مقالات اقتصادية

المعدن الاصفر (الذهب) لم يعد وسيلة تحوط من الشدائد

كتب أسامة صالح

من يتذكّر الوضع خلال عقد الثمانينيات من القرن الماضي أو قرأ عن تلك الفترة، ربما يعتبر أن سعر الذهب بلغ مستوى دراماتيكياً متغيراً للغاية. خلال سنوات “بريتون وودز” التي أعقبت الحرب، كان سعر الذهب مستقراً عند 35 دولاراً للأونصة، ولكن بعد أن قطع (الرئيس الأميركي) ريتشارد نيكسون آخر صلة ارتباط بين الدولار والذهب في عام 1971، ارتفعت أسعاره إلى أكثر من 800 دولار للأونصة بحلول عام 1980، الأمر الذي تحققت معه الثروات، وانتشرت فئة مكتنزي الذهب وازدادت أعدادهم، حتى أصبح سعر المعدن النفيس مسلسلاً مشوّقاً بشكل يومي. واعتبر العديد من المعلقين أن ارتفاع سعر الذهب بمثابة نذير شؤم يهدد كلاً من العملة الورقية والحضارة الغربية.

حتى لو تداول الذهب حول مستوى قياسي مرتفع يبلغ 2000 دولار في هذه الأيام، فهو مملّ بعض الشيء ومن المرجّح أن يظل كذلك في المستقبل المنظور. وفقاً لدراسة جديدة من المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية، اتبعت أسعار الذهب بعض المبادئ المعيارية إلى حد ما منذ عام 1990 على الأقل. والأمر ببساطة يتمثل في أن أسعاره تنخفض عندما ترتفع أسعار الفائدة الحقيقية. وذلك لأن الذهب نفسه ليس له عائد مباشر، لذلك تزيد تكلفة فرصة حيازة الذهب عند معدلات الفائدة المرتفعة. في هذا الصدد، يشبه الذهب العديد من الأصول الأخرى، بما في ذلك العملات المشفرة وأسهم شركات التكنولوجيا والعقارات.

إن ارتفاع (أو انخفاض) سعر الذهب مرهون أيضاً بارتفاع (أو انخفاض) الطلب عليه كسلعة. لذلك، إذا أصبحت الصين، على سبيل المثال، قوة اقتصادية عالمية كبرى، فإن الاقتصاد الصيني سيحتاج إلى المزيد من الذهب، حتى لو اقتصرت استخداماته على كونه سلعة أساسية؛ وهذا بدوره سيرفع أسعاره، كما حدث في عام 2002. هناك أيضاً طلب كبير على الذهب والمجوهرات من الهند؛ فإذا أصبحت تلك الدولة أكثر ثراءً، فإن هذا سيعزز أيضاً الطلب على الذهب وبالتالي يرتفع سعره.

الارتباط بأسعار الفائدة
في ظل كلتا الآليتين، لم يعد الذهب وسيلة جيدة للتحوط في مواجهة الأوقات العصيبة، لأنه يرتبط بكل من أسعار الفائدة المنخفضة والنمو الاقتصادي العالمي. يتحوّل الذهب إلى أصل اقتصادي دوري آخر، وهذا جزء كبير من سبب عدم متابعة أسعار الذهب عن كثب أو اعتبارها بوادر دالّة على الانهيار الاجتماعي والاقتصادي. بدلاً من ذلك، سيكون جيداً أن يكون لديك سعر مرتفع أو متصاعد للذهب.

بدا سعر الذهب مثيراً للغاية حوالي العام 1980 لأن الأسواق والأسعار قد لُجمت لفترة طويلة في السنوات السابقة. وعليه، ففي ذلك الوقت، تعذرت بشدّة معرفة القيمة الحقيقية للذهب لأن الأسعار المختلفة لم تُختبر كثيراً في الأسواق ولم تخضع لإجراءات السوق من حيث التجربة والخطأ واكتشاف القيمة.

هنا يبرز درس أوسع قد يشمل العملات المشفرة أيضاً. إذا كانت الحكومات ترغب في تطبيع أحد الأصول وتسعيره، فإنها غالباً ما تبذل قصارى جهدها من خلال قدر من التجاهل الخفيف وفي غضون فترة زمنية بسيطة.

يتمثل الدرس الآخر الموسّع في أن التاريخ الحديث لأسعار الذهب لا يبشر بالخير لأي محاولة مستقبلية لإعادة إرساء معيار الذهب. على الرغم من الانتقادات التي وُجّهت إلى معيار الذهب -والذي أطلق عليه كينز “بقايا بربرية”- فقد أرسى المعيار البريطاني في القرن التاسع عشر أداءً اقتصادياً كلياً جيداً إلى حد معقول. ولا يزال العالم الحديث لديه بعض الميزات المختلفة للغاية. وفي القرن التاسع عشر، كانت معدلات النمو في الاقتصادات الناشئة بطيئة، واتسم الطلب على الذهب كسلعة بالاستقرار النسبي، مما دفع إلى استقرار مستويات الأسعار.

ضغوط انكماشية
في الآونة الأخيرة، يمكن لاقتصادات مثل الصين الانخراط في نمو سريع للحاق بالركب، والذي بدوره يمكن أن يسبب زيادات حادة (وفي بعض الأحيان انخفاضات) في أسعار السلع الأساسية. على سبيل المثال، كانت الزيادة في أسعار الذهب خلال الفترة من 2002-2012 (أكثر من أربع مرات) ستؤدي إلى ضغوط انكماشية قوية في الاقتصاد العالمي. إذا كان سعر وحدة من الذهب ثابتاً، كما هو الحال في معيار الذهب، فإن الزيادة في القيمة النسبية للمعدن النفيس تعني أن جميع الأسعار والأجور الأخرى يجب أن تتواءم مع الاتجاه الهبوطي، وهو سيناريو اقتصادي كلي مخادع.

هذه التحولات الكبيرة في القيمة النسبية للذهب ستكون كارثية في ظل معيار الذهب، لكنها في ظل الوضع الراهن ليست أخباراً ذات أهمية بارزة. الذهب، شأنه شأن العديد من السلع الأخرى، لا يتسم بمرونة العرض إلى حد ما على المدى القصير. هذا يعني أنه إذا زاد الطلب، فسوف يستغرق الأمر بعض الوقت قبل أن يتوفر المزيد من الذهب في السوق. في غضون ذلك، قد يرتفع سعر الذهب بشكل حادّ، تماماً كما قد ينخفض بشكل حاد عندما يتباطأ الطلب. لكن في كلتا الحالتين، لا يطرح لنا سعر الذهب توقعات كبيرة عن المسار المستقبلي الأوسع لتاريخ العالم. مرة أخرى لدينا سوق ذهب محايدة إلى حد كبير.

يفضّل المعلقون في الأسواق المالية التركيز على الألغاز، وفقاعات المضاربة، والانهيارات. لكن في بعض الأحيان تكون الحقيقة أكثر بساطة من ذلك، ونرى ذلك حتى بالنسبة لأسعار الذهب. تعد هذه الفكرة صادمة ومتناقضة إلى حد ما. لكن الكثير في العالم، بما في ذلك عالم الاقتصاد، يبدو منطقياً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى