مختارات اقتصادية

في سوق الأسهم .. كيف يكمن الشيطان بالفعل في التفاصيل؟

“كيف تتكون الكثبان الرملية؟”.. تتكون من بضع “قبضات” من الرمال، ومع وجودها بجوار بعضها البعض في نفس البقعة يتكون الكُثيب الرملي ويبدو واضحًا للعيان بينما القبضات المنفردة تبدو غير واضحة وغير متماسكة بشكل عام.
ومع فقدان الكُثيب لقبضة من الرمال فإنه يظل كُثيبا، ولو فقد اثنتين أيضا، ليبقى السؤال ما هو حجم قبضات الرمال التي يجب أن يفقدها الكثيب حتى لا يمكن اعتباره كيانًا متماسكًا بحد ذاته؟!


متناقضة سوريتيس
يمكن القول إن هذا السؤال هو بمثابة الفكرة التي ألهمت المفكرين للحديث عن “متناقضة سوريتيس”، والتي تعني أن أي صورة كبيرة غير واضحة المعالم بشدة تتكون من مجموعة من المعالم الصغيرة الأكثر وضوحا، كما أن أي فعل كبير يتكون من عدد من الأفعال الصغيرة (مثل العدو، ففيه تحريك للقدمين والرجلين وجهد للقلب والرئة وتضافر لغالبية عضلات الجسم وأجهزته).
ولكن كيف يمكن أن تفيدنا هذه الفكرة في سوق الأسهم.. يمكن التدليل بمثال ينطلق من تحليل سهم شركة مثل “ميتا” على سبيل المثال.
مع إغلاق يوم السادس عشر من يونيو 2023 قدمت شبكة “سي.إن.إن” الأمريكية تقديرات لسعر سهم شركة “ميتا” تدور حول أنه سيحتفظ بمتوسط سعري يتراوح حول مستوى 280 دولارًا خلال 12 شهرًا قادمة، بينما كان سعر الإغلاق في اليوم نفسه 281 دولارًا.
وعلى الرغم من هذا المتوسط الذي قدرته الشبكة، بالتعاون بين 52 محللًا لأسواق الأسهم، فإنها في الوقت نفسه وضعت حدا أعلى لقيمة السهم حوالي 350 دولارًا خلال السنة المقبلة أي بزيادة 25% عن قيمته الحالية، كما وضعت حدا سعريا أدنى لقيمة السهم لن يتراجع عنها وفقًا لتقييم المحللين بقيمة 100 دولار فحسب، أي بتراجع 64% عن قيمته منتصف يونيو 2023.
ليس مجرد “كُثيب”
فلماذا هذا التناقض الضخم في حساب سعر سهم شركة مثل “ميتا”، ربما يعود هذا إلى أن قبضات الرمال التي تكون “كثبان” الشركة متعددة للغاية بما يجعل حساب قيمة سهمها معقدا بشدة.
فعلى سبيل المثال، فإن النمو في عدد مستخدمي تطبيقات “ميتا” المختلفة عنصر حيوي للغاية، فبعد ثبات نسبي في عدد مستخدمي “فيسبوك” أصبح الرهان على “إنستغرام” وعلى “واتس آب” بدرجة أكبر ولكن هناك شكوك عامة في قدرة تطبيقات الشركة على تحقيق النمو لا سيما التطبيق الأهم “فيسبوك” والذي يعاني ثباتًا في أعداد المستخدمين النشطين خلال الربعين الأخيرين.
فمنحنى نمو عدد المستخدمين لموقع التواصل الاجتماعي شهد تباطؤا واضحاً منذ عام 2021 إلا أن التباطؤ تفاقم بشدة من نهاية 2022 حتى أصبح المنحنى يشبه الشكل الحالي قرب 3 مليارات مستخدم:

وهذا المنحنى مثلا يدفع الكثير من المحللين للتشكيك في جدوى الرهان على مستقبل الشركة وتحقيقها اختراقات، لا سيما مع ثبات عدد المستخدمين النشطين للموقع، في ظل أن مضاعف ربحية سهمها أكبر من 30 خلال شهر يونيو 2023، بما يوحي بثقة كبيرة للمتداولين في مستقبل السهم والشركة رغم هذا المنحنى الثابت.
عشرات المؤثرات
وفي المقابل فإن الرهان على اقتصاد يتوقع له أن يدر مئات المليارات في المقابل، خلال بضعة أعوام، وهو اقتصاد الميتافيرس، يجعل تحقيق الشركة ولو كان اختراقا صغيرا في عالم الميتافيرس الذي تتخصص الشركة فيه عنصرا للمراقبة أيضا.

 

هذا مع وجود عشرات العناصر الأخرى منها المتعلق بالشركة مثل مستويات توزيع الأرباح ومستويات المديونية ونسبة الأصول إلى الالتزامات وغيرها، وأخرى عامة مثل خشية الركود الأمريكي (والذي يصيب الشركات التكنولوجية أولا)، وآثار رفع الفائدة الأمريكية للتصدي للتضخم، والحرب الاقتصادية مع الصين لا سيما في ملف أشباه الموصلات، والتطورات الجيوسياسية في أوروبا وحالة قطاع التكنولوجيا الأمريكي بشكل عام، وأزمة الوظائف في أمريكا وغير ذلك من العوامل.

 

وبسبب هذه الصورة المعقدة جاءت توقعات المحللين للسهم بين 100 دولار، يمكن القول إن هذا مستوى سيتحقق إذا فشلت الشركة في تقديم اختراقات في مجال الميتافيرس وبدأ منحنى المستخدمين لمنصاتها في التراجع مثلا، وبين 350 دولارًا إذا حدث العكس بتحقيق طفرات واضحة في المجالين.

 

أي أن “كُثيب” سهم “ميتا” يتكون بالفعل من عدد من قبضات الرمال أو حفن الرمال، ولكن يجب الانتباه هنا أنها في هذه الحالة ليست ذات أوزان نسبية متساوية، فإذا ظلت كافة الأجزاء المكونة لكُثيب “ميتا” كما هي دون تغيير وساد التشاؤم حول مستقبل الميتافيرس وحدها فإن ذلك كفيل بحدوث تصدعات كبيرة تغير شكل الكثيب بشكل كامل.

 

النفط مثالا

 

ولهذا فإنه يجب أن يتنبه المستثمر إلى التغييرات التي تحدث في الشركات التي يستثمر أو يعتزم الاستثمار بها، لأن في بعض الأحيان فإن الاستمرار في سحب قبضات الرمال من كُثيب من شأنه أن يجعله غير موجود في أرض الواقع بينما الصورة الذهنية لدى المستثمر بأن هناك “كيانا” متماسكا في هذه النقطة، وأنه إذا فقدت الشركة ولو جزءا صغيرًا من مقومات قوتها فإن ذلك من شأنه التأثير على قيمتها.

 

 

ولعل وجود الصورة على هيئة أجزاء، أو حفن رمال متفرقة، هو ما دفع “وارين بافيت” لزيادة مضطردة في استثماره في القطاع النفطي وشركاته خلال العامين الماضيين، وذلك بالتأكد من أن أهم عنصر في الصورة، وهو وجود فجوة بين العرض والطلب لمصلحة العرض من شأنه أن يدفع القطاع للازدهار على المدى المتوسط وربما الطويل.
فكافة تقارير الوكالة الدولية للطاقة منذ بداية 2022 تشير إلى عجز شهري يتراوح بين 600 ألف برميل و4 ملايين برميل، مع تأكيدات الوكالة أن الاستثمارات في القطاع غير كافية، وهو ما يجعل الحالية ذات قيمة نسبية أعلى أو كما قال محلل لـ”سي.إن.بي.سي” “لم يتغير شيء فيما يتعلق بالنفط، ولكن قيمته الحقيقية أصبحت أكثر وضوحًا فقط”.
المستثمرون أيضا “كثبان”
وفي بناء المستثمر لذاته أيضًا يمكن ملاحظة نفس الأسلوب الخاص بالكثبان الرملية المكونة من حفن متراصة من الرمال، فعندما يدرك المستثمر أن غالبية كبار المستثمرين في سوق الأسهم عانوا خسائر في بداية حياتهم ولكن تمكنهم من تغيير قناعاتهم سمح لهم بتجاوز الخسائر بل وتحقيق الأرباح، بينما في 15-30% من الأشخاص فقط يغيرون انطباعاتهم الأولى.
وهذا “مُكون” رئيسي في شخصية المستثمر الناجح (أو في “كُثيب” تفوقه)، كما أن تمتعه برباطة الجأش عنصر مهم آخر، في ظل خسارة 80% من المتداولين لأموال بسبب بيع الهلع، فضلًا عن ضرورة دراسته الجيدة لقراراته وهو ما يقوم به 10-30% من المستثمرين فحسب.


وفي هذا الإطار، تشير “متناقضة سوريتيس”، أو متناقضة الكثبان، إلى أنه غالبا ما تتكون الكثبان من المواد نفسها، أو بمعنى آخر فإن الرمال تنجذب إلى بعضها لتصنع الكثبان، أو كما يقول المستثمر الشهير “تشارلي مونجر” إن الكثيرين يعتقدون في أنفسهم قدرات أكبر مما يمتلكونها بالفعل، بينما يفتقدون إلى مقومات رئيسية للاستثمار”.
ويرى “مونجر” أن الخسائر الأولى علمته ضرورة “التواضع” وأن يتقبل الخسارة، وعلمته الخسارات التالية أن يتوقف عن التعامل بمنطق “أموال السوق وأموالي” بأن يحتسب أي أموال ربحها من التداول على أنها أموال السوق ويمكنه التعامل معها بقدر أعلى من المخاطرة وعدم الاهتمام، وهو أسلوب المحاسبة العقلية الشهير.
وبغض النظر عن طبيعة الكثيب، سواء كان شركة أو قطاعا أو حتى في نفسه، فإن عليه أن ينتبه للتغيرات في حفنة رمل هنا أو هناك، لأن كومة الرمال لا تبقى كما هي بعد أن نأخذ منها ولو القليل، أو لأنه كما قيل عن حق فإن الشيطان يكمُن دائما في التفاصيل.

 

المصادر: أرقام- سي.إن.إن- بلومبرج- ستاتيستا- سي.إن.بي.سي- كتاب “Buffett Beyond Value: Why Warren Buffett Looks to Growth and Management When Investing

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى