أخبار عاجلةاقتصاد دولي

“فايننشال تايمز”: كيف تعلمت روسيا العيش بدون واردات؟

أجرت صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية تحقيقاً موسعاً حول اقتصاد روسيا في زمن الحرب.. وكيف أنه لم ينهر بالسرعة التي توقعها الغرب في ظل عقوبات عزلتها عن العالم وسلاسل الإمداد للصناعة وصيانة المعدات وحتى أبسط الأمور، وفيما يبدو الأمر مفاجئاً إلا أنه باختصار صورة من صور “التكيف” مع المعطيات وشق جيوب خفية لضمان استمرار الحياة والبقاء.

وقبل الغوص في التفاصيل، أعدّ لنفسك كوباً من مشروب ساخن فقد انخفضت درجات الحرارة وقد ينتقل البرد إلى خيالك مع ذكر “روسيا” والتي غطّت الثلوج ربوعها بكثافة خلال الأيام الماضية.

تعّقب تحقيق “فايننشال تايمز” الذي اطلعت عليه “العربية.نت”، مجموعة من الأشخاص الروس المتخصصين في التهريب، والذين استثمروا العقوبات في جني أرباح طائلة من نشاط كان مجرماً من قبل في روسيا، لكنه أصبح أحد سبل النجاة لاقتصاد يعاني وطأة العقوبات على سلاسل الإمداد.

فبعد ظهر أحد أيام أغسطس، توقفت سيارة أجرة أمام فندق في إسطنبول تصطحب مجموعة من الرجال يتحدثون الروسية. أخرجوا 5 حقائب سفر من السيارة.

كانت الصناديق مليئة بمعدات اشتروها من النمسا. وفيما لم تكن البضائع فريدة بشكل خاص، والتي شملت الإلكترونيات الاحترافية، للاستخدام في المدارس – لكنها صنعت بواسطة علامة تجارية غربية قررت مقاطعة روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا.

قال أحد الأشخاص الروس يدعى ستانيسلاف، والذي تسلم الحقائب في فندق في “إسطنبول”: “تبدوا البضائع كما لو كانت للاستخدام الشخصي فقط… كما لو أنني اشتريت كل شيء لنفسي”.

وأضاف ستانيسلاف، والذي لم يرغب في كشف هويته بسبب الطبيعة غير القانونية للنشاط: “بالطبع، كانت مهربة، سهلة وبسيطة”.

ولكن هذا ليس كل شيء. فقد كانت هذه شحنة غير عادية لستانيسلاف، والمتخصص عادةً في استخدام الشاحنات لتهريب المواد الأكبر والأكثر حساسية من أوروبا والتي تخضع لعقوبات على روسيا، مثل المواد الخاصة بقطاع البناء والأجزاء والآلات للصناعات الثقيلة.

لم تنهار روسيا بالسرعة التي توقعها الغرب
لم تنهار روسيا بالسرعة التي توقعها الغرب

ويعد ستانيسلاف هو واحد من عدد متزايد ممن يُطلق عليهم المتخصصون في الاستيراد والتصدير الروس – خبراء في اكتشاف الثغرات وإدخال البضائع عبر الجمارك – الذين ظهروا رداً على العقوبات الغربية المفروضة على البلاد.

وكشفت المقابلات مع المشاركين في هذه السوق السرية عن تجارة مربحة، ولكن تحمل مخاطر كبيرة وغير مستقرة إلى حد كبير، والتي سيكافح الاقتصاد الروسي المحاصر من أجل الاعتماد عليها.

يأتي ذلك، بعد أن تركت العقوبات الغربية العديد من الشركات تتدافع للحصول على منتجات وقطع غيار ذات علامات تجارية أجنبية مهمة.

عندما تم فرض أشد العقوبات في مارس، توقع بعض الاقتصاديين حدوث انهيار سريع في الاقتصاد الروسي، ربما بنسبة تصل إلى 30%. لكن هذا لم يحدث؛ إذ استمرت عائدات النفط والغاز في التدفق وسرعان ما تعافت العملة.

وبدلاً من ذلك، فإن ما يظهر هو شيء مختلف – ليس تدهوراً دراماتيكياً، ولكن تدهوراً ثابتاً لقدرتها الإنتاجية، وهو ما يجادل الاقتصاديون في كل من روسيا والغرب بأنه يدفع بالبلاد إلى الوراء لعقود.

مبنى الكرملين
مبنى الكرملين

وتقريباً تكافح معظم القطاعات الروسية من نقص الإمدادات؛ حيث تعاني الشركات الزراعية للحصول على إطارات للجرارات، في حين أن شركات الطيران غير قادرة على تأمين مكونات أجنبية لإصلاح طائراتها، وحتى صناعة الدواجن بات لا يمكنها استيراد البيض المخصب أو الكتاكيت من هولندا.

وتُظهر البيانات من الشركاء التجاريين لروسيا أن الواردات الروسية انخفضت بنسبة 20-25% منذ بداية الحرب – وهي ضربة لبلد راسخ لعقود في الاقتصاد العالمي.

من جانبها قالت الخبيرة الاقتصادية في معهد التمويل الدولي، إلينا ريباكوفا: “إذا نظرت إلى الأدوية، والإنتاج الكيميائي، وبناء الآلات، والمعادن، والتعدين، فمن الصعب العثور على صناعة في روسيا لا تعتمد على الواردات لما لا يقل عن 50% من المدخلات”.

اقرأ المزيد.. الكرملين: بوتين سيحدد رد روسيا على وضع سقف لسعر النفط خلال أيام

وفي ظل هذه الظروف، سيضطر المستهلكون إلى إعادة التكيف مع خيارات محدودة للسلع وجودة أقل للمنتجات التي يمكن أن تعيد للأذهان الحرمان الذي حدث في أواخر الحقبة السوفيتية.

وتوقعت ريباكوفا، أن يستمر الأمر على هذا النحو لمدة 15-20 سنة، ما لم يمت (الرئيس فلاديمير بوتين). في الأساس لن يتغير شيء”.

وحالياً، يعتمد مستقبل روسيا الاقتصادي طويل الأجل على ما إذا كانت موسكو ستكون قادرة على إنتاج بدائل محلية بسرعة للسلع الأجنبية التي لم يعد بإمكانها الوصول إليها، أو الحصول على نظائرها من دول “صديقة” مثل الصين.

بالنسبة لـ ستانيسلاف، خلقت القيود الجديدة أرض الفرص. في الماضي، كان المستوردون الرسميون يشحنون البضائع الأجنبية إلى روسيا، ولم يكن هناك سوى القليل من الطرق لدخول لاعب جديد. كما أن محاولة استيراد العلامات التجارية بشكل غير قانوني لم تكن مفيدة أيضاً، حيث كان هناك طلب ضئيل.

وقال ستانيسلاف: “كان بإمكاني وضع البضائع في علبة آلات موسيقية وإحضارها، لكن لم يكن أحد ليشتريها، لأنني لم أكن لأعرض على المشتري ضماناً رسمياً، أو خدمات ما بعد البيع”.

وأضاف: “حالياً أي شيء مطلوب ويمكن بيعه”.

اقرأ المزيد.. بوتين: أخفقت الرهانات على انهيار اقتصاد روسيا بسبب العقوبات

في الغالب، يشتري ستانيسلاف سلعاً من خلال “شركات واجهة” – وهي شركات تعمل في السر في مجالات أخرى غير ما تعلنه أو تبدو، وعادة تستخدمها أجهزة الاستخبارات الدولية لإخفاء طبيعة غرضها – ثم يتم إرسال المنتجات في شاحنات من الاتحاد الأوروبي إلى إحدى دول الاتحاد السوفيتي السابق التي تشترك في اتحاد جمركي مع روسيا، مثل كازاخستان وأرمينيا.

وقال مواطن روسي آخر مقيم في أوروبا يعمل في الاستيراد والتصدير: “أي علامة تجارية غادرت روسيا، بغض النظر عن ماهيتها – المكانس الكهربائية والملابس والكحول – يتم استيرادها على أي حال”.

على الجانب الأخر، صنفت روسيا بيانات عن وارداتها بعد وقت قصير من بدء الحرب، لكن الاقتصاديين يقومون ببناء صورة باستخدام معلومات حول الصادرات إلى روسيا من شركائها التجاريين الرئيسيين. ويُظهر هذا انخفاضاً حاداً في الربيع، مباشرة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، تلاه بعض الانتعاش في الخريف.

ووفقاً لأبحاث “البنك المركزي الأوروبي”، فقد تراجعت الصادرات من “الولايات المتحدة” إلى “روسيا” بنسبة 85% في مايو مقارنة بالشهر نفسه من العام السابق، ويتوقع “البنك الدولي”، و”صندوق النقد الدولي”، ومؤسسات أخرى انخفاض الواردات الروسية في 2022، بأكمله بمقدار الربع عن 2021.

وخلال الفترة من يونيو إلى أغسطس من 2022، بلغت الواردات الروسية 4.5 مليار دولار شهرياً، وهذا أقل مما كانت عليه في عام 2021، وفقاً لمعهد “كيل للاقتصاد العالمي”.

3 دول تمثل طوق النجاة

نظراً لنقص قطع الغيار المستوردة، كان إنتاج السيارات أحد أكثر القطاعات تضرراً، حيث انخفض الإنتاج بنسبة 80% تقريباً في سبتمبر مقارنة بالشهر نفسه من العام السابق، وفقاً لخدمة الإحصاءات الحكومية الروسية “Rosstat”. ودفع الركود المسؤولين إلى تخفيف بعض متطلبات السلامة خلال فصل الصيف فيما يتعلق بالفرامل المانعة للانزلاق ووسائد الأمان.

كما باع العديد من صانعي السيارات الغربيين وبائعيها أعمالهم الروسية بحيث لم يتبق سوى 14 شركة تصنيع سيارات في السوق مملوكة للمشترين الروس، وفقاً لتحليل صناعي نُشر في ديسمبر. وكانت جميعها علامات تجارية صينية باستثناء 3 علامات تجارية محلية، بما في ذلك شركة السيارات التي تعود للحقبة السوفيتية “لادا”.

من جانبه، قال ملياردير مقرب من الكرملين إن الربح المحتمل من السلع المهربة مرتفع للغاية، متوقعاً أنه وحتى السلع الكمالية ستواصل طريقها إلى البلاد دائماً، بغض النظر عن العقوبات. وأشار إلى أنه اشترى خلال الصيف سيارتين من طراز “مايباخ” بدلاً من “مرسيدس” التي يريدها لكنه لم يستطع الحصول عليها. وكان الهدف من شراء 2 بدلاً من واحدة، هو أنه إذا تعطلت الأولى، فيمكنه استخدام الثانية كقطع غيار.

وتوقع أن تكون الأمور صعبة لمدة سنتين، أو 3، أو حتى 4 سنوات. بعد ذلك سوف نتأقلم”. وأشار إلى نموذج إيران وكيف توصلوا إلى تأمين سلاسل التوريد الخاصة بهم.

تأخر الانهيار

وحتى الآن، تجنب الاقتصاد الروسي أسوأ التوقعات. إذ يقدّر الاقتصاديون انخفاضاً في الناتج المحلي الإجمالي بما يتراوح بين 3.5 و5.5% في 2022.

ويرجع ذلك جزئياً إلى أن عائدات التصدير ظلت قوية، وتبحث روسيا بشكل متزايد عن مشترين بديلين لنفطها.

وعلى سبيل المثال، كان هناك ارتفاع في الصادرات إلى روسيا من بين البلدان التي من خلالها تقوم بعض الشركات بتغيير مسار التجارة. إذ ارتفعت الصادرات إلى روسيا من قبل دول مثل تركيا وكازاخستان. في حين بات الاتحاد الأوروبي يصدر بضائع أقل بنسبة 43% إلى روسيا خلال الفترة من يونيو إلى أغسطس، ويقابلها زيادة في صادرات الصين بنسبة 23% أكثر، وفقاً لمعهد “كيل”.

ولكن في حين لم يكن هناك تفكك للاقتصاد، يعتقد المحللون أن النمو طويل الأجل سوف يتراجع إلى حد كبير، حيث أن القيود المفروضة على الواردات تقضي على إمكانية التحديث التكنولوجي. وقالوا، إن الصناعات المحلية التي ينتهي بها الأمر لتحل محل الورادات غالباً ما تكون غير فعالة، كما أن تدفق الواردات من السوق السوداء متقلبة.

بدوره، قال الخبير الاقتصادي جاكوب نيل، عضو مجموعة عمل خبراء بشأن العقوبات يديرها سفير الولايات المتحدة السابق في روسيا مايكل ماكفول وأندري يرماك، رئيس ديوان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. “من الصعب جداً بناء سلاسل التوريد عندما يكون لديك هذه الأنواع من العقوبات الشاملة”.

وأضاف نيل: “حتى لو تمكنت من سرقة المخططات، فمن الصعب جداً تكرار إنتاج هذه الأشياء – بطريقة اقتصادية ومستدامة تجارياً، دون دعم”.

وفي وقت سابق من هذا الشهر، اقترح الاتحاد الأوروبي جعل التهرب من العقوبات جريمة جنائية وهو ما أثر بشكل فوري على واردات روسيا، إذ قال “ستانيسلاف”، إن إحدى شحناته في جمارك كازاخستان تم إيقافها.

وقال: “تم العثور على ثغرة، وبعد ذلك، بفضل الاتصالات ورشوة صغيرة، وجدنا طريقة لنقل الأشياء”. مع ذلك، “يزداد الأمر صعوبة يوماً بعد يوم”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى