اقتصاد دولي

الشراكة التجارية بين تونس وأوروبا خلاف متصاعد يهدد بالقطيعة

تلوح أزمة كبيرة في الأفق بين تونس والاتحاد الأوروبي، الشريك الاقتصادي والتجاري الأول لها، على خلفية تصاعد حدة التصريحات الرسمية بين الطرفين، قد تكون لها عواقب وخيمة على العلاقات الاقتصادية بين الجانبين.
أصل الخلاف السياسي والدبلوماسي الحاصل، انطلق من تصريحات مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، الذي وصف الوضع في تونس بـ»الخطر للغاية».
وحذر بوريل قائلاً إن «الاتحاد الأوروبي لا يمكنه مساعدة دولة غير قادرة على توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي»، مشدداً على أن «الرئيس قيس سعيد يجب أن يوقع اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي وينفذه، وإلا فإن الوضع سيكون خطراً للغاية بالنسبة إلى تونس». ومضى بوريل إلى أبعد من ذلك محذراً من أنه «إذا انهارت تونس، فذلك يهدد بتدفق مهاجرين نحو الاتحاد الأوروبي»، مضيفاً «نريد تجنب هذا الوضع».
ونبه بوريل إثر اجتماع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي في بروكسل، إلى أن «الوضع في تونس خطر للغاية» وأن «التكتل يشعر بالقلق إزاء التدهور ويخشى انهيار ذلك البلد».
تصريحات غير متناسبة
في المقابل جاء الرد التونسي على تصريحات المسؤول الأوروبي من خلال القنوات الدبلوماسية الرسمية، فصرح وزير الخارجية التونسي نبيل عمار عبر الموقع الرسمي للوزارة، بأن «هذه التصريحات غير متناسبة سواء بالنظر إلى القدرات الراسخة والمشهود بها عبر التاريخ للشعب التونسي على الصمود وعلى تجاوز المصاعب، وكذلك في ما يتعلق بالتهديد الذي تمثله الهجرة من دول الجنوب إلى أوروبا».
وأردف «تتواصل التصريحات الانتقائية في تجاهل لأية مسؤولية عن الوضع الذي ساد في تونس منذ عام 2011 وإلى غاية 25 يوليو (تموز) 2021».
وحاول وزير الخارجية التونسي تلطيف الوضع، قائلاً إن «تونس ترحب بالدعم البناء لعديد من الشركاء، بما في ذلك الجارة إيطاليا، وتبقى منفتحة على شراكة مسؤولة قائمة على الاحترام المتبادل والمساواة مع جميع شركائها».
علاقة اقتصادية متجذرة
ويعد الاتحاد الأوروبي الشريك الاقتصادي والتجاري الأول لتونس باستئثاره بنحو 75 في المئة من التعاملات الاقتصادية والتجارية في علاقة اقتصادية ضاربة في التاريخ تعود إلى سبعينيات القرن الماضي بإقرار قانون عام 1972 الهادف إلى تصدير المنتجات الصناعية إلى دول الاتحاد الأوروبي عبر ما تمت تسميته بالمناولة الصناعية. وتركز هذه المسألة على إنشاء مصانع أوروبية في تونس ذات القدرة التشغيلية الشبابية العالية، وبخاصة توفر عمالة «زهيدة الأجر» تنفذ التصميمات المتأتية من أوروبا لتصنيعها في تونس.
ويؤكد المختصون أن قطاع المناولة الصناعية منذ سبعينيات القرن الماضي أسهم في بروز النواة الصناعية الأولى لتونس وتحولها من نظام اقتصادي فلاحي إلى نموذج صناعي.
وتوجت العلاقة الاقتصادية بين تونس والاتحاد الأوروبي في عام 1995، باتفاق شراكة أفضى لاحقاً إلى إقرار منطقة للتبادل التجاري الحر، مما أتاح لتونس التمتع بعديد من المساعدات المالية والبرامج لتأهيل نسيجها الصناعي مع زيادة حجم صادراتها إلى العملاق الاقتصادي الأوروبي. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 تقرر إرساء «الشراكة المميزة» بين الاتحاد الأوروبي وتونس، التي وضعت أسس التعاون بين الطرفين بين عامي 2013 و2017، مثل الشراكة من أجل التنقل والحوار السياسي الرفيع المستوى بشأن الأمن ومكافحة الإرهاب، وبرنامج أوروبا المبدعة. وفي عام 2017، التزم الاتحاد الأوروبي بمنح تونس هبة سنوية بنحو 300 مليون يورو حتى انتهاء مدة تنفيذ مخطط التنمية الوطني في عام 2020.
استثمار 4.5 مليار دولار
وكان سفير الاتحاد الأوروبي في تونس ماركوس كورنارو أكد أن الاتحاد مستعد لتقديم تمويل لتونس بقيمة 4.5 مليار دولار، غير مشروط بتوقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي، من بينها 1.2 مليار دولار في إطار برامج ثنائية مع الحكومة ستوجه إلى التعليم والقطاعات الخدماتية والاجتماعية.
وكشف كورنارو عن أن الاتحاد الأوروبي جاهز لاستثمار أكثر من ثلاثة مليارات دولار في تونس في الفترة الممتدة بين 2022 و2027، مشيراً إلى أن الاهتمام سيكون بقطاعات الطاقات البديلة والاقتصاد الأخضر إلى جانب قطاع الاتصالات والرقمنة. وقال السفير الأوروبي «إن تونس يمكن أن تكون بلداً مستقطباً للاستثمارات الأوروبية، وهو ما يفسر استعداد الاتحاد الأوروبي لضخ استثمارات بقيمة 4.5 مليار دولار»، مؤكداً أن «الاستثمار الأوروبي في تونس يمكن أن يزيد عبر استغلال الفرص التي تخلقها الحرب الروسية – الأوكرانية».
وفد من الاتحاد الأوروبي في تونس
وشرع وفد رفيع من الاتحاد الأوروبي، يقوده غيرت يان كوبمان، المدير العام للحوار ومفاوضات التوسع، في زيارة إلى تونس لبحث الشراكة بين الجانبين، منذ يوم الثلاثاء 21 مارس (آذار) الجاري، وفق بيان صدر عن بعثة الاتحاد الأوروبي بتونس، جاء فيه أن الزيارة تعد «فرصة لإجراء نقاش معمق حول التقدم في الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وتونس».
وأفاد كوبمان بأن زيارته والوفد المرافق له لتونس «أتاحت الفرصة للاطلاع على الوضع الاقتصادي وما يواجهه من صعوبات إلى جانب سير الإصلاحات التي تم إقرارها وما تحتاج إليه من دعم ومساندة»، مؤكداً أن «تونس تمثل شريكاً أساسياً واستراتيجياً للاتحاد الأوروبي على جميع الأصعدة»، مشيراً إلى «الدور النشيط الذي يمكن للاستثمار الخاص أن يلعبه في مزيد تعزيز الشراكة القائمة وتنويعها»، وأعرب في تصريح أدلى به خلال لقائه وزير الاقتصاد والتخطيط التونسي سمير سعيد عن استعداد المفوضية الأوروبية لمواصلة التحاور والتشاور حول برامج التعاون للمرحلة المقبلة واستغلال الإمكانيات والآليات المتاحة لمزيد تطويرها، مبرزاً أهمية التنسيق مع بقية الممولين بما يضفي مزيداً من النجاعة على برامج دعم التنمية والإصلاحات.
من جهته قدم الوزير سعيد لأعضاء الوفد أبرز ملامح البرنامج الوطني للإصلاحات الذي أقرته الحكومة التونسية أخيراً والهادف إلى رفع نسق النمو واسترجاع التوازنات المالية ودعم المكاسب الاجتماعية، وذلك إلى جانب الإصلاحات والإجراءات التي تم تصميمها لتحسين مناخ الأعمال والاستثمار وتسريع نسق إنجاز المشاريع العمومية والخاصة.
وأبرز الوزير في هذا الإطار متانة العلاقات بين الجانبين، مثمناً «دعم الاتحاد الأوروبي لتونس في مسارها الإصلاحي والتنموي وفي مجابهة الصعوبات التي فرضتها الأزمات العالمية المتواترة في الآونة الأخيرة وبخاصة منها أزمة كوفيد وتداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية». ولكن بعيداً من البيانات الرسمية والتصريحات الدبلوماسية، فإن المتابعين للشأن السياسي والاقتصادي في تونس اعتبروا أن زيارة الوفد الأوروبي تعد مهمة جداً إثر انشغال الشريك الأوروبي عن تدهور الأوضاع السياسية والحقوقية في البلاد، مطالبين الجانب الرسمي بمزيد توضيح هذه المسائل.
تونس تحت ضغوط خفض أسعار المحروقات وسط توجه نحو إلغاء الدعم

شريك اقتصادي ثقيل

وقال الباحث المالي بسام النيفر إن «موضوع العلاقة التجارية بين تونس بالاتحاد الأوروبي ملف حساس جداً»، موضحاً أن «صادرات تونس نحو بلدان الاتحاد الأوروبي حتى نهاية نوفمبر 2022 تمثل 67.5 في المئة من مجموع الصادرات متجاوزة مجموع 35 مليار دينار» (11.2 مليار دولار)، واعتبر النيفر أن «ما يميز العلاقات التجارية بين تونس مع الاتحاد الأوروبي هو أن الميزان التجاري يسجل فائضاً، إذ بلغ 1.9 مليار دينار حتى نهاية نوفمبر من السنة الماضية وهو أهم فائض يتم تسجيله مع دول الاتحاد الأوروبي، مما عكس فكرة أن تونس هي الرابحة بفضل اتفاق الشراكة».

وحتى أواخر فبراير (شباط) الماضي، استقبل الاتحاد الأوروبي 72.3 في المئة من الصادرات التونسية والفائض خلال الشهرين الأولين من العام الحالي، بلغ 1.7 مليار دينار أي بمضاعفة مرتين مقارنة مع الفترة ذاتها من السنة الماضية.

ليس من مصلحة الاتحاد الأوروبي

واستبعد الباحث النيفر «تعكر الوضعية الاقتصادية بين الطرفين بسبب تصاعد التصريحات بين مسؤولي الجانبين»، مبرراً ذلك بأن «الاتحاد الأوروبي واعٍ إلى أن هناك صعوبات اقتصادية لتونس، وأنه في حال وقف المساعدات والتعاون وتفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية للبلاد، فإن ذلك سيتسبب بمشكلات أعمق وأخطر متعلقة بالهجرة غير النظامية باتجاه الاتحاد الأوروبي». وزاد أنه «يصعب على العملاق الاقتصادي الأوروبي أن يتخلى عن تونس مالياً واقتصادياً في ظرف حرج تمر به تونس علاوة على أن جل النسيج الصناعي التونسي مكون من مؤسسات أوروبية موجودة في تونس وتؤمن سلاسل الإنتاج لأوروبا»، مضيفاً أن «هناك قطاعات تعتبر فيها تونس استراتيجية، على غرار تصنيع الأسلاك الكهربائية للسيارات الأوروبية».

ولكن النيفر عبر عن اعتقاده بأن «المساعدات المالية للاتحاد الأوروبي باتجاه تونس ضعيفة» وأن البلاد «لا تحصل على المساعدات الضرورية»، واصفاً المساعدات بـ»الفتات» لشريك اقتصادي مهم للاتحاد الأوروبي، مضيفاً أن «تونس لم تتحصل على مساعدات مالية منذ عامين تقريباً».
من جانب آخر رجح الباحث المالي أن يدعم الاتحاد الاوروبي موازنة تونس في ظل تأخر توصل ذلك البلد إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، إضافة إلى منح مساعدات للشركات الصغرى.

الابتعاد عن منطق الوصاية

أما خليل العبيدي المتخصص في شأن الاستثمار الدولي فشدد على «ضرورة أن يعي الاتحاد الأوروبي التحولات الجيوسياسية الحاصلة منذ بضع سنوات في القارة الأفريقية بصعود قوى اقتصادية جديدة على غرار الصين وروسيا التي ترغب في وضع موطن قدم في القارة السمراء ولعب دور اقتصادي أقوى وأكبر»، وعبر عن اعتقاده بأن «تونس وبحكم موقعها يمكن أن تكون بوابة لهذه القوى الاقتصادية الجديدة للدخول إلى أفريقيا»، موجهاً رسالة ضمنية إلى دول الاتحاد الأوروبي بوجوب أن «تغير سياستها تجاه شركائها في منطقة شمال أفريقيا والابتعاد عن الدور الحمائي والوصاية».
وأقر خليل العبيدي بأهمية العلاقة التجارية بين الطرفين، إذ تمثل تونس الشريك الأول للاتحاد من خارج المنطقة الأوروبية، مضيفاً أن «لتونس دوراً استراتيجياً في حماية حدود أوروبا من خلال تصديها لموجات الهجرة غير النظامية التي تحولت لاحقاً إلى ليبيا بعد إجهاضها من الشواطئ التونسية»، ولفت إلى أن «التطورات الاقتصادية والسياسية الحاصلة الآن في مناطق عدة من العالم صارت تفرض على الاتحاد الاوروبي أن يغير من طريقته في التعامل مع شركائه خارج الاتحاد مثل تونس، لا بالتهديد بسحب المساعدات المالية بل من منطلق حوار متكافئ ومتضامن يأخذ في الاعتبار خصوصية الوضع السياسي والاقتصادي في البلاد»، وتابع العبيدي في هذا الصدد «صحيح أن الأوضاع السياسية والاقتصادية ليست على أفضل حالها في تونس، وعلى الاتحاد الأوروبي أن يقود عبر دور أكبر، لا عبر الوصاية على سيادة البلاد، بل بمضاعفة المساعدات وإقرار البرامج والآليات الكفيلة التي تخول لتونس أن تنهض اقتصادياً».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى