اقتصاد دولي

ماذا يحدث في أكبر اقتصاد بالعالم؟

مع أن الحكومة الفيدرالية الأميركية تفادت كارثة التخلف عن سداد التزاماتها (الإفلاس) بالاتفاق على صفقة رفع سقف الاقتراض العام، فإن الشركات والأسر الأميركية ما زالت تواجه أزمة اقتراض ممتدة تهدد بمزيد من إفلاس الشركات وتعثر الأسر في الوفاء بالتزاماتها.
في تحليل موسع لمجموعة هائلة من البيانات والأرقام والمعلومات من الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) الأميركي وعدد من المؤسسات وشركات الأبحاث الاقتصادية والمالية أعدته صحيفة «وول ستريت جورنال» تبدو صورة سوق الإقراض والائتمان للشركات وملايين الأميركيين أكثر قتامة. ويتعرض سوق الديون، سواء الإقراض من البنوك أو عبر بيع سندات الشركات، أو من مؤسسات الإقراض الأخرى غير البنوك كالصناديق وغيرها لضغط هائل حالياً.
وعلى رغم أن أسواق الأسهم تظل مرتفعة حتى مع ارتفاع أسعار الفائدة الأساسية، فإن أسواق الإقراض والدين ترزح تحت عبء ارتفاع أسعار الفائدة. وبحسب تحليل الصحيفة للأرقام والبيانات وصلت ظروف الإقراض والائتمان للشركات والأفراد والمطورين العقاريين في الولايات المتحدة هذا الربيع إلى أصعب وضع لها منذ أزمة وباء كورونا.
ويلاحظ من الرسوم البيانية أن انسياب رؤوس الأموال إلى سوق «وول ستريت» بنيويورك تباطأ في الشتاء، لكن مع أزمة انهيارات البنوك الأخيرة أصبح الوضع أكثر صعوبة وتشديداً، وحتى مع تفادي أزمة سقف الدين العام للحكومة الفيدرالية تظل سوق السندات في وضع شديد الصعوبة.
أسعار الفائدة:- يعد العامل الأساسي في أزمة سوق الدين والإقراض هو ارتفاع نسبة الفائدة مع بدء الاحتياطي الفيدرالي قبل نحو عام رفع سعر الفائدة لكبح جماح معدلات التضخم القياسية. وهكذا أصبح سوق الائتمان يعاني نقص الأموال المتاحة لإقراض الشركات والأفراد بغرض التوسع في التوظيف وتنفيذ المخططات ودفع الفواتير.
كل ذلك على رغم المؤشرات الإيجابية، حيث كان الأغلبية يتوقعون ركود الاقتصاد، لكنه لم يحدث، كما أن أرقام وبيانات سوق العمل الجيدة تجعل الأسواق تستنج أن الاقتصاد في وضع جيد.
إلا أنه، بحسب «وول ستريت جورنال»، لا يمكن تجاهل أجراس الإنذار التي تدق في سوق الدين، الذي تتم فيه عملية نقل الأموال من البنوك ومؤسسات الإقراض إلى الشركات والأفراد الذين يحتاجون لاقتراضها.
المثال الأكثر وضوحاً على ذلك هو التضييق الائتماني الشديد الذي يعانيه قطاع العقارات التجارية والإدارية حالياً، ويعتبر البعض ذلك مؤشراً سلبياً على وضع الاقتصاد الأميركي بشكل عام، فعلى مدى الـ 30 عاماً الأخيرة غالباً ما يأتي الركود الاقتصادي في أعقاب تردد البنوك ومؤسسات المال الأخرى في إقراض الأموال التي يجمعونها من المدخرين والمستثمرين.
بحسب مسح أخير استطلع فيه أكبر مسؤول عن القروض في الاحتياطي الفيدرالي آراء المعنيين، رفعت المصارف ومؤسسات الإقراض الفائدة على القروض التي تقدمها للمستهلكين والشركات ومطوري العقارات التجارية والإدارية بقوة.
كما يطالب المقرضون المقترضين بضمانات أكبر كثيراً من المعتاد، ويوفر ذلك فرصة للمستثمرين ممن هم على استعداد للمخاطرة كي يحققوا فائدة كبيرة من الإقراض، كما يقول جويل هوليسنغر المدير المشارك لشركة «آريس مانجمنت».
تدير شركة «آريس مانجمنت» أصولاً للائتمان البديل (أي للإقراض المختلف عن قروض البنوك وغيرها) بقيمة 360 مليار دولار، وهي متخصصة في تقديم القروض للشركات التي تعاني صعوبة الاقتراض من البنوك أو إصدار سندات دين للاقتراض من سوق السندات. يقول هوليسنغر إن عدم حدوث الركود يضر بالسوق عامة، ويضيف أن «الركود وإفلاس الشركات أمران صحيان، فهما المضادات الحيوية التي يبدأ بها العلاج (للاقتصاد من الأزمات)، كما أنها توفر فرصاً هائلة للمستثمرين في سوق الدين».
سوق السندات:- ليس ارتفاع أسعار الفائدة نتيجة سياسة التشديد النقدي من قبل الاحتياطي الفيدرالي وحدها التي تضر بشدة بسوق الدين والإقراض، بل إن سوق السندات، المصدر الآخر لاستدانة الشركات غير البنوك والمؤسسات المالية، أصبح أعلى تكلفة نتيجة إحجام المستثمرين في السندات عن المخاطرة.
تعثر الاقتصاد الأميركي يثير مخاوف الركود المتجدد:- شهدت مبيعات سندات دين الشركات انخفاضاً كبيراً نتيجة لابتعاد المستثمرين عن المخاطر. كذلك تراجعت مبيعات السندات المضمونة بقروض الرهن العقاري وأيضاً السندات المضمونة بقروض المستهلكين.
وهكذا لم تعد هناك خيارات متاحة للشركات التي تحتاج للاقتراض كي توسع نشاطها وتنمو أو حتى كي تظل قادرة على العمل بأوضاعها الحالية.
وبحسب بيانات «غلوبال ماركت انتلجينس» التابعة لمؤسسة «ستاندرد أند بورز» وصل عدد الشركات التي تطلب الحماية من الدائنين (إفلاس) إلى أعلى مستوى له منذ عام 2010.
يتضح ذلك بقوة في سندات اقتراض شركات التطوير العقاري، بخاصة لقطاع العقارات التجارية والإدارية، فإضافة إلى ارتفاع أسعار الفائدة ومطالبة من يشترون السندات بعائد أعلى هناك أيضاً انهيار العائدات حيث لم يعد هناك طلب على استئجار العقارات الإدارية بعد أن أدت أزمة وباء كورونا إلى عمل كثيرين من منازلهم من دون حاجة لمساحات مكاتب، بالتالي لم تعد البنوك ترغب في إقراض مطوري العقارات الإدارية والتجارية، ووصلت نسبة الإقراض مقابل قيمة العقارات حالياً إلى أدنى مستوياتها منذ 30 عاماً.

انهيارات البنوك

مما فاقم من أزمة سوق الدين والإقراض في الولايات المتحدة خلال الأشهر الأخيرة مسلسل انهيار البنوك الذي أدى إلى تشديد ائتماني كما توقع رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول من قبل.

على سبيل المثال، مع انهيار بنك «سيغنيتشر» في مارس (آذار) الماضي هوى معدل إصدار سندات الدين المرتبطة بقروض الرهن العقاري في نيويورك بشدة، إذ كان البنك المنهار أكبر مقرض لمطوري العقارات في المدينة، وأدى انهياره إلى صدمة فيها وأيضاً بأماكن أخرى من أميركا، حيث بدأت البنوك الأخرى تحجم عن الإقراض.

كذلك أصبح المستثمرون في أسواق السندات يطلبون عائداً أعلى على سندات ديون الرهن العقاري، وارتفع العائد على تلك السندات بما يصل إلى نسبة 2 في المئة فوق نسبة العائد على سندات الخزينة الأميركية.

بدأت الأسر الأميركية تشعر بقوة بهذا الضغط على سوق الديون والإقراض، وأصبح المقرضون الجدد من شركات التكنولوجيا المالية والشركات العقارية وغيرهم من المؤسسات الائتمانية غير البنوك غير راغبين في الإقراض نتيجة عدم قدرتهم على دعم التمويل باقتراض كاف في ظل عمليات الانهيار وإعلان الإفلاس.

نتيجة لذلك، بدأت الأسر الأميركية في اللجوء إلى مدخراتها التي راكمتها خلال أزمة وباء كورونا مع تقديم الحكومة للدعم النقدي المباشر للجميع تقريباً من دون توفير منافذ للإنفاق في وقت الوباء، ومعروف أن تلك المدخرات هي من بين الأوعية المهمة التي تعتمد عليها البنوك في الإقراض للشركات والأفراد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى