمار في الأسهم يتأثر بالتضخم، فمن يربح 8% سنويًا من الأسهم في الولايات المتحدة (وهي نسبة جيدة للغاية للمستثمرين هناك) سيكون عليه أن يخصم نسبة التضخم، والذي بلغ 9.1% قبل أشهر و6.1% في يناير الماضي ليجد أن ربحه الحقيقي إما سالب القيمة أو في قيمة متدنية.
ولذلك يميل البعض إما إلى أصول أقل مخاطرة، حتى وإن كانت أقل نموًا، كالذهب والعقارات، فتدني الربح الحقيقي مع تزايد ضبابية الصورة في سوق الأسهم لا يعد دافعًا نحو زيادة الاستثمارات في السوق، للارتباط الراسخ دومًا بين المخاطرة والعائد.
ويقول «روب هاورث» مدير إدارة التخطيط الاستراتيجي في «يو إس بنك» لإدارة الثروات، إنه مع استمرار ارتفاع أسعار الفائدة فإن المستثمرين يبدون ترددًا منطقيًا في ضخ أموالهم في سوق الأسهم، حيث تبدو العائدات المستقبلية من الاستثمار أقل جذبًا».
ويشير «هاورث» إلى أن أكثر الأسهم التي تعرضت لضربة شديدة هي تلك الأسهم التي تتمتع بمضاعف أرباح مرتفع، ومن ذلك نفهم تعرض شركة مثل «تسلا» لتراجع شديد في قيمتها خلال الأسابيع والأشهر الماضية، حيث تقل جاذبية الرهان على إمكانية تحقيق الأرباح المستقبلية على حساب الرهان على المكاسب القريبة.
وبشكل عام تضررت الشركات التي يفوق مضاعف أرباحها 20 وتراجعت أسعار أسهمها في السوق الأمريكية، باستثناءات محدودة، حيث أصبح الرهان على المستقبل الطويل غير مضمون مع تفضيل المستثمرين تحركات رؤوس الأموال المحدودة وعدم المخاطرة.
ولذلك يمكن القول بأن التضخم يحابي أسهم القيمة، أي تلك التي تعتمد على تحقيق نتائج آنية جيدة وتوزع شركاتها أرباحًا باستمرار، على حساب أسهم النمو، أي تلك التي يكون الرهان على ارتفاع أسعارها في المستقبل وليس على ما تقدمه حاليًا بالضرورة.
ما تخشاه الأسواق
وبشكل عام تخشى أسواق الأسهم من وصول الفارق بين معدل التضخم والفائدة إلى قيمة صفرية، أو حتى موجبة، فمع وصول قيمة الفائدة في الولايات المتحدة مثلًا إلى 4.5% وعزم الفيدرالي المؤكد على المزيد من الرفع، فإن القيمة قد تتساوى قريبًا (مع استمرار نسبة التضخم في التراجع التدريجي في المقابل)، بل وقد تفوق الفائدة نسبة التضخم ليصبح الادخار السلبي خيارًا جاذبًا للكثير من رؤوس الأموال.
ولكن وفي حال تجنب مثل تلك الحالة السلبية فإن الأسواق تميل إلى الانتعاش بشدة في أعقاب «معادلة» نسب التضخم العالية، حيث حققت المؤشرات الأمريكية الرئيسية ارتفاعا نسبته 13% في 12 شهرًا في المتوسط في أعقاب السيطرة على 13 حالة من التضخم المرتفع في الولايات المتحدة تاريخيًا.
وتشير الدراسات أيضًا إلى أن الأزمة في الارتباط بين معدلات التضخم المرتفعة وانخفاض مردود الأسهم وبالتالي تراجع أو اضطراب أسعارها تظهر بصورة أكبر في الاقتصادات النامية، التي تعاني بشكل طبيعي من ارتفاع نسبة التضخم مقارنة بنظيرتها المتقدمة، وتعاني من نوعي التضخم المستورد والمحلي سويًا.
وفي الاقتصادات النامية بالذات يبدو الاستثمار في السلع، أي شراء السلع بالآجل أو حتى تخزينها، أكثر ربحًا من الأسهم، خاصة في ظل ارتفاع أسعار الكثير من السلع محليًا في تلك الدول بنسب تفوق ارتفاع نسبها عالميًا بفعل إجراءات النقل وتدهور أسعار الصرف وتحوط التجار ضد ضبابية المشهد الاقتصادي برفع مستمر للأسعار.
وهنا يجب تذكر أن سوق الأسهم هو انعكاس لمشاعر المستثمرين والتوقعات الإجمالية للمستقبل بدلاً من تمثيل الظروف الاقتصادية الحالية فحسب، وبالتالي فإنه على الرغم من أن تباطؤ الاقتصاد العالمي قد لا يكون حادًا –حتى الآن- لكن القلق من آثار رفع الفائدة على التسبب في ركود هي الأخطر، ولذا فإن الاستمرار في محاصرة التضخم بالطرق الحالية قد تكون طريقًا مؤكدًا لتقويض أسواق الأسهم.

 

المصادر: أرقام – فوربس – يو إس بنك – واشنطن بوست – كوربريت انستيويت

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى