مقالات اقتصادية

هل نجحت خطة بايدن الاقتصادية؟.. الوقت لم يحن بعد للحكم عليها

كتب أسامة صالح

في ضوء انتعاش الاقتصاد ونمو سوق الوظائف وتراجع التضخم في الولايات المتحدة، يكاد يكون الإجماع تاماً على تبرير سياسات بايدن الاقتصادية “بايدنوميكس” (Bidenomics).

اسمحوا لي أن أعرض وجهة نظر أكثر تشككاً لا تقول بالضرورة إن سياسات الرئيس جو بايدن الاقتصادية قد أخفقت؛ بل إن الوقت لم يحن بعد لوصفها بالسياسات الناجحة.

أُقر بأن الولايات المتحدة تواجه بعض المشكلات الملحة، من بينها تراجع التصنيع، وقصور البنية التحتية، وتغير المناخ، وقضايا الأمن القومي المرتبطة برقائق أشباه الموصلات، وأن “بايدنوميكس” هي محاولة صادقة لمعالجة تلك المشكلات. ما أعترض عليه هو هذا النوع الجديد من السياسة الصناعية المعتمدة على الدعم الحكومي الكبير للاستثمار الخاص؛ حيث إن المحور الرئيسي لـ”بايدنوميكس” هو قانون خفض التضخم الذي أُقر في 2022، الذي قد تتجاوز كلفته نصف تريليون دولار.

ضبابية الجدوى والتقييم

تمكن المشكلة الأكبر في عدم وضوح الجدوى التي ستحققها تلك الاستثمارات حتى الآن، فهي تُموّل من خلال قروض، ليس عبر رفع الضرائب أو تقليص الإنفاق في قطاعات أخرى. يمكن دوماً زيادة الأجور ومعدل التوظيف في الأجل القصير من خلال تمويل استثمارات جديدة بالقروض. السؤال الأهم هو إن كانت تلك الاستثمارات ستحقق نجاحاً في المدى الطويل.

إذا لم تنجح تلك الاستثمارات، فسينقلب هذا الانتعاش إلى انكماش في نهاية المطاف. وعاجلاً أو آجلاً سيتعين على الحكومة الفيدرالية دفع كلفة كل هذا الاقتراض والإنفاق، وسيعني ذلك نوعاً من المزج بين رفع الضرائب وخفض الإنفاق بشكل أكبر. ستضر تلك السياسة المالية الانكماشية الاقتصاد، وتدفعه إلى التخلي عن المكاسب التي يحققها في الفترة الحالية، إما كلياً أو جزئياً، بل وقد تكون المحصلة النهائية لهذه السياسة المالية العكسية سلبية.

في المقابل، إذا نجحت الاستثمارات الجديدة، سيرتفع الناتج المحلي مستقبلاً، ما سيمكّن من خفض الإنفاق العام. يميل أنصار “بايدنوميكس” إلى افتراض هذا السيناريو، لكن أرجحية حدوثه غير مؤكدة. وعلى نفس المنوال، لا يجب أن يفترض المنتقدون أن حدوث السيناريو الأسوأ هو الأرجح بالطبع.

رغم ذلك، فإن نجاح تلك الاستثمارات في المستقبل يخفي سؤالاً أهم عن استثمارات “بايدنوميكس”؛ هل هي استثمارات متعقلة وحكيمة؟ أو بصيغة أخرى، ما الطريقة الصحيحة لتقييمها؟

زيادة الطاقة الخضراء

رغم ما سبق، فإجماع الآراء العلمية هو من يقول بأن العالم يحتاج إلى مزيد من الطاقة الخضراء. عن نفسي، كنت لأصيغها باختلاف طفيف: إن ما يحتاجه العالم هو خفض انبعاثات الكربون، فليس من الصعب تخيل سيناريو تنتج فيه الولايات المتحدة مزيداً من الطاقة الخضراء، وفي نفس الوقت تُزيد صادرات النفط والغاز الطبيعي، مما سيحفز الطلب العالمي الأوسع نطاقاً على الطاقة غير الخضراء.

إن زيادة اعتماد الولايات المتحدة على الطاقة النظيفة لا تكفي. فيجب أن يكون الهدف هو تطوير تقنيات جديدة تكلفتها أقل بما يكفي لجعل معظم دول العالم راغبة في زيادة استخدام الطاقة النظيفة أيضاً. وربما يحدث ذلك عبر “بايدنوميكس”، وإن تعذر الجزم بذلك.

يجب أن يتناول أي حل يُطرح لتغير المناخ، في المستقبل، الصين، وبدرجة ما الهند وأفريقيا أيضاً. كان النهج المختلف يتمثل في دعم تقنيات الطاقة النظيفة الأقل تكلفة ما يسمح بتبنيها عالمياً، لكن “بايدنوميكس” لم تقم بذلك.

أحد أوجه الدفاع عن النطاق العالمي المحدود لـ”بايدنوميكس” أن أقصى آمال الولايات المتحدة هي “العناية بشعبها”. ربما يكون ذلك صحيحاً، لكنه لن يغير الواقع القائم. إذا لم تؤدِ الاستثمارات الجديدة إلى عالم أكثر مراعاة للبيئة بشكل ملموس، فقد أخفقت. وفي قضية بهذه الجسامة، النتائج هي الفيصل.

هناك نتيجة محتملة أخرى أكثر تفاؤلاً؛ وهي أن تتجه بقية دول العالم إلى استخدام الطاقة الخضراء الأقل تكلفة دون احتياج الدعم من “بايدنوميكس”. رغم ذلك، في هذه الحالة، سيظل تبرير استثمارات “بايدنوميكس” في الطاقة الخضراء أمراً صعباً. لماذا لم تكتف الولايات المتحدة باستعارة التقنيات الأقل تكلفة من بقية دول العالم فحسب؟

السيناريو الأشد إيجابية لـ”بايدنوميكس” هو أن تؤدي الاستثمارات الأميركية، من خلال الابتكار السريع وانخفاض منحنيات التعلم، إلى مصادر طاقة خضراء أقل تكلفة ما كانت لتتحقق من دونها. مرة أخرى، هذا ممكن بالتأكيد. ومجدداً، يصعب التأكد من أن تكون تلك النتيجة هي الأرجح حدوثاً.

إنفاق مكلف

وهناك سمة ملحوظة أخرى لـ”بايدنوميكس”؛ أنها تميل إلى التأكيد على إنفاق مبلغ أكبر للحصول على مزيد من شيء ما، عوضاً عن خفض التكاليف. فالدعم الذي تقدمه للطاقة الخضراء -على سبيل المثال- سيرتفع كثيراً إذا استثمرت الشركات أيضاً في مشروعات الطاقة الخضراء التي تقدم أجوراً أعلى. وبذلك، فإنها تفضل الصور الأعلى تكلفة من الطاقة الخضراء على نظيراتها الأقل كلفة. يزيد ذلك من الشكوك إزاء ما إذا كانت “بايدنوميكس” ستشجع الطاقة الخضراء على الصعيد العالمي، حيث لا يمكن لمعظم الدول تحمل تكلفة نفس التقنيات المُكلفة مثل الولايات المتحدة.

مسألة مستحيلة سياسياً

يثير التأكيد على الوظائف سؤالاً آخر: هل تسعى “بايدنوميكس” إلى القيام بما هو أكثر من اللازم؟ داني رودريك، الخبير الاقتصادي بجامعة هارفارد والخبير البارز في السياسة الصناعية، يرى أن السياسة الصناعية الناجحة يجب توجيهها إلى تحقيق هدف واحد، وقال لصحيفة “فاينانشيال تايمز” في الشهر الماضي: “كلما زاد عدد الأهداف التي تحاول تحقيقها، قلت احتمالات بلوغها”. وأكد إيزرا كلاين وجهة نظر مشابهة في جريدة “نيويورك تايمز”، منتقداً ما وصفه بأنه “نهج شامل” للسياسة الداخلية.

جدير بالذكر أن على صعيد المناخ، تختلف “بايدنوميكس” تماماً عن ضريبة الكربون، التي يظهر البحث أنها ستجعل السياسة الصناعية المراعية للمناخ أكثر نجاحاً، وأكثر أماناً من الناحية المالية. إحقاقاً للحق، فضريبة الكربون كانت -وماتزال- مسألة مستحيلة سياسياً. رغم ذلك، من المهم التمييز بين سؤالين مختلفين؛ هما “هل ستنجح السياسة؟” و”هل فعلنا كل ما بوسعنا؟”. لسوء الحظ، فالإجابة بنعم على السؤال الثاني لا تقدم إجابة حاسمة عن السؤال الأول.

عقبات أمام صناعة الرقائق

لا تقتصر “بايدنوميكس” قانون خفض التضخم. فقانون الرقائق والعلوم بتكلفة 52 مليار دولار يهدف إلى تأسيس صناعة أشباه موصلات محلية في الولايات المتحدة، وتقليل اعتمادها على تايوان وكوريا الجنوبية، الدولتان المهيمنتان على الإنتاج حالياً.

رغم صحة المنطق، فالتنفيذ لا يتوافق مع الرؤية. تباطأت إدارة بايدن في تقديم المنح، كما تعرقلت عملية التخطيط بسبب مشكلات استغلال الأراضي وإصدار التراخيص والتقييمات البيئية. كما أن هناك نقص في العمالة الأميركية الماهرة، وقد تتردد الشركات أيضاً في تقديم تعهدات، نظراً لصعوبة توقع مستقبل الدعم والبيئة التنظيمية. وقد تمر سنوات عديدة قبل أن تنتج الولايات المتحدة رقائق عالية الجودة محلياً.

كان هناك بعض الحراك داخل الكونغرس بهدف إصلاح إجراءات الترخيص، لتذليل واحدة من العقبات الكثيرة أمام إنتاج الرقائق، فضلاً عن الطاقة الخضراء. وإقراراً بمجهودها، أيّدت إدارة بايدن نسخة من إصلاح إجراءات الترخيص، لكن ذلك لم يجعل منها أولوية.

ووفقاً للوضع الراهن، يمكن بناء مصنع للرقائق في تايوان أو اليابان في فترة أقصر وبتكلفة أقل عن الولايات المتحدة. فقد افتتحت الشركة الرائدة في صناعة الرقائق “تايوان سيميكوندوكتور مانوفاكتشورينغ” في الآونة الأخيرة أول مصنع لها في اليابان الشهر الماضي، وتخطط لبناء مصنع آخر.

المشكلة الجوهرية هنا تكمن في أن قانون الرقائق والعلوم مثل قانون خفض التضخم و”بايدنوميكس” بشكل عام، ينطوي على نفقات كثيرة، لكن قدراً ضئيلاً من رفع القيود التنظيمية.

العقبات أمام تشييد مزيد من مصانع الرقائق ليست مالية بقدر أنها بيروقراطية. مرة أخرى، المسألة متعلقة بالأولويات. ما الأهم: ضمان استقلالية الولايات المتحدة في تصنيع الرقائق عالية الجودة؟ أم تطبيق وتشديد المعايير العمالية والبيئية؟ يتعين على الولايات المتحدة الاختيار، لكن حكومتها لا ترغب في ذلك حتى الآن.

شطب الديون الطلابية

ما السياسات الأخرى التي تُعد ضمن “بايدنوميكس”؟ لخّص بول كروغمان في الآونة الأخيرة “بايدنوميكس” بهذه الصيغة: “هي تحسينات كبرى على (أوباما كير)، وشطب الديون الطلابية، والإنفاق الضخم على البنية التحتية، والترويج واسع النطاق لأشباه الموصلات والطاقة الخضراء، واللذين أديا إلى ارتفاع في الاستثمار الصناعي”.

التغييرات التي أُ.جريت على “أوباما كير” (برنامج الرعاية الصحية) موضوع منفصل في الأغلب. لكن الجهود التي تبذلها إدارة بايدن بشأن شطب الديون الطلابية فاجأتني باتخاذها رمزاً لـ”بايدنوميكس” بوجه أعم.

قوبل القليل من الإجراءات المهمة بهذا القدر من اعتراض المحللين الاقتصاديين، ومِن بينهم مَن يميلون للحزب الديمقراطي، الذي لاقته الخطة الأساسية للإدارة، حيث قاربت كلفتها 430 مليار دولار، وستوجه المنافع إلى الحاصلين على قدر من التعليم الجامعي، وهي مجموعة لديها تطلعات اقتصادية أعلى من المتوسط، رغم استبعاد الأشخاص الأعلى دخلاً من برنامج شطب الديون.

ولحسن الحظ، أبطلت المحكمة هذه الخطة. ورغم ذلك واصلتها الإدارة في صورة أصغر بكثير. ومع ذلك، وفرت التجربة معلومات قيّمة. عندما تصرفت إدارة بايدن من تلقاء نفسها، دون توجيه من الكونغرس -بخلاف من قطاعات أخرى في “بايدنوميكس” أُقرت خطة شطب الديون من خلال أمر تنفيذي- فقد أتت بخطة رجعية وباهظة التكلفة في نفس الوقت.

لا يجب عليّ قول ذلك، لكنني سأفعل: يجب أن يأمل الأميركيون أن تحقق استثمارات “بايدنوميكس” النتائج المرجوة، والإصرار على عدم نجاحها هي فكرة متزمتة بحد ذاتها. لكن التقييم النهائي لم يصدر بعد، وسيظل كذلك لبعض الوقت. فما أبعدنا عن موعد إعلان الانتصار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى