مختارات اقتصادية

اقتصاد روسيا صامد في وجه العقوبات لكن المستقبل تكتنفه الضبابية

لم يمض وقت طويل على غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير 2022، حتى تساقط وابل من العقوبات الغربية على موسكو أغلبه قيود اقتصادية مصممة لعرقلة تعاملات روسيا ومواطنيها مع السوق العالمية.
العقوبات هي الأشد والأكثر شمولا منذ ما يقرب من قرن. وكان قطع روابط روسيا مع النظام المالي العالمي، في ظل اقتصاد مُعولم، يُعتقد أنه الخطوة الأخيرة في اللعبة، إذ كيف يمكن لدولة تعتمد على بيع النفط والغاز إلى الخارج أن تتعافى من ذلك.
لكن بعد عام، ما زالت القوات الروسية في أوكرانيا، والمثير للدهشة حقيقة أن الاقتصاد الروسي صمد أمام عقوبات الحرب بشكل أفضل بكثير مما توقعه أي شخص.
كانت التوقعات الصادرة بعد وقت قصير من إرسال موسكو قواتها لأوكرانيا قبل عام أشارت إلى أن الاقتصاد قد ينكمش بما يتراوح بين 10-15% في عام 2022، متجاوزا فترات الركود التي حدثت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وأثناء الأزمة المالية العالمية عام 1998، لكن التقدير الأولي لوكالة الإحصاء الروسية «روس ستات» يظهر انكماشا أكثر اعتدالا بكثير عند 2.1%.
أثبت الاقتصاد مرونة غير متوقعة في مواجهة العقوبات الغربية القاسية. وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للنخبة السياسية والعسكرية والتجارية في روسيا قبل أسبوع «لقد أثبت الاقتصاد ونظام الحوكمة الروسي أنهما أقوى بكثير مما كان يفترض الغرب… حساباتهم (الغرب) لم تتحقق».
فيم أخطأ الخبراء أو بعبارة أخرى كيف برهن الاقتصاد الروسي على صلابته في مواجهة هذه العقوبات الضخمة.
روسيا والاستعداد لسنوات من العقوبات
منذ عام 2014، عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم وواجهت الجولة الأولى من القيود الاقتصادية بدأت تحصن اقتصادها ضد العقوبات وفقا لما قاله «ليام بيتش» خبير اقتصادي أول لدى «كابيتال ايكونوميكس».
شمل ذلك قيام الشركات والبنوك بتقليص الديون الخارجية وبالتالي تقليل اعتمادها على التمويل الغربي.
وانخفض إجمالي الدين الخارجي لروسيا من 41% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2016 إلى 27% في عام 2021.
في موازاة ذلك، راكمت روسيا احتياطيات النقد الأجنبي، لتجمع ما يزيد على 600 مليار دولار من الذهب والدولار الأمريكي والعملات الأخرى، أغلبها من صادرات النفط والغاز. في عام 2014 أيضا، بدأت روسيا في تطوير بديل لشبكة «سويفت» العالمية التي تدعم المعاملات المالية الدولية.
أطلقت روسيا اسما جذابا على استراتيجيتها «حصن روسيا». لكن المحللين توقعوا في مارس 2022 عدم كفاية كل مساعي التحصين من العقوبات. وتوقع أحد مديري الأصول لمجلة الإيكونوميست أن يتحول «حصن روسيا» إلى حطام روسيا في أسبوع، لكن من الواضح أن هذا لم يحدث.
كيف تكيفت التجارة الروسية مع العقوبات؟
ساعد ارتفاع صادرات روسيا من الطاقة على التخفيف من وطأة العقوبات التي كانت تهدف لعزل روسيا اقتصاديا، في حين أدت ضوابط رأس المال إلى تعزيز الروبل لأعلى مستوى في سبع سنوات.
وأدى تراجع الواردات إلى تحقيق فائض قياسي في ميزان المعاملات الجارية. وحافظ البنك المركزي الروسي أيضا بقيادة «إلفيرا نابيولينا» على سيطرته على مقدرات الاقتصاد على الرغم من أنه فقد إمكانية الوصول إلى ما يقرب من 300 مليار دولار من الاحتياطيات الدولية. في الأسابيع القليلة الأولى من العقوبات، شعر المستهلكون الروس بضغوط شديدة بسبب حرمانهم فجأة من الواردات.
في أوائل مارس 2022، ذهب «أليكس سوفالكو» الباحث في الدراسات الثقافية بجامعة موسكو إلى متجر «أيكيا» الشهير للأثاث لشراء ثلاجة ومستلزمات أخرى لشقته الجديدة، ليجد أن المتسوقين أخذوا كل ما يستطيعون. قال «سوفالكو» في ذلك الوقت «كان عليَّ أن أقود سيارتي إلى أيكيا في نيجيني نوفغورد، التي تبعد حوالي 450 كيلومترا لشراء هذه الأشياء». وكان محظوظا، إذ إنه في اليوم التالي، أعلنت «أيكيا» أنها ستغلق متاجرها ومصانعها في موسكو ولحقت بها مئات الشركات والمؤسسات الغربية في غضون أسابيع وأشهر
ولكن سرعان ما أعادت روسيا توجيه اقتصادها، واستوردت السلع الاستهلاكية في الغالب من أو عبر الصين وقازاخستان وتركيا. وقال «بيتش» من «كابيتال إيكونوميكس» إن روسيا ما زالت تجد بعض الصعوبة في استيراد بعض السلع عالية التقنية وهذا على سبيل المثال يفسر لماذا قل إنتاج روسيا من السيارات بنسبة 60% في عام 2022 مقارنة مع العام السابق.
وقال «بيتش» إن هذا يرجع لاعتماد قطاع السيارات على قطع غيار مستوردة، يأتي الكثير منها من ألمانيا، وعلى أشباه موصلات مستوردة أيضا. لكنه أشار إلى أن صناعة السيارات تشكل 0.3% فقط من إنتاج روسيا ولم يترك ضعفها سوى أثر ضئيل في الاقتصاد.
عملية تنظيم كبرى لقطاع الطاقة:- بدأت روسيا أيضا عملية تنظيم كبرى أخرى في قطاع صادرات الطاقة، شريان الحياة للاقتصاد، عن طريق البحث عن أسواق جديدة في آسيا
ونظرا لأن الغرب، وأوروبا على وجه الخصوص، حاول فرض عقوبات على النفط والغاز الروسي والإقلاع عن استهلاكه، وجدت موسكو مشتريين كبيرين آخرين هما الصين والهند. وبالفعل خفضت روسيا أسعار بيعها للهيدروكربون، لكن أسعار تلك السلع الأولية ارتفعت خلال معظم عام 2022، ما جلب لروسيا مكاسب غير متوقعة. كما لم تستطع أوروبا فطم نفسها عن الغاز الروسي بشكل كامل. ففي الربع الثالث من العام الماضي، ظل الوقود الروسي يشكل ما يصل إلى 15% من إجمالي واردات الاتحاد الأوروبي من الطاقة.
وارتفعت مساهمة إيرادات النفط والغاز في ميزانية روسيا 28% في 2022. وخلال العام، بلغ فائض ميزان المعاملات الجارية لروسيا، الفارق بين الأموال المتدفقة إلى البلاد والنازحة منها، رقما قياسيا عند 227 مليار دولار. وعلى الرغم من العقوبات والإنفاق العسكري، باتت روسيا متخمة بالمال.
كيف أنقذ البنك المركزي البلاد من الانهيار؟
لتجنب الركود، خفض البنك المركزي الروسي أسعار الفائدة بشكل متكرر العام الماضي مما أطلق موجة من السيولة في النظام المالي. وقال «بيتش» إن هذا ساعد على تجنب الانهيار المصرفي. وأضاف «معظم الخسائر التي تكبدتها البنوك الروسية العام الماضي كانت بسبب إلغاء عقود بعد أن تم فصلها عن شبكة سويفت… لم تتكبد خسائر بسبب القروض المتعثرة على الإطلاق».
على عكس الولايات المتحدة، لم يكن على مسؤولي البنك المركزي أن يقلقوا كثيرا بشأن التضخم الذي يغذيه الاستهلاك. قال «بيتش» إن الأسر الروسية «كانت غير مستعدة للإنفاق، كانوا يدخرون لأن الحرب هي وقت عدم اليقين». ولكن للحفاظ على الاقتصاد، عززت الحكومة إنفاقها. وقدر الخبير الاقتصادي الروسي المخضرم «أوليج فيوجين» أن الانفاق الإضافي للدولة في 2022 بلغ نحو 4% من الناتج المحلي الإجمالي أو ما يقرب من 73 مليار دولار.
تكلفة مرتفعة:- لكن المحللين مع ذلك يرون أن روسيا دفعت تكلفة مرتفعة وطويلة الأمد مقابل ما تسميه «عمليتها العسكرية الخاصة» في أوكرانيا. إذ إنه قبل بدء الصراع، توقعت الحكومة نموا اقتصاديا بنسبة ثلاثة بالمئة العام الماضي.
قال «جريجوري جيرنوف» المحلل في قناة «ماي انفستمنتس» على «تليجرام» إن حقيقة «مفاجأة الاقتصاد للجميع في العام الماضي بالتأكيد عامل إيجابي، ومع ذلك، فمن الأفضل مقارنة الديناميكية بالنسبة لما سيكون عليه الوضع لو استمر الاتجاه السابق».
ويقول «جيرنوف» إن الاقتصاد لن يستعيد حجمه المسجل في 2021 حتى عام 2025. ويضيف «مستوى الناتج المحلي الإجمالي الذي كان من الممكن تحقيقه في غياب أزمة العام الماضي لن يتم الوصول إليه في السنوات العشر المقبلة». تتجنب موسكو أيضا الدخول بشكل متزايد إلى الأسواق الغربية التي ساعدت على تحفيز نموها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتتحول إلى الداخل.
وقال بوتين إن مسعى تجنب استخدام الدولار ساعد على أن يضاعف الروبل حصته في التسويات الدولية لروسيا. في غضون ذلك، تبحث البنوك عن سبل لإنعاش أرباحها محليا.
طلب بوتين من نخبة من رجال الأعمال الاستثمار في روسيا. كما دعا إلى التنمية المحلية المستدامة والاقتصاد القائم على الاكتفاء الذاتي، مستذكرا الانتقادات التي كانت توجه لقادة الاتحاد السوفييتي السابق الذين كانوا يركزون على الإنفاق العسكري ويتجاهلون رفاهية المواطن.
وقال بوتين: «هناك قول مأثور: البنادق لا الزبدة. الدفاع عن البلاد بالطبع أهم الأولويات، ولكن عند حل المهام الاستراتيجية، يجب ألا نكرر أخطاء الماضي، لا يجب أن ندمر اقتصادنا».
لكن روسيا تكثف الإنفاق العسكري، وسيؤدي تحويل الأموال من المستشفيات والمدارس في النهاية إلى إعاقة تطوير البنية التحتية الاقتصادية المدنية.
أدى ارتفاع الإنفاق وتراجع الإيرادات إلى تسجيل عجز قدره 25 مليار دولار في الميزانية في يناير الماضي، بينما انخفض فائض الحساب الجاري بأكثر من النصف عن مستواه في نفس الشهر من العام السابق.
ماذا سيحدث في 2023؟
يقول خبير «كابيتال إيكونوميكس» إنه في عام 2023 سيبدأ الإنفاق الحكومي في إذكاء التضخم، ومن المرجح أن يبدأ المستهلكون في الإنفاق مرة أخرى، مضيفا أنه من المرجح أن يبدأ البنك المركزي رفع أسعار الفائدة في أبريل. انخفضت أسعار النفط والغاز كثيرا، كما أدى الشتاء الأوروبي المعتدل نسبيا في أوروبا إلى تقييد عائدات الطاقة الروسية. وقال بيتش «بدأنا نشهد نقصا في العمالة، لأن الكثير من الناس غادروا روسيا أو تم حشدهم للمشاركة في الحرب في سبتمبر الماضي».
أظهرت إحدى الدراسات التي نُشرت في نوفمبر الماضي أن ثلث القطاع الصناعي الروسي يخاطر بفقدان العاملين فيه.
وقال بيتش «ما نتوقعه لروسيا على المدى المتوسط، هو أن آفاق النمو تتعرض للاختناق… سيصبح اقتصادها أقل كفاءة بكثير، ويتسم بتضخم مرتفع، وسيكون بطيئا في النمو».
يقول «فيوجين» في تقريره إن أرباح النفط والغاز ستنخفض بدرجة كبيرة لدرجة أن الحكومة ستضطر إلى الاقتراض لتمويل عجز الميزانية. وعادة ما تساعد أسعار النفط المرتفعة في رفد صندوق الثروة الوطني الذي يستخدم في الحالات الطارئة بالأموال، لكن مع تعرض صادرات روسيا من النفط والغاز للحظر وفرض سقف على أسعارها، تبيع روسيا حاليا اليوان الصيني من صندوق الثروة السيادي الوطني لتغطية العجز.
وبينما تعهدت وزارة المالية بأن العجز لن يخرج عن نطاق السيطرة، فإن السحب من الصندوق يخاطر بتقليص قدرة موسكو على الإنفاق مستقبلا ويغذي مخاطر التضخم.
كما يحذر البنك المركزي، الذي يتسم تحليله لوضع الاقتصاد الروسي بنظرة أكثر تشاؤما من بوتين، من أن عجز الميزانية الآخذ في الاتساع تضخمي وقال إنه من المرجح أن يرفع أسعار الفائدة من 7.5% هذا العام بدلا من خفضها. وقال «فيوجين» في تقرير كتبه في فبراير إن الوصول إلى هدف عائدات النفط والغاز لهذا العام يبدو إشكاليا بشكل متزايد خاصة مع انخفاض أسعار مزيج نفط الأورال الروسي. من أجل تحقيق خطط الميزانية، سيتعين على روسيا مضاعفة إنفاقها المخطط له من صندوق الثروة الوطني، مما قد يؤدي إلى ارتفاع التضخم الأمر الذي قد يجبر البنك المركزي على زيادة تكاليف الاقتراض. وكتب «فيوجين» أن تطبيق مثل هذه الميزانية هو الطريق إلى التآكل التدريجي للاستقرار المالي والمزيد من التدهور في الأجر الحقيقي للسكان.
وتقلص الدخل الحقيقي المتاح للإنفاق 2% في العام الماضي مما دفع الروس إلى الادخار أكثر والإنفاق أقل. وتراجعت مبيعات التجزئة 6.7%. وقالت «ألكسندرا بروكوبينكو» المحللة المستقلة والمستشارة السابقة للبنك المركزي إن ميل الروس الأقوى للادخار مؤشر على عدم اليقين الاقتصادي.
لكنها قالت إن القيادة المالية لروسيا أصبحت معتادة على تجاوز الأزمات. وتولى مسؤولون مشابهون المسؤولية منذ الأزمة المالية العالمية في 2008، وقادوا البلاد خلال علاقات متدهورة مع الغرب.
وقالت «يمكننا أن نقول على وجه اليقين إن الصورة ليست بالأبيض ولا بالأسود. يمكن لبوتين أن يفخر بحصن روسيا الذي بنته قيادته المالية له.. لكنها بنيت بتكلفة مرتفعة».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى