مختارات اقتصادية

ما الذي كان سيحدث إذا لم تتوصل الولايات المتحدة إلى اتفاق بشأن سقف الدين؟

تتكرر كل عدة سنوات أزمة سقف الدين الأمريكي التي تهدد عادة بإغلاق الحكومة بسبب تجاوزها الحد الأقصى للديون البالغ 31.4 تريليون دولار حتى يتم التوصل في اللحظة الأخيرة إلى اتفاق بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي بشأن تعليق السقف أو زيادته.
وأعلن الرئيس الأمريكي «جو بايدن» والنائب الجمهوري في الكونجرس «كيفن مكارثي» عن اتفاق مبدئي لتعليق سقف الدين، منهياً بذلك جموداً استمر لأشهر.
لكن في أذهان الجميع ومع تكرر الأزمة يدور سؤال مهم ماذا لو لم تتوصل الولايات المتحدة إلى اتفاق بشأن سقف الدين ونفذت وكالة «فيتش» للتصنيف الائتماني تهديدها بخفض تصنيف أكبر اقتصاد في العالم.
وكانت «فيتش» قالت إنها قد تخفض تصنيفها الائتماني للولايات المتحدة بسبب أسباب من بينها تزايد النزعة الحزبية التي تعرقل التوصل إلى قرار بشأن سقف الدين على الرغم من الاقتراب سريعا مما يطلق عليه «تاريخ إكس» وهو الوقت الذي سينفد فيه النقد في واشنطن.
ووضعت فيتش الولايات المتحدة في «قائمة المراقبة السلبية» وفي الوقت ذاته وضعت وكالة التصنيف الائتماني الأقل شهرة «دي.بي.آر.إس مورنينج ستار» التصنيف الأمريكي عند (AAA) قيد المراجعة مع «تأثيرات سلبية».
ركود اقتصادي وموجات صدمة:- مبدئياً توقع الاقتصاديون أن يؤدي تخلف الولايات المتحدة عن سداد ديونها جراء عدم التوصل لاتفاق لرفع سقف الدين أو تجميده إلى دخول الاقتصاد في حالة ركود اقتصادي كان يحاول تحاشيها بكل السبل على مدار ما يقرب من عام، فضلا عن فقدان وظائف.
يقول الخبراء إن الخفض يمكن أن يسبب أيضا موجات صدمة في أنحاء الاقتصاد العالمي وكذلك قد يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض للحكومة والأميركيين أنفسهم.
وفي أواخر يناير، أبلغ بنك «جولدمان ساكس» شبكة «سي.إن.إن» أن وقوع أزمة كاملة بشأن سقف الدين قد يؤدي إلى ركود. ومن شأن حدوث تخلف فعلي عن سداد الديون الأمريكية أن يؤدي إلى حالة من الفوضى في وول ستريت وفي الاقتصاد بشكل عام، وقد يؤدي إلى تأخير مدفوعات لمتلقي الضمان الاجتماعي والعاملين في القوات المسلحة وقدامى المحاربين.
وبعد صدور تقرير فيتش، ارتفعت تكلفة التأمين على الديون السيادية الأمريكية من خطر التخلف عن السداد في عقود المشتقات، فيما قال متحدث باسم البيت الأبيض إن التقرير يظهر الحاجة الملحة للتوصل إلى حل سريع وهو ما حدث بالفعل. وقال «نيكولاج شميدت» كبير الاقتصاديين لدى شركة «تي.رو برايس» إن السيناريو الأسوأ هو أن يؤدي إغلاق الحكومة الأمريكية إلى أن تفوت الحكومة سداد ديون للمرة الأولى مما قد ينتج عنه خفض واسع أو «دائم للتصنيف الائتماني لسندات الخزانة الأمريكية». وأضاف «العديد من الأصول يتم تسعيرها بشكل يرتبط مباشرة بسندات الخزانة الأمريكية بحيث سيظهر الاضطراب الناجم عن خفض أكثر وضوحا في الأسواق على مستوى العالم». وحذر خبراء استراتيجيون في «جيه.بي مورجان تشيس» و»مورجان ستانلي» من أن المأزق يهدد آفاق أسواق الأسهم، بينما يكون المتعاملون مراكز في عقود المبادلة والخيارات للعملات الرئيسية لتحويط محافظهم.
ويقول الخبراء إن خفض التصنيف الائتماني قد يؤدي إلى ارتفاع عملات الملاذ الآمن مثل الين الياباني كما ستصعد عوائد سندات الخزانة القياسية لأجل عشر سنوات في ظل توقعات باستمرار أسعار الفائدة في الارتفاع مع استمرار أزمة الديون.
تحذير مبكر:- لكن حتى قبل صدور تقرير فيتش الأخير، حذرت الوكالة في وقت مبكر من أن الطبيعة المتكررة للمواجهات السياسية بشأن سقف الدين تنذر بخفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة.
وقال «جيمس ماكورماك» الرئيس العالمي للتصنيفات السيادية لدى فيتش في مقابلة: «نشعر بالقلق أكثر هذه المرة».
وكتب المحلل المصرفي «آر كريستوفر والين» من «والين جلوبال أدفايسرز» أن الكونجرس يمارس لعبة خطرة بشأن سقف الديون. وأضاف «نعتقد أن حجم الدين الأمريكي يتطلب بالفعل خفض التصنيف الائتماني. مجرد الزيادة في تكاليف خدمة الدين سبب كاف لاتخاذ إجراء بشأن التصنيف».
ويقول محللون إن التصنيف الائتماني المتميز الذي تتمتع به الولايات المتحدة من وكالتي «فيتش» و»موديز» لا يرجع إلى الأساسيات المالية الأساسية وإنما إلى مكانة أمريكا البارزة في العالم المالي. فالدولار الأمريكي هو عملة الاحتياط العالمي ويتم التعامل مع سندات الخزانة الأمريكية على أنها خالية من المخاطر، وهما أمران يمنحان الولايات المتحدة قوة مالية لا مثيل لها.
لعقود مثلت سندات الخزانة الأمريكية أكبر سوق سندات في العالم وفي أوقات الاضطراب كان المستثمرون يندفعون عادة لشرائها باعتبارها ملاذا آمنا. لكن «ماكورماك» يحذر من أن الحلقات المتكررة من الجدل الدائر بشأن رفع سقف الديون البالغ 31.4 تريليون دولار تنتقص من هاتين الميزتين.
وكلما اقتربت الولايات المتحدة من «الموعد إكس» لنفاد الأموال فعليا، زاد عدد المستثمرين الذين يضطرون إلى مواجهة ما لا يمكن تخيله وهو تخلف كارثي عن سداد الديون. وقال «ماكورماك» إنه عندما يتعين على المستثمرين التفكير في هذا الأمر، «فإن ذلك ليس ما تصبو إليه في الأصول الخالية من المخاطر، أليس كذلك؟» مضيفا أن الناس قد يرغبون في إعادة تقييم ما إذا كانت سندات الخزانة خاوية من المخاطر حقا. وردا على سؤال ما إذا كانت وكالة فيتش يمكن أن تخفض تصنيف الولايات المتحدة، حتى لو تجنبت واشنطن التخلف عن السداد هذه المرة، قال «ماكورماك» إن ذلك سيعتمد على رد فعل الأسواق المالية العالمية.
وقال: «إذا كان رد فعل السوق هو التشكيك في دور الدولار في المستقبل كعملة احتياطية للعالم وسوق أدوات الخزانة كأصل عالمي خال من المخاطر، فإننا بالتأكيد يمكننا ذلك (خفض التصنيف)».
ضغوط مالية:- في الوقت ذاته قالت وكالة «موديز» في تقرير حديث إن خفض تصنيف الديون الأمريكية يمكن أن يؤدي إلى ضغوط مالية على مجموعة من الكيانات المرتبطة بالحكومة الأمريكية مثل وكالتي الرهن العقاري «فاني ماي» و»فريدي ماك» وكذلك شركات القطاع الخاص المنكشفة بشدة على الإنفاق الفيدرالي. يشير محللون إلى أن خفض التصنيف قد يؤدي إلى بيع قسري للديون. ويشتري العديد من حاملي السندات ومن بينهم المستثمرون في صناديق أسواق المال الديون ذات التصنيفات المرتفعة للغاية فحسب، مما يعني أن خفض التصنيف قد يؤثر على طلب تلك الديون. لكن ثمة محاذير يمكن أن تحد من البيع القسري على نطاق واسع. ولا تتطلب قواعد ولوائح صناديق سوق المال التصفية الفورية للديون عند التخلف عن السداد وفقا لما تشير إليه «جيه.بي مورجان»، مضيفة أن مجالس إدارة تلك الصناديق من المحتمل أن يكون لها سلطة تقديرية بشأن الاحتفاظ أو البيع. وهناك عدد قليل من تلك المجالس قد يختار على الأرجح بيع الأوراق المالية المتعثرة عند مستويات تعاني فيها من ضغوط.
وضع أسوأ:- يقول محللون إن الأساسيات المالية للولايات المتحدة تبدو في حالة فوضوية وإنها كانت دافعا أساسيا لكي تخفض «ستاندرد آند بورز» تصنيفها للولايات المتحدة في 2011، وأضاف المحللون أن جبل الديون الهائل في الولايات المتحدة وتكاليف أسعار الفائدة زادت سوءا منذ ذلك الحين.

 

وبعد 12 عاما من خفض التصنيف الأمريكي للمرة الأولى بات الوضع المالي لأكبر اقتصاد في العالم أكثر صعوبة.

 

وارتفع الدين القومي الأمريكي من حوالي 15 تريليون دولار في 2011 إلى أكثر من 31 تريليون دولار حاليا. وكنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي، تضخم إجمالي الدين الفيدرالي من 65% في 2011 إلى 95%. ويتوقع مكتب الميزانية في الكونجرس ارتفاع النسبة إلى 132% بعد عشر سنوات من الآن.

 

رفع تكاليف الاقتراض الحكومي

 

 

 

يقول خبراء إن خفض التصنيف الأمريكي سواء كان مستندا إلى الإخفاق في رفع سقف الديون أو خطر حدوث ذلك يمكن أن يرفع أسعار الفائدة على سندات الخزانة الأمريكية مما يزيد من تكاليف الاقتراض الحكومي ويزيد من تضخم الدين الاتحادي.

 

وتكاليف الاقتراض في الولايات المتحدة تمثل مصدر قلق بالفعل في ظل واحدة من أسرع دورات التشديد النقدي التي اتبعها مجلس الاحتياطي الاتحادي منذ العام الماضي، ففي عام 2022 بلغ إجمالي مدفوعات الفائدة على جميع ديون الولايات المتحدة 710 مليارات دولار لكنه في الربع الأول من العام الجاري قفز إلى 929 مليار دولار على أساس سنوي حتى أن الولايات المتحدة تنفق على مدفوعات الفائدة حاليا بقدر ما تنفق على الدفاع.

 

يقول محللون أيضا إن خفض التصنيف قد يؤدي إلى زيادة تكاليف الاقتراض للمستهلكين والشركات. وتستخدم سندات الخزانة لتحديد أسعار أصول مثل الرهون العقارية الثابتة لمدة 30 عاما وسندات الشركات.

 

وقالت «نانسي فاندن هوتين» كبيرة خبراء الاقتصاد لدى «أكسفورد إيكونوميكس» إن سندات الخزانة ما زالت «المعيار الأساسي لمعظم عمليات الاقتراض التي تقوم بها الشركات والأسر». وقد يثبط ارتفاع أسعار الفائدة الاقتراض ويضر بالاقتصاد.

 

كما يقول «جويل براكين» كبير خبراء الاقتصاد لدى «ماكرو إيكونوميكس أدفايسرز» إن عدم اليقين بشأن قدرة الحكومة على الإنفاق قد يثير أيضا مخاوف بشأن الاقتصاد والذي يمكن بحد ذاته أن يرفع تكاليف اقتراض الشركات.

 

كما قد يؤدي ذلك إلى رفع أسعار الفائدة على التزامات العديد من الولايات والحكومات المحلية المرتبطة بسندات الخزانة الأمريكية وهو أمر قد يمثل عائقا أمام عمل تلك المؤسسات.

 

قد يؤدي تقلب الأسواق والمخاوف بشأن إمكانية تمويل الحكومة إلى تقويض التوقعات. وانخفضت ثقة المستهلك بأكثر من 20% خلال المواجهة التي شهدها الكونجرس في عام 2011.

 

ليس سيئا

 

 

 

على النقيض يقول خبراء إن الخفض الذي كان محتملا للتصنيف الائتماني للولايات المتحدة لن يكون سيئا بالقدر الذي كانت عليه الأمور في المرة الأولى التي خفضت فيها «ستاندرد آند بورز» التصنيف في 2011.

 

وخفضت «ستاندرد آند بورز» التصنيف الائتماني للولايات المتحدة من (AAA) إلى (AA+) بعد مخاوف بشأن التعثر في سداد ديون. ولم تستعد الولايات المتحدة تصنيفها من ستاندرد حتى يومنا هذا.

 

وأثار الخفض انتقادات حادة من الحكومة الأمريكية وأدى إلى موجة بيع للأصول عالية المخاطر مثل الأسهم في أنحاء العالم لكنه وللمفارقة عزز أداء سندات الخزانة الأمريكية مع سعي المستثمرين لشراء ملاذات آمنة.

 

وفي الثامن من أغسطس 2011، وهو أول يوم تداول بعد خفض التصنيف، تراجع المؤشر «ستاندرد آند بورز 500» بنسبة 6.5% وواصلت الأسهم انخفاضها ولم تستعد مستوياتها المرتفعة السابقة سوى بعد مرور ستة أشهر.

 

لكن بعد إعلان فيتش الجديد ارتفع المؤشر «ستاندرد آند بورز» بوتيرة متوسطة. ويقول محللون إن هذا يرجع إلى أن هذه لم تعد المرة الأولى التي ينخفض فيها التصنيف الأمريكي فالمرة الثانية ليست صادمة في العادة بقدر الأولى.

 

كما أن المستثمرين يدركون أن خفض التصنيف في 2011 لم يرفع تكاليف الاقتراض الأمريكية أو يسبب اضطرابا في سوق سندات الخزانة، كما كان يُخشى البعض في البداية.

 

في الواقع انخفضت أسعار الفائدة على الديون الأمريكية بعد خفض التصنيف الائتماني في 2011 مما أدى إلى خفض تكاليف الاقتراض في رد فعل متناقض للسوق على الخلل الوظيفي السياسي الذي كان ينبغي أن يؤدي نظريا إلى عقاب وليس مكافأة.

 

وعادة ما يؤدي خفض التصنيف الائتماني إلى زيادة تكلفة الاقتراض لأن المستثمرين يرون أن الدين الذي يتم خفضه أكثر خطورة ويطالبون بسعر فائدة أعلى نتيجة لذلك. لكن الولايات المتحدة مثلت استثناء في ذلك الوقت.

 

المصادر: أرقام- سي.إن.إن- ياهو فاينانس- رويترز- بلومبرج- صحيفة (يو.إس.إيه توداي)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى