منوعات اقتصادية

في سوق الأسهم .. هل يكرر التاريخ نفسه بالفعل أم يوهم المتداولون أنفسهم بذلك؟

“التاريخ يكرر نفسه”.. هذا الشعار معروف ومنتشر بشدة وكثيرًا ما نجد نماذج تؤكده، ومن ذلك الثلوج التي هزمت الكثير من المستعمرين الذين حاولوا غزو روسيا، مرورا بالشركات التي سقطت من على القمة بسبب التوقف عن التطور، أو الأوبئة التي تنتشر بأسلوب متشابه بين البشر منذ بدء الخليقة.

 

وبناء على ذلك يسعى المتداولون للأسهم إلى فهم تاريخ الأسواق في محاولة منهم للوصول إلى أفضل صيغة تمكنهم من فهم طريقة عملها، بما يسهم في حصولهم على الأرباح ويجنبهم الخسائر، ويرفعون في ذلك شعارا بأن من يدرس التاريخ يتجنب الوقوع في أزمات المستقبل، ولكن هل هذا الأمر يعد حقيقيا وفعالا؟

 

 

العودة إلى التاريخ القديم

 

ونبدأ بتناول منطق دراسة التاريخ على المدى الطويل، وعلى سبيل المثال تشير الدراسات إلى أن قرابة 25% من انهيارات أسواق الأسهم حدثت بسبب بيع الفزع أو الذعر “دون وجود سبب واضح”، وذلك بعدما ارتفعت أسعار الأسهم قبلها بسبب الطمع، ولكن هل يعني ذلك أن التاريخ بالفعل يكرر نفسه في كافة حوادث الصعود والتي يتبعها انهيار حاد؟

 

والشاهد أن الغالبية الكاسحة من حوادث الانهيار الكبير بسبب بيع الذعر غير المبرر (قرابة 95%) حدثت بين عام 1796 إلى 1900، وذلك وفقا لآراء المحللين بسبب غياب أي قدر من العلم المتعلق بالبورصة وسيادة كبيرة لمنطق المغامرة على حساب التحليل بأي شكل من الأشكال.

 

أما في الوقت الحالي فإنه لا يمكن تخيل حدوث عمليات بيع واسعة النطاق “بلا سبب”، فقد يبالغ بعض المتعاملين هذه الأيام في تأثير حادث اقتصادي ما بما يدفعهم للبيع المدفوع بالذعر، ولكن بعض رؤوس الأموال الأكثر هدوءا ستُبقي بعض الاستقرار في الأسواق من خلال الشراء أو عدم الانجراف في البيع بأقل تقدير.

 

وفي هذا الإطار يمكن القول إنه من أصل أكثر من 50 انهيارا كبيرًا لأسواق الأسهم عبر التاريخ فإنه باستثناء تلك التي ذكرناها أو “غير المبررة” وهي قرابة 14 انهيارا، فإن البقية كلها بلا سبب مشترك واضح ومباشر، وإن كانت هناك تشابهات بالطبع (لا سيما في عنصري الطمع والهلع وتضخم الأصول).

 

التاريخ القريب والتحليل الفني

 

ويستخدم الكثير من المتداولين أسلوب التحليل قصير المدى للتاريخ، وعلى سبيل المثال يعتمد المضاربون على أسلوب التحليل الفني بما فيه من أساليب متنوعة أبرزها الشموع اليابانية اعتقادًا منهم بأن التاريخ يعيد نفسه باستمرار وكل تلك الأساليب تعتمد على فكرة تتمحور حول مستويات الدعم والمقاومة والتي تتمركز بالأساس حول فكرة مركزية وهي أن الأحداث تتكرر.

 

 

وهناك أكثر من دليل على عدم دقة هذا التصور، ولعل أبرزها أن 8-10% من المتداولين في سوق الأسهم يحققون أرباحًا فحسب، بينما تنخفض النسبة بحدة في حالة المضاربة إلى 1-2% بما يؤكد أن الرهان على تكرار التاريخ لأحداثه ليس صحيحًا على إطلاقه وأنه يتسبب في خسائر أكثر ما يتسبب في مكاسب.

 

وتشير دراسة إلى أن الشيء الوحيد الذي يجعل المضاربات تفلح في بعض الأحيان في الوقت الحالي هو وجود تيار قوي، يتم الترويج له من خلال الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بأن هناك مستوى دعم ستعاود الأسهم بعده الارتفاع لأنها ستكون مغرية للشراء، وبالتالي يقبل كثيرون على الشراء في هذا المستوى ليس لأنه مستوى جيد بالفعل وفقًا للسوابق التاريخية ولكن لأن التوقع بالزيادة قد تحققها.

 

الأسهم والعملات المشفرة أيضا

 

وتتضح هذه الظاهرة أكثر في سوق العملات الرقمية مثلا، حيث تشير الإحصاءات إلى أن قرابة 93% من المتعاملين في السوقين الأمريكي والهندي (وهما الأكبر عالميًا) يحصلون على معلوماتهم حول ارتفاع أو انخفاض السوق من خلال 8 مواقع إلكترونية فحسب بما يجعل لها تأثيرًا كبيرًا على تحريك الأسواق فقط بنشر توقعات تفيد باتجاه معين  (وتزداد تلك القدرة حال وجود تنسيق ما بين تلك الجهات).

 

وفي هذا الإطار فإن محاولة استقراء حركة التاريخ في أسواق العملات الرقمية، وأسواق الأسهم الشبيهة بها من حيث المغامرة الشديدة، هي جهد ضائع بالكلية، لا سيما في ظل التقارير التي تشير إلى أن نسب استحواذ “حيتان” العملات المشفرة تبلغ حدوداً مرتفعة للغاية تبلغ 90% في بعض العملات الصغيرة وقرابة 40% في حالة ثاني أكثر العملات الرقمية تداولا وهي الإيثيريوم بينما تختلف التقديرات حول البيتكوين.

 

ففي ظل هذه الحالة كيف يمكن الرهان على أن التاريخ يعيد نفسه إذا كان هناك تحكم كبير في كيفية سير الأحداث من جانب بعض المحتكرين، وهذا ما يمكن تشبيهه في حالة أسواق الأسهم بالشركات التي يستحوذ عدد محدود من المستثمرين على نسبة كبيرة من أسهمها بما يجعل قدرتهم في التأثير السعري خارج قدرة المتداول على التقدير.

 

 

الدرس واضح وقليل يلتزمون

 

والتاريخ يسري أحيانًا بمنطق اتخاذ العبرة، فعندما يشير المحلل المالي الشهير “ديفيد كوهين” في كتابه حول الأسواق والهلع والطمع إلى أن أكثر من 90% من أزمات أسواق المال تاريخيًا حدثت بشكل أو بأخر بسبب المخاوف أو الأطماع غير المنطقية فإن هذا يشكل ناقوس خطر دائمًا يجب على المتعاملين وضعه نصب أعينهم أو درسا مستمرا لاستحضاره.

 

ولكن “كوهين” نفسه يشير إلى أن الأزمة الحقيقية أن كثيرا من المتعاملين يعلمون تاريخ أسواق الأسهم ومدى خطورة الانقياد وراء الأطماع أو المخاوف، ومعض ذلك فإن غالبيتهم لا يستطيعون منع أنفسهم من ذلك، أو كما يقول: “القواعد دائما واضحة ولكن المعضلة دائما هي من يستطيع اتباعها بشكل سليم ودائم؟”.

 

وبشكل عام فإنه يندر أن نجد فقاعتين تكررتا في سوق الأسهم للأسباب نفسها على الأقل خلال المائة عام الأخيرة، ولكن المؤكد أن لكل منها مقدمات.

 

وتبدأ من خفض أسعار الفائدة وتيسير القروض العقارية الأمريكية في عام 2003 بما أدى لاحقًا للأزمة المالية العالمية في 2008، أو المضاربات على السوق العقارية في اليابان في نهاية ثمانينيات القرن الماضي اعتقادًا بأن “العقار سعره لا ينخفض” بما أدى لانهيار بعض أسعار العقارات بنسبة 95% في بداية التسعينيات.

 

 

أنماط تتكرر وليس التاريخ

 

فهنا قد لا يقدم التاريخ درسًا بعينه في بعض الحالات قدر ما يقدم إشارة إلى أنه يجب التنبه إلى العلامات مبكرًا بدلا من الوقوع في فخ الفقاعات التي دائما ما يكون لها تمهيد (فهي ليست حدثا طبيعيا كإعصار أو وباء مثلا).

 

كما قال الكاتب الأمريكي “مارك توين”: “التاريخ لا يعيد نفسه بشكل كلي، لكن بعض الأنماط تفعل”، أو كما يقول الكثيرون في تحذيرهم من الدخول إلى الأسواق دون تحضير كاف “أن الأسواق ستظل غير عقلانية أو رشيدة أكثر من قدرتك على البقاء متمسكًا بأفكارك”، ولذا فإن تاريخ الأسواق هام للغاية للفهم واستقراء الدروس وللتحرك مستقبلا وليس لتوقع تكرار ما حدث بالماضي مجددًا.

 

المصادر: أرقام- كتاب ” Fear, Greed and Panic: The Psychology of the Stock Market”- كوين بيز- إيكونوميست- فاينانشيال تايمز.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى