مختارات اقتصادية

سؤال الساعة بعدما انهارت بنوك أمريكية .. هل انتهى الأمر أم ننتظر المزيد في الطريق؟

يبدو أن تبعات الأزمة التي قضت على بنك «سيليكون فالي» الأمريكي ودفعت سهم بنك «كريدي سويس» إلى التراجع الحاد للغاية لولا التدخل السريع من جانب منافسه «يو.بي.إس» لإنقاذه بدعم حكومي لن تنتهي سريعا وفقا لما يقوله رؤوساء تنفيذيون لشركات كبرى.
وأدى انهيار «سيليكون فالي» الذي يركز على تمويل الشركات الناشئة في قطاع التكنولوجيا والابتكار إلى حدوث موجة عالمية من عدم الاستقرار المالي. وعلى الرغم من جهود الهيئات التنظيمية للقطاع المالي في الولايات المتحدة لاحتواء الأضرار من خلال توفير الحماية الكاملة لمودعي البنوك على الفور، تسبب الانهيار في حدوث انخفاض عالمي في أسعار أسهم المصارف.
أدى الاضطراب في الأسواق المالية إلى انهيار العملاق المصرفي السويسري «كريدي سويس»، الذي استحوذ عليه سريعا بنك «يو.بي.إس» الأكبر حجما. وجاء ذلك بعد أن ثبُت أن دعما بقيمة 54 مليار دولار قدمه البنك المركزي السويسري لم يكن كافيا لإنقاذ البنك.
موجة الانهيار لم تنته بعد
يقول الرئيس التنفيذي لصندوق التحوط «مان جروب» إن الاضطرابات المصرفية التي أثارها انهيار البنك الأمريكي لم تنته بعد وإن عددا لم يحدده من البنوك ستنهار في غضون عامين.
وردا على سؤال حول ما إذا كانت الأزمة في القطاع قد انتهت، قال «لوك إليس» إنه لا يعتقد هذا. وقال إليس «أعتقد أنه سيكون لدينا المزيد من البنوك التي لن تكون موجودة على مدى 12-24 شهرا قادمة» مضيفا أنه يعتقد أن البنوك الأصغر حجما والمحلية في الولايات المتحدة وكذلك البنوك الناشئة في بريطانيا قد تكون في خطر.
قال إليس إن نمو وسائل التواصل الاجتماعي أدى إلى تسارع وتيرة انتشار المخاوف بشأن البنوك. وقال «الأمور تحدث بسرعة أكبر بكثير، سواء كانت أزمة أو أخباراً جيدة»
الأمر نفسه ردده «لاري فينك» الرئيس التنفيذي لشركة «بلاك روك» أكبر مدير للأصول في العالم الذي حذر من أن انهيار «سيليكون فالي» لن يكون الأخير وأنه ربما تنهار بنوك أخرى محلية في الولايات المتحدة أكبر حجما. كذلك حذر «بيل أكمان» الملياردير الأمريكي والرئيس التنفيذي لشركة إدارة صناديق التحوط «بيرشينج سكوير كابيتال ماندجمنت» من أن المزيد من البنوك الأمريكية من المحتمل أن تواجه نفس مصير «سيليكون فالي» على الرغم من تدخل إدارة الرئيس جو بايدن لتحجيم التأثيرات. بالطبع سعى البنك الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي) وبنك إنجلترا إلى تهدئة مخاوف القطاع المالي عبر رسائل عديدة. وقال متحدث باسم بنك إنجلترا المركزي إن النظام المصرفي البريطاني يتمتع برؤوس أموال وتمويل جيد ويظل «آمنا وسليما». واستجابت البنوك المركزية الكبرى على مستوى العالم للاضطرابات بإجراءات منسقة لضمان تدفق السيولة بين البنوك حول العالم. وقال «سيما شاه» كبير الخبراء الاستراتيجيين العالميين لدى شركة «برينسيبال لإدارة الأصول» إنه يعتقد أن صانعي السياسات فعلوا ما يكفي لإغلاق هذه الملفات الفريدة من نوعها.
تأثير الفراشة:- لكن دعونا نرجع إلى الوراء قليلا لمعرفة أسباب الأزمة. في البداية يثير الأمر الدهشة فكيف يمكن أن يؤدي انهيار مؤسسة مالية صغيرة نسبيا مثل بنك «سيليكون فالي» إلى عواقب عالمية، بما في ذلك سقوط مؤسسة مالية عمرها 167 عاما مثل «كريدي سويس»؟
يشبه البعض الأمر بتأثير الفراشة البيئي، ويعني ذلك أن الأشياء الصغيرة يمكن أن تكون لها تأثيرات هائلة على بقية أجزاء النظام الواحد المعقد عبر إثارتها سلسلة من ردود الأفعال. ويقول الخبراء إن ذلك التأثير يتمثل في عالم البنوك في المخاطر النظامية.
تتطلب الإجابة على هذا السؤال فهم المخاطر النظامية، والتي تشير إلى المخاطر المرتبطة بالنظام المالي بأكمله. بشكل عام، يقول الخبراء إن هناك مصدرين رئيسيين مختلفين للمخاطر النظامية الأول هو عدوى الميزانية العامة والثاني إدارة المعلومات.
تنشأ مخاطر عدوى الميزانية العامة من العدد الهائل من الاتفاقات المالية المبرمة بين الشركات والمؤسسات في النظام المالي العالمي. لا يعمل أي بنك في عزلة عن البنوك الأخرى، فجميع البنوك مترابطة بإحكام من خلال الاتفاقيات التي قد تشمل قروضا قصيرة الأجل وطويلة الأجل، وأنواعا مختلفة من العقود الأخرى مثل المشتقات. وعادة ما تكون أكبر المؤسسات المالية هي أيضا الأكثر ارتباطا بغيرها، حيث توفر وتتلقى الائتمان من العديد من المؤسسات الأخرى. وعندما تتعرض واحدة أو أكثر من تلك المؤسسات الكبيرة لخسائر لا يمكن تغطيتها برأسمالها (قيمة أصولها)، فإنها تصبح معسرة. ويعني هذا عدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها بالكامل. على سبيل المثال، إذا كان البنك المتأثر مدين بأموال لبنوك أخرى، ستعاني هذه البنوك الأخرى أيضا الخسائر التي يمكن أن تنتشر إلى ما هو أبعد من ذلك، ما يؤثر على دائنيها ويخلق سلسلة من الإخفاقات المحتملة. أزمة 2008 مثالا:- كان التدخل الضخم في الأسواق المالية من جانب السلطات المالية الأمريكية والأوروبية في أعقاب انهيار بنك «ليمان براذرز» في عام 2008 يهدف إلى تجنب حدوث مثل تلك العدوى. في الواقع، فإن الأزمة المالية العالمية في 2008 تعد مثالا جيدا على المخاطر النظامية التي تشكلها مثل تلك المؤسسات الكبيرة التي لديها العديد من اتفاقات الترابط. ويقول الخبراء إن تلك المؤسسات تصبح مع الوقت «أكبر من أن تفشل» لأن انهيارها لا يؤثر على النظام المالي فحسب، بل على الاقتصاد العالمي بأسره.
تدفق المعلومات:- من ناحية أخرى، فإن الأزمة المصرفية الأخيرة هي مثال على المخاطر النظامية الناتجة عن تدفق المعلومات. ينشأ ذلك عندما تؤدي مشاكل في جزء واحد من النظام إلى حدوث مخاوف بشأن مدى المتانة المالية لبقية أجزاء النظام المصرفي.
على سبيل المثال، تسبب الإعلان عن خسائر الأصول في «بنك سيليكون فالي» إلى اندفاع العملاء الذين يحتفظون بودائع غير محمية إلى البنك لسحب أموالهم. وأثار الإغلاق النهائي للبنك مخاوف من أن بنوكا أخرى قد تعاني خسائر مماثلة. شجع هذا المستثمرين في جميع أنحاء العالم على بيع أسهم المصارف، ما تسبب في حدوث اضطراب في أسهم القطاع بالكامل. تنشأ مخاطر تدفق المعلومات عندما لا يكون لدى المستثمرين والمودعين الصورة الكاملة لوضع البنوك التي يمتلكون أسهما فيها أو التي أودعوا أموالهم بها. يدفعهم هذا إلى استخلاص استنتاجات بشأن المتانة المالية لهذه البنوك من خلال مراقبة ما يحدث في بقية أجزاء النظام المصرفي. يفترض الناس بشكل معقول أن البنوك في جميع أنحاء العالم تتخذ قرارات استثمارية مماثلة لتلك التي انهارت للتو. كان فهم المخاطر النظامية وآثارها على الأسواق المالية موضوعا بحثيا مهما لخبراء الاقتصاد لفترة طويلة. وفي العام الماضي، فاز «دوجلاس دايموند» و»فيليب ديبفيج» بجائزة نوبل في الاقتصاد عن أبحاثهما في هذا المجال. إذ قدما في عام 1983 نموذجا نظريا يشرح الآلية التي يمكن أن تؤدي بها الشائعات حول البنوك إلى انهيارها في نهاية المطاف. لسوء الحظ، بعد 40 عاما، قدم النظام المصرفي العالمي للتو مثالا صارخا آخر على عدم الاستقرار ذاته الذي حدده «دايموند» و»ديبفيج» في عملهما. يشير التفاعل المعقد بين الاقتصاد العالمي والنظام المالي الدولي إلى أن السياسات التي تهدف إلى حل مشكلة واحدة يمكن أن تكون لها عواقب غير مقصودة مع تأثيرات نظاميه كبيرة.
أدت الضغوط التضخمية الأخيرة بسبب ارتفاع أسعار الطاقة والحرب في أوكرانيا إلى قيام البنوك المركزية برفع أسعار الفائدة لكبح الطلب العالمي ومحاولة خفض التضخم. ومع ذلك، تسبب ارتفاع أسعار الفائدة في انخفاض أسعار الأوراق المالية ذات الدخل الثابت مثل السندات الحكومية. هذه السندات مملوكة لمؤسسات مثل بنك «سيليكون فالي» والتي تسجل بعد ذلك انخفاضا في قيمة جزء كبير من أصولها، ما يحد من قدرتها على جمع التمويل وتلبية طلبات سحب السيولة من البنوك والشركات وحتى الأسر. يمكن أن تنتشر مثل تلك المشكلات بسرعة في جميع أنحاء النظام المالي، وإذا أصابت بنكا كبيرا يمكن أن يتضاعف التأثير بسرعة كبيرة كما شهدنا في الأزمة المالية لعام 2008 ومؤخرا. بالطبع فإن الخطر الذي يتهدد النظام المالي بأكمله من جراء سقوط عدد قليل من البنوك الكبرى أمر معترف به.
المفارقة هي أنه خلال الأزمة المالية العالمية والاضطراب المالي مؤخرا، كان جزء من الحل هو أن تستحوذ البنوك الأكبر حجما على المؤسسات الفاشلة، لكن مثل تلك الاندماجات تعزز المخاطر النظامية عن طريق زرع بذور الأزمات المستقبلية.
وسائل التواصل الاجتماعي
تركت السرعة التي تخارج بها المودعون من بنك «سيليكون فالي»، إذ سحبوا 42 مليار دولار في 24 ساعة، السلطات في مواجهة خطر جديد يتمثل في إفلاس البنوك الذي تقوده وسائل التواصل الاجتماعي.
لقد ولت الأيام التي كان فيها المودعون ينتظمون في صفوف خارج البنوك التي على حافة الهاوية لسحب أموالهم، إذ إنه في العصر الرقمي تكفي بضع نقرات من العملاء على هواتفهم الذكية لحسب أموالهم.
أشارت أيضا تقارير على وسائل التواصل الاجتماعي إلى أن بعض شركات رأس المال المغامر، بما في ذلك «فاوندرز فاند» ذات التأثير والتابعة لرائد الأعمال الشهير «بيتر ثيل»، نصحت الشركات بسحب أموالها من «سيليكون فالي»، ما أدى إلى اضطراب الأسهم وتسبب في مسارعة تخارج العملاء العملاء من البنك. وقال «تود بيكر» الأستاذ الزميل لدى مركز «ريتشموند» في جامعة «كولومبيا» إن حقيقة أن الناس يمكنهم التواصل بسرعة أكبر بكثير… غيرت ديناميكية عمليات تشغيل البنوك وربما غيرت الطريقة التي يمكن أن نفكر فيها بشأن إدارة السيولة». وحذر مدير صندوق التحوط الملياردير «ويليام أكمان» بعد أيام قليلة من انهيار «سيليكون فالي» من أنه لا يوجد بنك في مأمن من تدافع العملاء لسحب أموالهم، ما قد يؤدي إلى الانهيار في عالم تسيطر عليه الحسابات المصرفية الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، ما لم تمنح الحكومة المودعين ضمانا صريحا بالوصول الكامل إلى جميع أموالهم.
تعرف الجهات التنظيمية أنها تكافح في مواجهة احتمال انكشاف عمليات التهافت على سحب الأموال من البنوك بشكل أسرع من أي وقت مضى، على الرغم من أن الكيفية التي يمكنهم بها معالجة مخاطر الذعر الناجم عن أنباء على تويتر مثلا على وجه التحديد غير واضحة.
في الولايات المتحدة، فاجأ قرار التأمين على جميع الودائع المصرفية بعد انهيار بنك «سيليكون فالي» الكثيرين. وقال الخبراء إن القرار يظهر أن السلطات قلقة بما فيه الكفاية بشأن سحب المودعين لأموالهم من بنوك أخرى. وقال «نيكولاس فيرون» الزميل لدى معهد «بيترسون للاقتصاد الدولي» في واشنطن إنه من المحتمل أن تكون المشكلة أن الودائع لم تتحرك بهذه السرعة أبدا، وهو ما شكل الأساس لهذا القرار، أن التدفقات الخارجة من سيليكون فالي» لم يكن هناك مكافئ لها.
تبخر الأموال:- يقلل البعض في الصناعة المصرفية من مخاطر انهيار بنك آخر على غرار «سيليكون فالي» بتحفيز من وسائل التواصل الاجتماعي. يشير الخبراء إلى نقاط ضعف فريدة اتسم بها البنك الأمريكي في تهافت المودعين لسحب أموالهم من البنك بدافع من وسائل التواصل الاجتماعي، نظرا لقاعدة عملائه المركزة للغاية بين رواد الأعمال في قطاع التكنولوجيا ورأس المال المغامر الذين يختلطون ببعضهم في نفس الدوائر. وقال «راندل ليتش» الرئيس التنفيذي لبنك «بينيفشال ستيت» ومقره كاليفورنيا «كان هذا مركزا للتأثير، وكان الأمر شديد التركز في نظام شامل، على العكس من مجالات أخرى»
ومع ذلك فإن بعض المودعين في جميع أنحاء العالم ليس عندهم استعداد للمخاطرة حتى عندما يعتقدون أن بنكهم يتمتع بالمتانة المالية بشكل أساسي. قال أحد المستثمرين في قطاع التكنولوجيا الحيوية الألماني والذي يتعامل مع بنك «كريدي سويس» وتحدث قبل صفقة الإنقاذ التي قدمها «يو.بي.إس» إنه حوّل ودائعه الشخصية إلى مؤسسة أخرى على الرغم من أنه يعتقد أن «كريدي سويس» بنك جيد. وقال إن انهيار «سيليكون فالي» أظهر مدى سرعة تبخر الودائع. في غضون ذلك، أنحى «دان أوري» أستاذ القانون في جامعة كورنيل باللوم في تداعيات انهيار «سيليكون فالي» على غياب استراتيجية للاتصالات في وقت تحتل فيه وسائل التواصل الاجتماعي حيزا معتبرا كمصدر للمعلومات.
وقال إنه كان يجب على الجهات التنظيمية أن تقدم في عطلة نهاية الأسبوع التي سبقت انهيار البنك رسالة قوية للسوق بأن البنك يتسم بنظام عمل فريد من نوعه وأن بقية البنوك ليست في خطر.
وأضاف أن عدم القيام بذلك تسبب في قلق المودعين في أماكن أخرى من أن أموالهم في خطر، ما أدى إلى تفاقم الضغط في النظام المصرفي. وأضاف أنه في تلك الفترة القصيرة هيمن عالم تويتر على ديناميكية المعلومات وسرد ما يحدث في الأزمة.
وقال «جيز محي الدين» الرئيس التنفيذي لشركة «ليزر ديجيتال»، ذراع العملات المشفرة لبنك «نومورا الياباني» إن ملحمة «سيليكون فالي» والتكهنات المستمرة على وسائل التواصل الاجتماعي قد تؤدي في نهاية المطاف لأن تقدم البنوك خدماتها على مدار الساعة بما في ذلك خلال عطلة نهاية الأسبوع.
وتقول «باتريشيا ماكوي» أستاذة القانون في كلية «بوسطن» إن الجهات التنظيمية ستحتاج أيضا إلى متابعة وسائل التواصل الاجتماعي وتطوير مجموعة من البروتوكولات لتوجيه كيفية استجابتها. وقالت إن الجهات التنظيمية بحاجة إلى البحث «عن أي علامات تدل على شائعات لا أساس لها، وبدء تصاعد الذعر على وسائل التواصل الاجتماعي، وعليهم القيام بذلك على مدار الساعة».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى