اقتصاد دولي

جنوب أوروبا الفقير يقود النمو في القارة على حساب المركز الغني

تشير أحدث البيانات والتوقعات الاقتصادية للمؤسسات الدولية إلى أن مركز النشاط الاقتصادي وتحسن الأداء في دول منطقة اليورو انتقل من اقتصاداتها الكبرى، مثل ألمانيا وفرنسا، إلى دول طرفية بخاصة الدول الأوروبية جنوب القارة والمطلة على البحر الأبيض المتوسط.

تلك الدول التي كانت قبل 10 سنوات فقط سبباً في أزمة ديون أوروبية هددت العملة الموحدة، اليورو، وجعلت دول المركز تنظر إليها باعتبارها عبئاً اقتصادياً على الاتحاد الأوروبي، ووقتها تطلب الاتفاق على حزمة إنقاذ من المفوضية الأوروبية لدول الجنوب ضغوطاً شديدة عليها من ألمانيا وفرنسا وغيرها من دول المركز الغنية.

الآن، ومع ركود الاقتصاد الألماني، أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، وتباطؤ الاقتصاد الفرنسي، يشهد اقتصاد دول مثل اليونان والبرتغال وإسبانيا نمواً قوياً، وتقود تلك الدول الآن مسار النمو للكتلة الاقتصادية الأوروبية معوضة الانكماش الألماني والفرنسي، بحسب أحدث التقارير الاقتصادية الصادرة الأسبوع الماضي عن مؤسسة “ستاندرد آند بورز” للتصنيف الائتماني، وذلك مما جعل مجلة “فورشين” تنشر تقريراً عن هذا التباين بين اقتصادات المركز والأطراف في أوروبا.

ويخلص تقرير المجلة إلى أن “اقتصادات جنوب أوروبا التي كان جيرانها الشماليون الأغنياء ينظرون إليها بازدراء قلبت الطاولة عليهم وتقدم نفسها الآن باعتبارها محرك النمو الأهم في منطقة اليورو”. فاقتصاد اليونان واقتصاد إيطاليا حققا نمواً في مارس (آذار) الماضي فاق توقعات الاقتصاديين والمحللين، علاوة على أن مؤشر قطاع التصنيع في اليونان أظهر نمواً مماثلاً، وكان لهذا النمو الجيد الشهر الماضي في تلك الدول الفضل في تحسن المؤشر العام لمنطقة اليورو وانتقاله إلى معدل نمو للمرة الأولى في 10 أشهر.

عوامل التحسن

بحسب مذكرة من بنك “هامبورغ كومرشيال” فإن “إسبانيا وإيطاليا قدمتا أكبر دعم (لاقتصاد منطقة اليورو) مع معدلات نمو في البلدين هي الأقوى خلال عام”. ويضيف البنك أن ذلك كان بمثابة المعادل للانكماش المستمر في الناتج الاقتصادي لكل من ألمانيا وفرنسا الذي بدأ منذ منتصف العام الماضي.

من العوامل التي ساعدت دول الجنوب الأوروبي على التحسن الاقتصادي في السنوات الأخيرة انتعاش السياحة بعد أزمة وباء كورونا وزيادة الصادرات وانخفاض كلفة الطاقة، وعلى سبيل المثال حصلت البرتغال العام الماضي على 25 مليار يورو (27.2 مليار دولار) من عائدات السياحة، بزيادة واضحة عن العام السابق، إذ كانت عائدات السياحة للبرتغال عند 21 مليار يورو (22.4 مليار دولار).

في مؤتمر في أثينا الأسبوع الماضي، قال محافظ البنك المركزي اليوناني يانيس ستورناراس إنه من بعد فترة الوباء “تتحسن السياحة بقوة في جنوب أوروبا”. وأضاف أن العامل الأهم وراء النمو القوي في دول الجنوب الأوروبي هو أن تلك الدول عملت على “تصحيح الاختلالات (في اقتصادها) لذا تتطور وتنمو حالياً بنسبة جيدة من دون اختلالات في مؤشرات الاقتصاد الكلي”.

تلك الاختلالات التي أشار إليها محافظ البنك المركزي اليوناني كانت السبب في أزمة الديون الأوروبية في 2014 التي تطلبت حزم إنقاذ هائلة بشروط في غاية الصعوبة على الدول المدينة ومنها اليونان والبرتغال وغيرها. وبحسب توقعات المفوضية الأوروبية وغيرها فإن إسبانيا والبرتغال اليونان ستكون ضمن الأفضل أداءً بين اقتصادات دول منطقة اليورو في 2024.

في المقابل، خفضت الحكومة الفرنسية أخيراً توقعاتها لنمو الاقتصاد هذا العام، وأعلنت عن عجز في الموازنة أكبر بكثير من تقديراتها السابقة، ودفع ذلك الحكومة إلى الإعلان عن نيتها خفض الإنفاق العام بعشرات المليارات، أما ألمانيا فتأتي في ذيل قائمة توقعات النمو وفي نطاق الركود الاقتصادي بسبب تراجع إنفاق المستهلكين وضعف الطلب الخارجي على المنتجات الألمانية وارتفاع كلفة الاقتراض بسبب أسعار الفائدة العالية.

مؤشرات إيجابية

من المؤشرات المهمة على استمرار التحسن الاقتصادي في دول جنوب أوروبا بصورة أفضل بكثير من غيرها، إقبال المستثمرين على شراء سندات الدين السيادي لتلك الدول أكثر من السندات الأوروبية التقليدية التي تصدرها الحكومة الألمانية أو الفرنسية. بحسب تقرير مجلة “فورشين” فإن كبار المستثمرين المؤسساتيين مثل “فانغارد أسيت مانجمنت” و”جيه بي مورغان” و”نيوبرغر بيرمان” يشترون بكثافة السندات الحكومية لدول جنوب أوروبا مستفيدين من العائد عليها الذي يقترب من عائد السندات الألمانية والفرنسية، فعلى سبيل المثال تقلص الفارق بين العلاوة على السندات البرتغالية متوسطة الأجل لمدة 10 سنوات ونظيرتها الألمانية إلى النصف منذ منتصف 2022 إلى الآن ليصبح عند 6.5 في المئة.

يضاف إلى عوامل التحسن السابقة لأداء اقتصادات دول جنوب أوروبا أن الطلب الداخلي في تلك البلاد يظل قوياً، إذ خفض المستهلكون والشركات ديونهم إلى أقل مستوى منذ ما قبل الأزمة المالية العالمية في 2008، كما أن معدلات البطالة في تلك الدول عند أقل مستوى لها منذ عام 2007.

مع توقع استمرار الانكماش في اقتصادات دول المركز الغنية فإن دول الأطراف ستواصل النمو القوي بحسب غالب التقديرات، ومن المرجح أن تشهد قطاعات التصنيع والبناء والتشييد وغيرها نشاطاً قوياً في دول مثل البرتغال واليونان على عكس تباطؤ تلك القطاعات في دول المركز.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى