مقالات اقتصادية

بعد انتهاء أزمة سقف الدين.. بايدن ومكارثي أمام تحدٍّ جديد

كتب أسامة صالح

لعل أكثر ما يثير الدهشة في رفع سقف الديون الذي صدّق الرئيس الأميركي جو بايدن عليه ليصبح قانوناً مؤخراً هو إقرار الكونغرس له، بل وبسهولة، بمجرد الانتهاء من الاعتراض والصراخ. وربما السؤال الأكثر إثارة للاهتمام الذي يطرحه هذا الجدل بأكمله هو: هل ينبغي لنا الاستعداد لمفاجآت أخرى.

القادة السياسيون من كلا الحزبين استخدموا قانون المسؤولية المالية لإقناع أعضاء أحزابهم بوجهة نظرهم، لكن لم يبذل جهد كبير في اللحظة الأخيرة أو تمارس أي ضغوط، وكان فارق الأصوات مريحاً بدرجة كافية حتى إن عشرات الأعضاء، الذين يريدون اكتساب سمعة الأصوليين، استطاعوا التصويت بـ”لا” دون إثارة مشاعر الاستياء.

لم يكن ما حدث بأي حال من الأحوال نتيجة مفروغاً منها حتى عندما اتضحت تفاصيل التسوية النهائية. من وجهة نظر الديمقراطيين، لا يتضمن القانون بالأساس ما يستحق استحسانه، إذ إنه يخرق مبدأ خفض العجز من خلال الموازنة بين الزيادات الضريبية وتقليص الإنفاق. وعلى جانب الإنفاق، يخرق قاعدة التعادل بين الإنفاق الدفاعي وغير الدفاعي. أما الجمهوريون فيرون الاتفاق يتخلى تقريباً عن شتى مطالب مشروع قانون سقف الديون الخاص بالحزب والذي أقره مجلس النواب في أبريل الماضي. لكنهم ارتضوا مبدئياً بمشروع قانون الاعتمادات العادي مصحوباً ببعض التعديلات على برنامج المساعدة الغذائية التكميلية الذي يشير مكتب الموازنة بالكونغرس الأميركي إلى أنه لن يحد من مخصصاته.

معنويات إيجابية غير متوقعة
لذلك كان يسهل تصور عالم يتهم فيه أعضاء من كلا الحزبين قادتهم بالتنازل عن مبادئهم، تاركين القادة يستجدون أغلبية ضئيلة لتجنب التخلف عن السداد. عوضاً عن ذلك، ما حدث هو تفجر للمشاعر الطيبة.
يرجع ذلك جزئياً إلى أن كلّاً من بايدن ورئيس مجلس النواب كيفن مكارثي، سياسي غير مقدر بما يكفي، فهما ليسا من الخطباء المفوَّهين ولا يهتمان كثيراً بالتفاصيل السياسية والأيديولوجية، لكنهما محنكان في ما يتعلق بالعمل داخل الكونغرس الأميركي، وهي مؤسسة مكروهة للغاية ويساء فهمها. جعلهما سقف التوقعات المنخفض يخرجان من العملية وقد تعززت سمعتهما الشخصية، بعد أن تفاديا الصراع صفري النتائج الذي يصيب غالباً السياسة الأميركية.

يتمثل الجزء الآخر في صناعة السياسة بأنها في أصلها ليست لعبة تقتضي التعادل.
لكي أكون واضحاً، فإن القانون يدعم أهداف السياسة المحافظة دون اكتراث. لكن يصحب هذا الدعم حماية لبرامج الديمقراطيين المفضلة. والأهم هنا أن التشريع يؤدي هذا الدور في وقت ارتفاع التضخم وزيادة أسعار الفائدة. بمعنى آخر، في وقت قد يكون مناسباً لقليل من التقشف المالي.
تستطيع السياسات الجيدة دعم أهداف متعددة في نفس الوقت، وقد صوّت غالبية الجمهوريين والديمقراطيين لصالح مشروع القانون لأنه يمكنهم القول، بحق، إن إقراره ليس أفضل من التعثر فحسب، بل أيضاً يحسن الوضع الحالي.

الأعين على مخصصات البرامج الحساسة سياسياً
حان الآن وقت الأنباء السيئة: يعود نجاح تمرير القانون بقدر كبير إلى حقيقة أنه يتفادى تماماً أي أمر مثير للجدل. تُعتبر عوائد الضرائب الأميركية في الوقت الحاضر على الجانب المنخفض وفق المعايير التاريخية، حتى مع زيادة نسبة كبار السن بين سكان الولايات المتحدة الأميركية. في هذه الأثناء تفاقمت تكلفة الالتزام المُطلق بتلبية الاحتياجات الصحية لكبار السن. والحقيقة أن بايدن ومكارثي استطاعا التوصل إلى تسوية وإطلاق بداية عملية لتقليص العجز عن طريق إغفال مسائل الضرائب وبرنامج الضمان الاجتماعي وبرنامجَي “ميديكير” و”ميديكيد” للرعاية الطبية. لكن تحقيق الاستقرار في نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، وهي مسألة ينبغي للحكومة الفيدرالية أن تسعى لها فعلاً، يتطلب تخفيض النمو المقرَّر في مخصصات تلك البرامج ورفع الإيرادات.

ألمح مكارثي فعلاً إلى رغبته في تكوين لجنة بالكونغرس لدراسة تخفيض مخصصات هذه البرامج، لكن تصريحاته تقصد بصفة خاصة أشياء لم يذكرها غالباً على غرار كلمات مثل “كبار السن” أو “الرعاية الصحية”، أو أي من أسماء للبرامج التي يعتقد أنه قادر على تقليصها. كانت خطة إدارة بايدن المبدئية لمناقشات سقف الديون هي الإيقاع بالجمهوريين في مجلس النواب بحيث يقترحون تخفيضات من هذا القبيل، ومن ثم يبدأ الديمقراطيون توبيخهم. لكن عندما انتقد بايدن الحزب الجمهوري في خطاب حالة الاتحاد، نفى زملاء مكارثي الاتهام غاضبين، وأصدر مكارثي لاحقاً مجموعة من المطالب التي لم تمسّ برامج التقاعد الأساسية.

مقايضة حزبية
لكن حتى مكارثي يدرك أن تخفيضات الإنفاق المطلوبة لا يمكن أن تتمّ على هذا النحو، كما أن إدارة بايدن عندما طرحت خطة خفض العجز بمقدار 3 تريليونات دولار لم تمسّ مزايا الضمان الاجتماعي أو برنامج الرعاية الصحية “ميديكير”. عوضاً عن ذلك تزيد الخطة الضرائب على الأغنياء، وتضع ضوابط سعرية على بعض الأدوية التي لا تُصرَف إلا بوصفة طبية، ويبغض الجمهوريون كلا الأمرين.
نظريّاً، ليس من الصعب تخيل الشكل الذي ستظهر به صفقة كبرى من الحزبين حول العجز.
ألمح مكارثي إلى رغبته في خفض مخصصات برامج الإنفاق الإلزامي، لكنه يُحجِم عن مناقشة الموضوع علانية، غير أنه سيستطيع خفضها إذا حظي بدعم الحزبين. والحصول على هذا الدعم يتطلب منه منح البيت الأبيض بعض الأمور التي يطلبها.

أو عند النظر للموضوع من جهة أخرى، سيستفيد بايدن من قيادته جهود التوصل إلى حزمة إجراءات كبيرة لخفض العجز، إذ سيساعده ذلك على بلوغ هدف سياسته الاقتصادية وهو كبح التضخم. أيضاً ستسهم أي زيادة ضريبية ضخمة في إنجاز هدف سياسته الاجتماعية للحد من عدم المساواة. لكن تأمين أصوات الجمهوريين المطلوبة لتمرير الإجراءت بالكونغرس، سيتطلب إعطاءهم شيئاً في المقابل، وبعض تخفيضات الإنفاق تلك تنطوي على مخاطر سياسية أكبر من أن يتحملها الجمهوريون وحدهم.

عقبات كبيرة
يُعَدّ هذا الإطار الأساسي مفهوماً تماماً، لكن الأمر الصعب هو إتمام الصفقة وسط مناخ من تزايد الاستقطاب وتراجع الثقة، وهو ما يشكّل عقبة كبيرة أمام أي نوع من صفقات الموازنة الشاملة. لكن الفترة الوجيزة من المشاعر الإيجابية التي ظهرت في أعقاب إبرام اتفاق سقف الديون بين الحزبين تعطي مبرراً للتفاؤل. لم يكُن معروفاً بذلك التوقيت، حتى للأشخاص داخل غرف التفاوض، أن اتفاقهم سيلقى ترحيباً شديداً. يتضح في الوقت الحالي أنه بينما سيصوّت دائماً بالرفض بعض الأعضاء الذين يتبنون عن قصد مواقف متطرفة، فقد يرحّب الأعضاء من التيار السائد في كلا الحزبين بالتوصل إلى تسوية، ما سيمنح كلا الزعيمين مديحاً إعلامياً.

بطبيعة الحال سيكون التوصل إلى اتفاق مسألة بالغة الصعوبة. لكن لا ينبغي أن ينتج عن فشل جهود التوصل إلى اتفاق كبير خلال الفترة الرئاسية لباراك أوباما قدر كبير من التشاؤم، إذ انطلقت تلك المحادثات وسط بيئة من أسعار الفائدة المنخفضة وتراجع التضخم وارتفاع معدل البطالة، وهي ظروف جعلت حزمة خفض العجز بلا فائدة عملية حينها. أما في وقتنا هذا، فتدابير التقشف منطقية أكثر، ما يجعل التوصل إلى كل أشكال الاتفاقات المربحة للجانبين عملية ممكنة.

وقد يساعد الجدل الدائر حول عجز الموازنة على عودة السياسة الأميركية إلى الحوار البنّاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى