اقتصاد دولي

من هم الأثرياء الجدد في تونس؟

أثار مقطع فيديو على شبكة التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، أخيراً، اهتمام وتعجب التونسيين من شخص يرقص في ختان طفل ممسكاً بحقيبة كبيرة مليئة بالأوراق النقدية قدمها كهدية الختان.

ومن قبله ظهر أيضاً مقطع فيديو آخر يبث تسابق عديد الأشخاص في إحدى المحافظات الداخلية بتونس وتحديداً بالقيروان (وسط) لتقديم تهان لأحد العرسان من خلال استعراض حقائب مليئة بمئات آلاف الدينارات.

وعكست هاتان الواقعتان اندهاش التونسيين من حجم الأموال المتداولة والثراء الظاهر على عديد من الأشخاص إلى درجة إنفاق نحو 400 ألف دينار (130 ألف دولار) في ليلة واحدة في إطار احتفالية عرس.

وجه الاستغراب أن هذا البذخ يتزامن مع أزمة مالية خانقة تمر بها البلاد وتراجع واضح لجل المؤشرات الاقتصادية في السنوات الأخيرة، لذلك يتساءل التونسيون بحيرة وانشغال عن مظاهر الثراء الفاحش البارزة على مستوى حجم الأموال المتداولة والسيارات الفارهة والعقارات الفارهة؟

استغلال ضعف الدولة وتغير النظام السياسي

ورأى بسام النيفر المتخصص المالي أن “ظاهرة الأثرياء الجدد في تونس في الواقع كانت موجودة في تونس لأشخاص قريبين من نظام الحكم السابق لسنة 2011 ممن يشتغلون بواسطة أشخاص آخرين لا سيما في مجالات التهريب وبعد سنة 2011 إثر تغيير النظام في البلاد وهرب المقربين من النظام السابق واصل هؤلاء الأشخاص نشاطهم في التهريب والتجارة الموازية”.

ومن مجرد مهربين بالمناولة لفائدة الأفراد المقربين من النظام السابق تحولوا إلى أثرياء جدد متحكمين بخيوط لعبة التهريب والمضاربة بعديد من المنتجات ليواصلوا التغول والسيطرة على دواليب الاقتصاد تحت الغطاء السياسي والحزبي بتمويل الحملات الانتخابية لعدد من الأحزاب التي مسكت الحكم في البلاد.

أضاف النيفر لـ”اندبندنت عربية” أنه على رغم التغيرات السياسية الجذرية التي حدثت في تونس بعد 25 يوليو (تموز) 2021 بإحكام الرئيس التونسي قيس سعيد قبضته على مقاليد السلطة في البلاد، فإن الأثرياء الجدد واصلوا سيطرتهم على قطاعات عدة، بل إنهم تمكنوا من تجفيف السوق في عديد من الأوقات لغرض تحقيق أرباح أكبر.

وفي زاوية أخرى أقر النيفر أنه “على رغم أن الأثرياء الجدد والواصلين إلى هذه المرتبة غير المشروعة بفضل التهريب الذي أضر بالاقتصاد التونسي، فإن لهم دوراً اجتماعياً مهماً من خلال تأمين آلاف الوظائف للمواطنين بعوائد مالية مجزية، إذ تعادل الأجرة اليومية للمهرب الواحد على الحدود التونسية الجزائرية – الليبية ما يعادل أجر موظف تونسي”.

لكل حقبة أثرياؤها

لكل حقبة زمنية أثرياؤها في تونس إذ يبرز أشخاص أغنياء مستغلين الظرفية الاقتصادية وهؤلاء تنطبق عليهم مقولة “أثرياء الحرب”، فمنذ استقلال تونس في مارس (آذار) 1956 عرفت البلاد أجيالاً من الأغنياء أسهمت بشكل مهم في بناء اقتصاد البلاد وتأثيث المشهد الاقتصادي والمالي.

ومع التغيرات الاقتصادية العالمية المتسارعة وحركة انفتاح الأسواق وتحررها وتنامي المبادلات التجارية تغيرت المقاييس الاقتصادية في تونس وحملت معها جيلاً جديداً من الأثرياء.

وفقاً لبيانات البنك الدولي، فإن 10 في المئة من الأثرياء في تونس يمتلكون قرابة 40 في المئة من الناتج المحلي، بينما 10 في المئة من الأشخاص العاديين يمتلكون نحو 3.2 في المئة من الناتج.

ومع اللحظات الأولى للاستقلال كانت الدولة الفاعل الاقتصادي الرئيس والمستثمر الأول في البلاد وقاطرة لبقية القطاعات على غرار السياحة والفلاحة والصناعة والمالية، ولكن مع تخارج الدولة منذ سبعينيات القرن الماضي التدريجي من القطاعات التنافسية بتقليل حصتها في نصيب في هذه الميادين برزت عائلات بعينها واستفادت بشكل مهم ومشروع من هذه الوضعية الملائمة.

ومع مرور السنوات ظهرت مجموعة عائلات حققت أرباحاً طائلة ومهمة إثر استحواذها على عدد من القطاعات خصوصاً في قطاعات السياحة والصناعة والصناعات الغذائية والمصارف، لتنضاف إليهم شريحة أخرى من الصناعيين الأغنياء عرفوا كيف يستغلون حركة انفتاح الاقتصاد التونسي لا سيما من خلال قانون 1972 المحفز على إنشاء معامل للتصنيع والتصدير إلى أوروبا خصوصاً في قطاعات النسيج على إثر شراكات مع أهم العلامات الدولية في المجال.

وحقق هؤلاء الصناعيون بفضل هذا القانون المحفز ثروات جد مهمة كبيرة بعدما أحكموا السيطرة على مفاصل مهمة في اقتصاد البلاد إلى الآن مع تغلغلهم في مراكز اتخاذ القرار خصوصاً في المنظمات المهنية (منظمات الأعراف) بهدف تحصين مركزهم وتقربهم من مواقع صنع القرار الاقتصادي والسياسي.

عائلات تمسك بدواليب الاقتصاد

ويلخص حوار سفير المفوضية الأوروبية السابق في تونس باتريس برغاميني الذي أدلى به إلى صحيفة “عالم أفريقيا” في سنة 2019 بأن عائلات تونسية ثرية بعينها تحكم السيطرة الاقتصاد التونسي وتمسك بدواليبه.

وعموماً فإن بعض العائلات المتنفذة في البلاد لا ترغب ولا ترى مصلحة لديها لبروز جيل من المستثمرين الشبان ما عطل المبادرة الخاصة في السنوات الأخيرة.

ويطغى على المشهد الاقتصادي التونسي في الفترة الأخيرة سيطرة العائلات الغنية على عدد من القطاعات الحيوية والاستراتيجية بتكوين مجمعات اقتصادية على غرار البنوك والصناعات التحويلية والصناعات الغذائية والصناعات الميكانيكية والكهربائية إلى درجة أن عدداً من هذه المجمعات الاقتصادية أخذ بعداً دولياً بتركيز مصانع في البرتغال وفرنسا وإندونيسيا.

ضرر اقتصادي فادح

من جهته، أكد أستاذ الاقتصاد بـ “الجامعة التونسية” معز السوسي ضرورة التفرقة بين الأثرياء أو الأغنياء الذين يقومون باستثمارات مهمة في البلاد ويؤدون واجبهم الضريبي بانتظام ويسهمون من موقعهم في تحقيق فائدة اقتصادية واجتماعية للبلاد، والأثرياء أو الطبقة الجديدة التي وصفها بـ”المستكرشة” الذين لا يمكن وجودهم من تأسيس مقومات اقتصاد منظم، وقال لـ”اندبندنت عربية” إن “ظهور شريحة متنامية من الأثرياء الجدد ارتبط تحقيقهم لأرباح كبيرة من دون أن تستفيد منهم المجموعة الوطنية خصوصاً على مستوى خلق فرص عمل واستثمارات جديدة”.

واستند السوسي في تحليله لوضع الأثرياء الجدد إلى تراجع مؤشر مساهمة القطاع الخاص في الاستثمار الخاص في البلاد في السنوات الأخيرة، إذ تراجع الاستثمار الخاص من 66 إلى 48 في المئة، أخيراً، إلى جانب انخفاض الاستثمار الكلي في البلاد إلى ما دون 16 في المئة من الناتج الداخلي الخام بعد أن كان 24 في المئة قبل 2011، وتابع أن “الأثرياء الجدد في تونس لا يكرسون الأرباح لخلق الثروة في البلاد بل يحققون مصالحهم الشخصية الضيقة بتكديس الأموال والتهرب ضريبياً مع الاستفادة من منظومة الدعم والتحويلات الاجتماعية”، محذراً من تراجع الطبقات المتوسطة في تونس الدافعة لرافعة الاستهلاك في البلاد مقابل التوسع في طبقة الأغنياء الجدد في ظل ضعف الرقابة الضريبية مع تغول بارز للقطاع غير المنظم، واصفاً هؤلاء الأثرياء بالكارثة.

اصطياد فرص الربح السهل

كما حذر السوسي من خطورة تلك النوعية من الأثرياء إذ إنهم يمتلكون القدرة على اصطياد فرص الربح السريع السهل خصوصاً في مجال تجارة السلع ذات الجودة المتدنية كما يلجأ كثير منهم إلى تسهيل عمليات الإقراض بسعر فائدة مرتفعة بشكل غير قانوني لشريحة كبيرة من المواطنين مما يجدون صعوبة في الوصول إلى التمويل البنكي للإقراض، إذ إن تلك العمليات تحقق لهم عوائد مالية كبيرة في ظرف زمني وجيز، وانتقد أستاذ الاقتصاد بـ “الجامعة التونسية” ضعف هياكل الدولة وتصلب القوانين المكبلة للمبادرة وللاستثمار مما دفع بعدة شرائح إلى النفور من الاقتصاد المنظم وهو ما ساعد الأغنياء الجدد في التغول والتمركز في أهم مفاصل الاقتصاد التونسي، ودعا السوسي إلى ضرورة البحث عن أسلحة اقتصادية ذكية ملائمة لإدماج هؤلاء الأثرياء في الاقتصاد الرسمي للإسهام في الواجب الضريبي ودفع الاستثمار الخاص وعدم الاقتصار على مقاربة أمنية قد تزيد من تعكير الأمور بتفاقم ظاهرة التهرب الضريبي وتغول الاقتصاد الموازي.

مهن جديدة قد تجعلك ثرياً

بعيداً من الثراء غير المشروع فإن هناك وفق الدراسات والواقع الاقتصادي للبلاد مهناً وقطاعات مربحة ومجدية قد تجعل صاحبها ثرياً بطرق مشروعة ونزيهة عكس أثرياء التهريب.

فعلى رغم أن المنوال التونسي بلغ حدوده فإن الظرفية الاقتصادية الوطنية والدولية بصدد فرض منعرج مهم للاقتصاد التونسي الذي بات حالياً يخلق شريحة جديدة من الأغنياء لا سيما وأن التوازنات الجيوسياسية وتغير الاقتصاد العالمي بصدد إبراز وجه جديد للأثرياء التونسيين الجدد.

وتؤكد التحاليل الاقتصادية ظهور جيل جديد من الأغنياء خلال العقدين أو الثلاثة عقود المقبلة في مجال الذكاء الاصطناعي والشركات الناشئة التونسية المحققة لنتائج باهرة وطنياً ودولياً.

وأكبر دليل على ذلك اقتناء مخبر “بيونتاك” الألماني مستنبط لقاح كورونا لشركة ناشئة تونسية تحمل اسم “انستاديب” المتخصصة في الأدوية بقيمة تقارب 448 مليون دولار، علاوة على شركة “اكسبنسيا” الناشئة المتخصصة في تطوير البرمجيات التي نجحت في تعبئة أموال بقيمة 20 مليون دولار، ومن يوم لآخر تتعدد قصص نجاح شركات تونسية لأصحابها الشبان وفي ميادين ذات إضافة عالية على غرار خدمات المحاسبة والمالية وتحليل البيانات التي دخلت في شراكات مع كبرى الشركات العالمية المتخصصة في هذه الميادين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى