اقتصاد دولي

هل يستمر «الفيدرالي» في محاربة التضخم في ظل أزمة البنوك؟

يواجه مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي خيارات صعبة وهو يقوم بدوره في مواجهة ارتفاع الأسعار، بينما يقوم تفويضه على المحافظة على استقرار الأسعار إضافة إلى تحقيق الإشغال الكامل في سوق العمل، ولكن منذ الـ10 من مارس الحالي، تغيرت أولويات «الفيدرالي الأميركي» بعد انهيار «بنك وادي السيليكون»، وقفزت مهمة المحافظة على سلامة واستقرار النظام المالي على رأس أولويات «الفيدرالي» ومهامه. وربما يكون رفع سعر الفائدة الذي أقره «الفيدرالي» في هذا الشهر سيكون الأخير في هذه الموجة من رفع سعر الفائدة وتحول السوق لتوقعات أول خفض للفائدة هذا العام.
«الفيدرالي الأميركي» والمهام التاريخية
في ديسمبر (كانون الأول) 1913، أقر الكونغرس الأميركي نظام الاحتياطي الفيدرالي وإصدار عملة جديدة (Federal Reserve Note) لينهي فترة عدم الاستقرار التي حدثت بعد أزمة 1907 وانهيار الأسهم وفشل البنوك وقتها، ولم تكن للحكومة الفيدرالية الأدوات اللازمة لمواجهة الأزمة وتم تأسيس الفيدرالي ليقوم بدور مقرض الملاذ الأخير (هو أن يكون مستعداً لتقديم القروض للنظام المالي عندما تعجز البنوك التجارية عن القيام بذلك)، وأنشأ القانون نظام البنوك الاحتياطية برأس مال مقدم من البنوك التجارية في المنطقة، وتسبب الكساد الكبير في عام 1929 بانكماش نمو الناتج المحلي الإجمالي بـ30 في المئة وارتفعت نسبة البطالة إلى 25 في المئة في عام 1933، وطرأت بعض التعديلات بعد الكساد الكبير على القوانين وهيكل البنك، وتمت عملية إعادة تشكل مجلس محافظي نظام الاحتياطي الفيدرالي ومنح مجلس الإدارة صلاحيات واسعة. وبعد ذلك أعطى الكونغرس الرئيس فرانكلين روزفلت سلطة إعادة تقييم الدولار وتنظيم معيار الذهب. كان الاقتصاد يتعافى من هذه الأزمة عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية وكان معدل متوسط التضخم السنوي في أميركا هو 3.3 في المئة خلال الفترة بين عامي 1946 و1972، وارتفع إلى 8.7 في المئة في عام 1973، ولمدة تسع سنوات كان متوسط التضخم عند 9.2 في المئة، وبلغ التضخم 12.5 في المئة في يناير (كانون الثاني) 1981 عندما دخل الرئيس رونالد ريغان البيت الأبيض. التفويض المزدوج للفيدرالي الأميركي:- ويعمل الفيدرالي ضمن تفويض ممنوح من الكونغرس من خلال قانون إصلاح الاحتياطي الفيدرالي لعام 1977 ويتمتع بالاستقلالية، وفي الوقت نفسه يخضع للمساءلة من قبل الكونغرس للقيام بمهمتين: الأولى الحد الأقصى للتوظيف، والثانية هي استقرار الأسعار. ولتحقيق هذه الأهداف يستخدم الفيدرالي أدوات السياسة النقدية من سعر الفائدة وعمليات السوق المفتوحة وشراء الأصول، وعندما أجيز هذا القانون في عام 1977 تم تحديد مستويات مستهدفة على نسبة بطالة لا تتجاوز الثلاثة في المئة، وأن يستقر التضخم عند مستوى الثلاثة في المئة، وتغيرت هذه المحددات بمرور الوقت. في عام 2012 حدد الفيدرالي مستوى اثنين في المئة مستوى مستهدفاً للتضخم السنوي وتم اعتماد مؤشر الإنفاق الاستهلاكي الشخصي PCE بدلاً من مؤشر أسعار المستهلكين الـCPI.
الفيدرالي الأميركي والتضخم
التضخم هو إحدى الأدوات التي يقيس بها البنك المركزي صحة وتوازن الاقتصاد، فمعدل التضخم الصحي مفيد للاقتصاد وللمستهلكين، فعندما يرتفع معدل التضخم ويتسارع الارتفاع يتوسع المستهلكون في الإنفاق على المدى القصير خوفاً من الارتفاع الكبير في الأسعار مستقبلاً ويتضخم الطلب وترفع الشركات الأسعار ويخرج التضخم عن السيطرة وهذا ما يخشاه البنك المركزي. منذ عام 1913 يستخدم الفيدرالي مؤشر أسعار المستهلكين CPI لقياس التضخم عن طريق مكتب إحصاء وزارة العمل التي تقيس التضخم عبر استبيان يغطي 23 ألف جهة عمل و800 ألف مستهلك. تركيبة المؤشر تتغير عبر الزمن، مثلاً خلال حقبة الخمسينيات كان الغذاء والملبوسات يشكلان 50 في المئة من وزن المؤشر لكن هذه النسبة انخفضت الآن لتشكل 17 في المئة، وهذا يفسر الارتفاعات الكبيرة للتضخم في خمسينيات القرن الماضي بالتزامن مع الحرب الكورية. واستقر التضخم حتى منتصف ستينيات القرن الماضي وسرعان ما تصاعد ارتفاع التضخم بعد التوسع في الإنفاق من قبل البيت الأبيض لمواجهة الفقر وكذلك الإنفاق المتزامن مع الحرب الفيتنامية. وفي عام 1979 بلغ التضخم ذروته مع قدوم بول فولكر لقيادة مجلس الاحتياط الفيدرالي، الذي بدأ سياسة متشددة ورفع الفائدة من 13 إلى 17 في المئة في أشهر معدودة، حتى بلغت مستوى قريب من الـ20 في المئة في عام 1981، وتسبب ذلك في ركود للاقتصاد وارتفعت معه نسبة البطالة إلى 7.8 في المئة. وفي عام 1982، كان الركود أطول وبلغت نسبة البطالة 10.8 في المئة، وعندما ترك فولكر موقعه كرئيس للفيدرالي في أغسطس (آب) 1987 كان التضخم قد انخفض إلى مستوى 3.4 في المئة، ومنذ عام 1983 وحتى 2022 لم يرتفع التضخم فوق مستوى الخمسة في المئة وتسببت هذه الإجراءات المتشددة الصارمة في دخول الاقتصاد رسمياً في الركود في الفصل الثالث من عام 1981. التضخم عند أعلى مستوى له منذ 40 عاماً:- خلال الأعوام الثلاثة الماضية، تعرض الاقتصاد العالمي لأزمتين، الأولى هي جائحة كورونا في 2020 والثانية هي الحرب الأوكرانية في 2022، وخلال هذه الأزمات حدثت اختلالات كبيرة في سلاسل الإمداد وصدمات أكبر لأسعار السلع عالمياً، وتسبب ذلك في موجات مستمرة من التضخم المتصاعد خلال 2022. في مايو (أيار) 2022 ارتفع التضخم إلى مستوى تسعة في المئة وهو المستوى الأعلى خلال أربعة عقود. هذه الموجة بدأت في منتصف 2021، حين ارتفع مؤشر أسعار المستهلكين إلى مستوى 5.3 في المئة في يونيو (حزيران). ثم ارتفع إلى مستوى 7.1 في المئة في ديسمبر من العام نفسه. بدأ الفيدرالي الأميركي تشديد السياسة النقدية ورفعها بـ425 نقطة أساس خلال 2022 في سبعة قرارات متتالية، كانت الفائدة في المدى بين 0.0 و0.25 في المئة في يناير 2022 وانتهت إلى ما بين 4.5 و4.25 في المئة في ديسمبر (كانون الأول) 2022. وخلال هذه الفترة استطاع «الفيدرالي» تخفيض التضخم بـ80 نقطة أساس فقط، وآخر قراءة لمؤشر إنفاق المستهلكين الشخصي، فقد تراجع المؤشر إلى مستوى 5.4 في المئة مقارنة بسبعة في المئة في يونيو 2022، لكنه لا يزال بعيداً من المستهدف السنوي للتضخم الذي يعتمده الفيدرالي وهو اثنان في المئة.
الفيدرالي الأميركي وحافة الهاوية:- في شهادة جيروم باول رئيس الاحتياط الفيدرالي، أمام لجنة الكونغرس، السابع من مارس (آذار) الحالي، تحدث عن عزم «الفيدرالي» على مواصلة رفع الفائدة التي سترتفع بأعلى من التوقعات السابقة للسيطرة على التضخم (هذه التصريحات كانت قبل انهيار بنك وادي السيليكون). في ديسمبر 2022 توقع أعضاء «الفيدرالي» أن الحد الأقصى الذي يمكن أن ترتفع إليه الفائدة هو 5.00 أو 5.5 في المئة وستبقى كذلك حتى 2024. وأشار باول إلى أن البيانات الاقتصادية الأخيرة خرجت قوية وأفضل من التوقعات مما قد يجعلهم يرفعون الفائدة مستقبلاً بوتيرة أعلى. بهذه الإجراءات يرفع «الفيدرالي» كلفة التمويل مما قد يخفض أسعار الأصول مثل الأسهم والعقارات والسندات ويرفع كلفة التشغيل للأعمال وكذلك طلبات الرهن العقاري الجديدة. السياسات النقدية التي استخدمها «الفيدرالي» العام الماضي كانت الأشد قسوة على الاقتصاد منذ 40 عاماً.

الآن سعر الفائدة هو خمسة في المئة، يتوقع أن ترتفع إلى 5.5 في المئة خلال الأشهر المقبلة، السؤال هنا: هل هذا كافٍ لكبح جماح التضخم؟ يبدو أن هذا غير كاف وربما يضطر الفيدرالي إلى مزيد من رفع الفائدة وهذا يعتمد بدرجة كبيرة على البيانات الاقتصادية التي تصدر خلال الفترة القادمة. بعض التقديرات تشير إلى أن أي زيادة لسعر الفائدة بـ50 نقطة أساس سيظهر أثرها بعد ثلاثة أشهر (وهذا فعلاً ما حدث مع أزمة بنك وادي السيليكون) وزيادة 100 نقطة أساس سيظهرها أثرها على الاقتصاد بعد عامين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى