مختارات اقتصادية

على الشركات الناشئة تجنّب الاعتماد حصراً على الذكاء الاصطناعي

تسارع الشركات الناشئة اليوم إلى الاستفادة من النقلة النوعية التي أحدثها الذكاء الاصطناعي في جميع مفاصل الحياة والأعمال، لكنها في المقابل تُغقل العوامل الرئيسية التي قد تضمن نجاحها أو تؤدي إلى فشلها. وقد ترك الذكاء الاصطناعي التوليدي أثراً هائلاً على العالم خلال آخر 12 شهراً، فأعطى مؤسسي الشركات توجهاً جديداً ليعملوا من خلاله على استقطاب الاستثمارات وتوسيع أعمالهم.

ودفع هذا التوجه أصحاب الشركات لاستثمار معظم مواردهم ووقتهم وأفكارهم في تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي وتبنيّها، متجاهلين العناصر الأخرى الضرورية لنجاح شركاتهم في المستقبل، مثل البحث عن فكرة مبهرة ترتقي بأعمالهم في قطاع التكنولوجيا. ويعتبر هذا الهوس خطيراً لدرجةٍ تضاهي قدرة الذكاء الاصطناعي على إحداث التحوّلات الجذرية، وستكون العواقب وخيمةً لمن لا يتوخى الحذر.

لا شك أن الذكاء الاصطناعي سيلعب دوراً محورياً في تغيير العالم، وبطرقٍ لا يمكن تخيّلها اليوم. فقبل عامٍ مضى، ما كان أحدٌ ليصدق أن برنامجاً مثل “شات جي بي تي” سيغيّر ملامح إدارة الشركات والأعمال كما فعل مؤخراً.

وقبلها، كان يُطلب من مدير الأعمال أن يدرس تقريراً معقداً من 5 آلاف كلمة لاستخلاص أبرز الرؤى والتوجهات، ثم تقديم ملخصٍ تفصيليّ عنه إلى مجلس إدارة الشركة؛ وقد تستغرق هذه العملية ساعاتٍ عديدة وتستلزم تأجيل مواعيد طارئة وأمور أخرى بغاية الأهمية. أما اليوم فيمكنه ببساطة إدخال التقرير إلى واجهة “شات جي بي تي”، الذي يقوم بمعالجته وتحليله خلال ثوانٍ معدودة.

حصل كل هذا التحوّل خلال 12 شهراً فقط، وما تزال رحلة التطور في بدايتها.

ومع ذلك، يتعين على مؤسسي الشركات اعتماد أسلوبٍ متوازن في تطوير شركاتهم للاستفادة من الموجة التالية للابتكار والتطور. فقد يؤدي التركيز المفرط على الذكاء الاصطناعي، وتجاهل العناصر المحورية لتطوير شركاتهم الناشئة مثل أبحاث السوق وآراء المستخدمين والكفاءة التشغيلية، إلى حالات تأخر أو انتكاسات أو عواقب وخيمة بعيدة المدى أو غير قابلة للإصلاح. ويمكن للشركات الناشئة اكتساب ميزة تنافسية كبيرة عند النظر إلى الذكاء الاصطناعي بوصفه جزءاً واحداً من منظومة النجاح المتكاملة.

كما قد تدفع حلول الذكاء الاصطناعي أصحاب الشركات إلى إغفال الثقافات المحلية والأُطر التنظيمية، باعتبارها لا تدخل بشكلٍ جيد ضمن تصميم هذه البرامج. ومن شأن هذا الخطأ أن يكلّف الشركة الناشئة عملاءً محتملين أو يضعها أمام تعقيداتٍ قانونية، مما يؤكد أهمية وضع استراتيجية متكاملة تراعي جميع الجوانب.

ونظراً لما نشهده اليوم من ظهور ابتكاراتٍ جديدة قائمة على الذكاء الاصطناعي بوتيرةٍ متسارعة، فمن المستحيل تقريباً -حتى لأكثر المستثمرين خبرةً في مجال التكنولوجيا- توقّع الأفكار المبتكرة التي ستحقق نجاحاً مبهراً على المدى البعيد. ويحمل الاعتماد الحصري على تقنيات الذكاء الاصطناعي الجديدة مخاطر عديدة، فربما تستند هذه الحلول إلى خوارزميات ونماذج برمجية مُبهمة أو غير مُثبتة، وبالتالي تضرّ بسمعة الشركة وفرص نجاحها.

ويدرك الجميع اليوم كيف يغير الذكاء الاصطناعي أنماط الحياة والعمل، إلا أنه على الشركات الناشئة عدم الاعتماد على هذه التقنيات وحدها في توجيه سعيها نحو النمو والتوسع في الأسواق العالمية. وتزخر منطقة الشرق الأوسط بأمثلة الشركات الناشئة التي نجحت بتوسيع أعمالها دون الاستناد حصراً إلى حلول الذكاء الاصطناعي، أي من خلال وضع استراتيجيات الأعمال وفق منهجية شاملة تقوم على أن النجاح لا يرتبط فقط بالتكنولوجيا. وعلى سبيل المثال، أصبحت شركة “ممزورلد” منصة التسوّق الإلكتروني الرائدة بين أوساط الأمهات في المنطقة، وذلك بفضل تركيزها على تحسين تجربة العملاء بدلاً من تبنّي حلول الذكاء الاصطناعي.

ولم يخلُ عمل الشركة من استخدام التكنولوجيا، إلا أن نجاحها استند إلى فهم الاحتياجات الفريدة لجمهورها المستهدف، وتوفير تجربة تسوّق مخصصة تضمن تعزيز ثقة العملاء ووفائهم. وقد استحوذت “مجموعة تامر”، الموزع السعودي لخدمات الرعاية الصحية، على حصة الأغلبية من شركة “ممزورلد” عام 2021. وتواصل الشركة اليوم تحقيق النجاح بناءً على عوامل غير مرتبطة بالتكنولوجيا، حيث احتفلت العام الماضي بيوم المرأة الإماراتية انسجاماً مع أصولها الإماراتية، حيث أطلقت مبادرة جديدة تهدف إلى تشجيع ودعم الإماراتيات من رائدات الأعمال وصاحبات المشاريع الصغيرة.

وتتميّز هذه الشركة بمنهجيةٍ استراتيجية تجمع الابتكارات التكنولوجية مع فهمٍ عميق لأسواقها المستهدفة، ويتعيّن على الشركات الناشئة الطموحة اليوم اتباع هذا المبدأ لضمان التميّز وتحقيق النجاح على المدى البعيد. فمؤسسو الشركات الأذكياء يحافظون على تألقهم من خلال استغلال أفضل المزايا التي توفرها حلول التكنولوجيا، لا سيما الذكاء الاصطناعي، والاعتماد في الوقت نفسه على مهاراتهم في التعلّم، والاستدلال المنطقي، وحل المشكلات، وتحليل الأفكار المعقدة، ووضع الخطط، والتفكير بشكلٍ مجرد، والتعلّم من التجارب والخبرات السابقة.

وقد أصبح الذكاء البشري اليوم موضوعاً ثانوياً في غمرة التقدم التكنولوجي لعالم الأعمال، غير أن نمو الشركات الناشئة وتطورها يمكنه الاستفادة بشكلٍ هائل من وجود أشخاصٍ يتمتعون بمهارات حل المشكلات والذكاء العاطفي والقدرة على التكيّف. كما يرتبط نجاح مؤسسي الشركات بمجموعةٍ من العوامل الجوهرية، بما فيها التفكير الناقد، والتكيّف مع المواقف المتغيرة، وتحليل التحديات ومعالجتها، واتخاذ القرارات القاسية، ووضع استراتيجيات فعّالة لتحقيق الأهداف المرجوة.

إن النجاح القائم على تحقيق التوازن بين تبنّي إمكانات الذكاء الاصطناعي والاهتمام بالجوانب الأخرى اللازمة لتطور الأعمال، يستلزم في البداية إعداد خطةٍ تقوم على استخدام الذكاء الاصطناعي بوصفه أداةً داعمة لا محورية.

وفي الختام، لا بد للشركات الناشئة الراغبة بالنجاح أن تكتسب رؤيةً معمّقة حول كيفية مواءمة التكنولوجيا مع رسالة كل شركة واحتياجات عملائها، إضافةً إلى دراسة الجمهور المستهدف ومعرفة احتياجات العملاء، ثم تصميم حلول مخصصة تعالج تحديات العملاء وتراعي الجوانب الثقافية. ولا شك أن الذكاء الاصطناعي يتمتع بإمكاناتٍ هائلة، لكن لا يجب الاعتماد عليه حصراً في توجيه تطور الشركة ونموها. ولذلك يتعين على مؤسسي الشركات اتباع منهجية متكاملة، والتعاون ومشاركة رؤيتهم ومنهجيتهم مع شركائهم، لضمان فرصة أفضل في تحقيق النجاح والنمو بصورةٍ مستقرة على المدى البعيد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى