اقتصاد دولي

“نواب الحاكم” يشترطون الغطاء السياسي لإدارتهم أعمال مصرف لبنان

في 31 يوليو (تموز)، يطوي لبنان صفحة حاكم المصرف المركزي رياض سلامة من دون أن تنتهي مفاعيلها، لتبدأ بعدها حقبة من الضبابية في ظل الانهيار المالي والاقتصادي المستمر. في ظل مخاوف من شغور موقع القرار في مصرف لبنان، ومدى قدرة نواب الحاكم الأربعة في الاستجابة السريعة للتحديات المالية المفاجئة.

طوال ثلاثة عقود كانت “شخصية الحاكم” رياض سلامة موضع “مديح مفرط” في الداخل اللبناني والخارج، وبلغت الأمور أوجها مع تصنيفه ضمن خانة “أفضل حاكم لمصرف مركزي”. منذ تعيينه لأول مرة في الأول من أغسطس (آب) 1993، أعيد تعيينه لأربع ولايات متتالية، الواحدة منها ست سنوات، وكانت آخرها التمديد له في 24 مايو (أيار) 2017 في عهد الرئيس ميشال عون. اختزل سلامة المجلس المركزي للمصرف، وعاش نوابه الأربعة في الظل، وبعيداً من “إدارة المخاطر” وتحمل وزر القرارات المفصلية. واشترك سلامة في “تمويل عجز الدولة”، وتجاوز حدود قانون النقد والتسليف، وصولاً إلى الانهيار الكبير بدءاً من عام 2018، وتراجع الثقة المالية في البلاد، وتآكل الاحتياطي الإلزامي.

اليوم وبعد 30 عاماً على تولي رياض سلامة زمام الحاكمية، يعيش لبنان حالة من الفراغ الدستوري، في ظل شغور في موقع رئاسة الجمهورية بانتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، وعدم انتخاب رئيس جديد للبلاد، وغياب حكومة أصيلة، حيث تستمر حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في تصريف الأعمال ضمن “الحدود الضيقة”. يؤدي ذلك إلى صعوبة في تعيين حاكم جديد للمصرف المركزي في لبنان، بالتالي وجوب الانتقال إلى تطبيق الآليات المنصوص عليها قانون النقد والتسليف، ولكن ما كان لافتاً هو البيان الصادر عن نواب الحاكم في السادس من يوليو الجاري، الذي تضمن تهديداً ضمنياً بالاستقالة في حال لم تتحمل القوى السياسية مسؤولياتها في تعيين حاكم أصيل لمصرف لبنان، الأمر الذي لاقى انتقادات واسعة.

يرى المتخصص في الشأن القانوني كريم ضاهر أن المرحلة المقبلة “غاية في الدقة”، لذلك لا بد من الرجوع إلى “روح القانون”، ووجوب تولي نواب الحاكم مسؤولياتهم بموجب المادة 25 من قانون النقد والتسليف التي تقول “بحال شغور منصب الحاكم، يتولى نائب الحاكم الأول مهام الحاكم ريثما يُعين حاكم جديد”، رافضاً التأويلات للمادة 27 التي تحاول منح رياض سلامة صلاحيات في توجيه سياسات المصرف خلال المرحلة المقبلة، لأن المقصود بعبارة “بإمكان الحاكم أن يفوض مجمل صلاحياته إلى من حل محله”، هو تفويض الحاكم لصلاحياته خلال ولايته، وليس خارجها أو بعد انتهائها، على غرار تفويض نائبه القيام بمهامه الإدارية خلال حضوره اجتماعات صندوق النقد الدولي، وإلى حين عودته.

النائب بصلاحيات كاملة

من هنا، يشير ضاهر إلى تولي النائب الأول وسيم منصوري صلاحيات الحاكم المنتهية ولايته رياض سلامة، مضيفاً “أن المخاوف من أن تشهد فترة وكالته خضة مالية وتحميله المسؤولية، فهي ليست بمكانها، لأن على الموظف العمومي تحمل مسؤولياته، وعدم التهرب منها، كما أن الظرف الذي عُين فيه النواب الحاليون، كان ينذر بمستقبل مالي واقتصادي دقيق” بحسب ضاهر الذي يلفت إلى أن “نواب الحاكم عينوا في ظل حكومة الرئيس حسان دياب أي في قلب الأزمة والانهيار”.

يعتقد ضاهر أن الحاكم الأول يمتلك كل المؤهلات لإدارة المصرف المركزي، مذكراً بالفترات السابقة التي “شهدت تولي الحاكمية من أشخاص ليسوا متخصصين بالاقتصاد والمال، وقاموا بمهامهم من إلياس سركيس، إلى ميشال الخوري، وأدمون نعيم، لا بل كان رياض سلامة استثناء لناحية تعيين خبير في الأسواق المالية”.

في المقابل، يبقى ممكناً “تعيين حاكم جديد” في ظل حكومة تصريف الأعمال تحت علة الضرورة القصوى، وتأمين غطاء مسيحي وازن لخطوة كهذه بسبب شغور موقع رئاسة الجمهورية. يعتبر كريم ضاهر أن “من السيناريوهات الثانوية المطروحة هي تعيين حاكم جديد، على رغم من أنه غير محبذ بسبب حالة الفراغ الدستوري”، ويتقدم هذا الطرح عندما يصبح المصرف أمام خطر الشغور المطلق، على غرار خطوة الاستقالة التي هدد فيها نواب الحاكم الأربعة، مكرراً التشديد “على وجوب تقيد نواب الحاكم بنص القانون، وتولي مهامهم في المجلس المركزي، وتسيير مصرف لبنان”.

في الأثناء، بدأت ترشح بعض مواقف نواب الحاكم إلى السطح، لناحية اعتماد بعض الإجراءات الجديدة، على غرار طلب الغطاء السياسي وتشريع استخدام الاحتياطي الإلزامي، ناهيك بإنشاء منصة جديدة، على خلاف المعمول بها حالياً منصة “صيرفة”، وبالتعاون إما مع وكالة “بلومبيرغ” العالمية، أو “رويترز” بحسب تأكيدات نائب حاكم مصرف لبنان سليم شاهين، الذي تحدث في تصريح لـ”رويترز” عن توجه للاستغناء تدريجاً عن “صيرفة” والمضاربات، والانتقال إلى منصة جديدة، و”نقل عملية التسعير من داخل مصرف لبنان، لتصبح على منصة عالمية بطريقة شفافة”.

يعتقد كريم ضاهر أن “المطلوب حالياً منصة أكثر شفافية من “صيرفة”، وتؤمن المساواة بين جميع العملاء، ووقف تذويب ودائع الناس لدى المصارف”. ويرد ضاهر على طرح “عودة نواب الحاكم عن التعاميم التي أدار من خلالها رياض سلامة السوق المالية منذ 2019، وفرض بصورة ضمنية إجراءات “الهيركات” على الودائع، و”الكابيتال كونترول” على السحوبات”، موضحاً “لن نكون أمام عودة عن التعاميم بمعنى الإبطال، بل إمكان استصدار تعاميم جديدة ترسم مساراً جديداً”، ويختم “المجلس المركزي هو صاحب الصلاحية المطلقة لإصدار التعاميم، والتوقيع يكون لمن تؤول إليه صلاحيات الحاكم”.

المجلس المركزي

يمنح قانون النقد والتسليف صلاحيات واسعة لمصرف لبنان، بالتالي إلى المجلس المركزي الذي يتولى مهام الإدارة وسلطة القرار. وبحسب المادة 70 وما يليها، يقع على عاتق المصرف المركزي “مهمة المصرف العامة هي المحافظة على النقد لتأمين أساس نمو اقتصادي واجتماعي دائم”، وبحسب القانون تتضمن مهمة المصرف بشكل خاص المحافظة على سلامة النقد اللبناني، والمحافظة على الاستقرار الاقتصادي، المحافظة على سلامة أوضاع النظام المصرفي، تطوير السوق النقدية والمالية. إضافة إلى التعاون مع الحكومة، وتقديم المشورة المالية والاقتصادية، ويقترح التدابير التي يرى أن من شأنها التأثير المفيد على ميزان المدفوعات، كما يطلع الحكومة على الأمور التي يعتبرها مضرة بالاقتصاد والنقد، ويؤمن علاقتها بالمؤسسات المالية الدولية، واستعمال الوسائل التي يرى أن من شأنها تأمين ثبات القطع، وإبقاء الانسجام بين السيولة المصرفية وحجم التسليف.

شبح الدولار    

يثير شغور حاكمية مصرف لبنان مخاوف كثيرة على المستوى الاقتصادي والمالي، لأن “هذا الموقع من أهم المراكز الحيوية في الدولة اللبنانية التي تقوم على ثلاث ركائز أساسية هي: المؤسسات الدستورية، الجيش والمؤسسات العسكرية، ومصرف لبنان”، بحسب توصيف الباحث الاقتصادي أيمن عمر.

يتحدث عمر عن استمرار عمليات التلاعب التي لا تستند إلى قواعد علمية، ومن دون أخذ لقمة عيش الناس في الاعتبار، مشيراً إلى أن “ما حدث في 15 يوليو الجاري من تلاعب كبير في سعر صرف الليرة مقابل الدولار يدخل ضمن حلبة الصراع، والرسائل، والرسائل المضادة بين الفرقاء السياسيين المعنيين”، مضيفاً “ليس من سبب مالي أو اقتصادي مباشر يرتبط بآليات العرض والطلب، والتأثير في سعر الصرف أدى إلى ارتفاع سعر الدولار مقابل الليرة بحدود 10 آلاف ليرة لبنانية دفعة واحدة، وإنما هي مضاربات وترويج إعلامي، وبث إشاعات قامت به شركة يملكها أحد الخبراء الاقتصاديين وهو مقرب ومدعوم من حاكم مصرف لبنان لمدة ساعات قليلة جداً، ما لبث بعدها أن عاد سعر الصرف إلى وضعه القريب من السابق”.

يعتقد الخبير أيمن عمر أن “الهدف من التلاعب بسعر الدولار هو الضغط السياسي، وإرسال رسالة واضحة المعالم بأن التمديد للحاكم هو القرار الأنسب لملء الشغور، وإلا فالفوضى النقدية واستمرار مسلسل الانهيار قادم وبقوة على المستويات كافة”.

في المقابل، يتخوف عمر من سيناريو الشغور التام في المجلس المركزي، “ففي حال شغور منصب الحاكمية، وما يحكى عن استقالة نواب الحاكم في حال حصلت، ستكون نتائجها الكارثية ضخمة جداً، بما تعنيه من تفكك لمقومات الدولة والأسس التي بنيت عليها، إلى جانب الجيش والقوى الأمنية”.

يعتقد عمر “أننا أمام التحضير لما بعد رياض سلامة، وتسلم نائب الحاكم الأول وسيم منصوري مهامه، والبدء بسياسة جديدة”، ولا يستبعد أن تشهد المرحلة الانتقالية اختلالات قد ستؤثر سلباً على الوضع النقدي، والاقتصادي، والمعيشي، واهتزاز الثقة التي رافقت شبه الاستقرار النقدي منذ أواخر مارس الماضي”، وبرأي عمر “إذا لم يتم لجم هذه الاختلالات بشكل سريع، عندها قد تتدحرج الأزمة في حال ترافقت مع اضطرابات سياسية في ظل الفراغ الدستوري المستمر”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى