اقتصاد دولي

الاقتصاد الروسي يواصل تحدي التوقعات السلبية ويتحسن

مع أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا يواجه منافسة حقيقية في الانتخابات الروسية التي ستجرى في الـ15 من مارس (آذار) الجاري، إلا أن البيانات الاقتصادية التي ستصدر قبل الانتخابات بيومين (يوم 13 من الشهر) كانت كفيلة بفوزه على أي منافس، فبعد نحو عامين من الحرب في أوكرانيا وسلسلة العقوبات الاقتصادية المتتالية على موسكو، يتحدى الاقتصاد الروسي كل التوقعات السلبية، بل ويتمتع بأداء جيد مقارنة باقتصادات أخرى.

بداية، لم يحدث الانهيار الاقتصادي السريع الذي توقعه المسؤولون والمحللون في الغرب في ربيع عام 2022، ومع أن الاقتصاد الروسي دخل في مرحلة ركود، إلا أنه لم يكن ركوداً عميقاً كما كان متوقعاً ولم يستمر طويلاً. وبحسب تقرير لمجلة “إيكونوميست” فإن أكثر عامل كان يشكل خطورة هو التضخم، الذي ارتفع العام الماضي بصورة كبيرة حتى إن بعض الاقتصاديين توقعوا أن يخرج ارتفاع معدلات التضخم عن السيطرة ويهوي بالوضع الاقتصادي. وكان الرئيس الروسي نفسه حث المسؤولين في فبراير (شباط) الماضي على أن يولوا “اهتماماً خاصاً” لارتفاع الأسعار.

لكن الاقتصاد الروسي يحبط المتشائمين مجدداً ويثبت أنه على المسار الصحيح إلى حد كبير، إذ يتوقع أن تظهر الأرقام الرسمية التي ستعلن الأربعاء المقبل من موسكو تراجعاً كبيراً في ارتفاع معدلات التضخم. وكان ارتفاع التضخم العام الماضي نتيجة حزم إنفاق حكومي وتحفيز اقتصادي أكبر حتى من تلك التي قدمها الكرملين خلال أزمة وباء كورونا.

كبح جماح التضخم

زاد الكرملين الإنفاق العام على كل جوانب الاقتصاد العام الماضي بصورة كبيرة، من الإنفاق على معدات النقل والمواصلات إلى الأسلحة وزيادة الأجور وفي مقدمها رواتب الجنود. وارتفع الإنفاق الحكومي العام الماضي بنسبة ثمانية في المئة، مما زاد بقوة من الطلب على السلع والخدمات بالقدر الذي تجاوز قدرة الاقتصاد على توفير العرض الذي يلبي الطلب المتزايد فارتفعت الأسعار. بحلول أكتوبر (تشرين الأول) العام الماضي كانت الأجور تزيد بمعدل نسبة 18 في المئة، مقابل نسبة 11 في المئة عند بداية العام، وكل ذلك أدى إلى تسارع ارتفاع معدلات التضخم.

أما الآن، فلم يزد معدل ارتفاع الأسعار لفبراير الماضي على نسبة 0.6 في المئة مقارنة بيناير (كانون الثاني)، وذلك مقابل الزيادة بمعدل شهري بنسبة 1.1 في المئة قبل شهرين. أما بالنسبة إلى المعدل السنوي، فيبدو أن التضخم في روسيا لم يعد يرتفع، بعدما وصل إلى نسبة 7.5 في المئة في نوفمبر (تشرين الثاني) العام الماضي، ويتوقع الآن أن ينخفض معدل التضخم السنوي إلى نسبة أربعة في المئة خلال وقت قريب، كما أن توقعات المستهلكين الروس لارتفاع الأسعار تراجعت تماماً.

هناك عوامل أسهمت في ضبط ارتفاع معدلات التضخم، وفي تحسن أداء الاقتصاد الروسي بصورة عامة، وتتنازع وزارة المالية الروسية والبنك المركزي الفضل في كبح جماح التضخم. وترى وزارة المالية أن نجاحها في فرض قيود سعر الصرف العام الماضي، التي ألزمت المصدرين بإيداع العملة الأجنبية في النظام المالي الروسي، كان عاملاً مهماً، إذ إن تلك الإيداعات دعمت العملة الروسية، الروبل، التي ارتفعت قيمتها في الأشهر الأخيرة مما أدى إلى خفض فاتورة الاستيراد.

أما البنك المركزي الروسي فيرى أن استخدامه أدوات السياسة النقدية كان العامل الأهم في كبح جماح معدلات التضخم، ومنذ يوليو (تموز) الماضي، ضاعف البنك المركزي سعر الفائدة ليصل إلى نسبة 16 في المئة الشهر الماضي. وأدى ارتفاع أسعار الفائدة إلى توجه الأسر الروسية نحو الادخار بدلاً من الإنفاق الاستهلاكي، كما أن تشديد السياسة النقدية أدى إلى خفض الإقراض، ففي ديسمبر (كانون الأول) الماضي لم يحقق إقراض التجزئة نمواً بمعدل شهري سوى بنسبة 0.6 في المئة، مقابل نموه بمعدل شهري خلال عام 2023 بنسبة اثنين في المئة تقريباً.

أداء اقتصادي جيد

يبدو أداء الاقتصاد الروسي حالياً بصورة عامة متسقاً مع أدائه ما قبل الحرب في أوكرانيا، وأصبح احتمال الركود بعيداً والأرجح أن يكون الاقتصاد في وضع تباطؤ عادي، مثله مثل غالب الاقتصادات المماثلة. في العام الماضي كان نمو الناتج المحلي الإجمالي الروسي بنسبة ثلاثة في المئة، وتبدو التقديرات بنمو الناتج المحلي الإجمالي الروسي هذا العام بنسبة 1.7 في المئة متشائمة إلى حد كبير في ضوء الأداء الحالي، إذ يمكن أن يكون النمو بنسبة أكبر.

كذلك كانت نسبة البطالة العام الماضي في أدنى مستوياتها، وإن كان البعض يرجع ذلك إلى عدد من يجندون للقتال في أوكرانيا ممن هم في سن العمل، وأيضاً فرار البعض خارج البلاد. ومع النشاط الاقتصادي الجيد تتوفر فرص العمل في ظل عدم نمو القوة العاملة بالقدر نفسه.

من مؤشرات الأداء الاقتصادي الجيد أيضاً أنه، بحسب تقرير المجلة، لا توجد أدلة على تعثر الشركات، بل على العكس انخفض معدل إغلاق الأعمال والشركات تخيراً إلى أدنى مستوى له في ثماني سنوات، وتنتظر البورصة الروسية أكثر من 20 عملية طرح أولي للأسهم هذا العام 2024، مقابل تسعة فقط العام الماضي، مما أسهم في صمود الاقتصاد الروسي بل وتحسن أداؤه على رغم الحرب والعقوبات وحزم التحفيز السابقة، فعلى مدى سنوات راكمت الأسر والأعمال والشركات الروسية كميات كبيرة من الأموال جعلت حساباتها إيجابية جداً مما ساعدها على مواجهة ارتفاع معدلات التضخم، من دون تضرر كبير وتفادي الإفلاس في ظل ارتفاع كلفة الاقتراض نتيجة الزيادة في أسعار الفائدة.

العامل الثاني المهم هو قدرة روسيا في الالتفاف على العقوبات غير المسبوقة التي فرضها الغرب عليها منذ بدأت الحرب في أوكرانيا، حتى المصانع والأعمال التي كانت تمل الشركات الغربية في روسيا وخرجت منها عادت الآن إلى العمل في ظل إدارات جديدة، كما أشار أحدث تقرير للبنك المركزي الروسي.

في بداية فرض العقوبات أصبح من الصعب على الشركات الروسية استيراد مدخلات الإنتاج، مما أدى إلى تأخر الإنتاج أحياناً، لكن الشركات والأعمال الروسية تمكنت من تكوين شبكة سلاسل إمداد يعتمد عليها مع عدد من “الدول الصديقة”، فمثلاً يجرى استيراد نحو نصف الواردات الروسية حالياً من الصين، وهي نسبة ضعف ما كان عليه الاستيراد من الصين قبل حرب أوكرانيا.

مع ترسيخ الشراكات التجارية الجديدة التي مكنت موسكو من الالتفاف على العقوبات وتجاوز تأثيرها السلبي الكبير، أصبح بإمكان المصدرين الروس رفع أسعار ومن ثم زيادة العائدات والأرباح. على سبيل المثال، في البداية كانت روسيا تبيع النفط للصين بخصم يصل إلى نسبة 10 في المئة عن السعر القياسي للخام وذلك مطلع عام 2022، أما الآن فنسبة الخصم على سعر النفط الروسي للصين في حدود خمسة في المئة فقط، ولا يقتصر ذلك على النفط، بل على غالب الصادرات الروسية للصين وغيرها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى