اقتصاد دولي

لماذا يتعثر التعافي الاقتصادي في أوروبا؟

,,
يظهر الاقتصاد الأميركي قدراً من المرونة وتوقعات بمعدل نمو معقول هذا العام، ويظل الاقتصاد الصيني في طور نمو بأعلى من متوسط توقعات النمو الاقتصادي العالمي.

,,
وعلى رغم التباطؤ عن العام الماضي، فإن اقتصاد دول منطقة اليورو يبدو متراجعاً كثيراً، ففي أحدث تعديل لتوقعاتها، خفضت المفوضية الأوروبية توقعات النمو هذا العام لاقتصاد 27 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي.

ومع أن معدلات التضخم تتراجع في أوروبا، كما هي الحال في بقية الاقتصادات الكبرى في العالم، إلا أن أمام الاتحاد الأوروبي وقتاً أطول قبل أن يبدأ البنك المركزي الذي يضع السياسة النقدية لدول الاتحاد في خفض أسعار الفائدة. وربما يبدأ «الاحتياط الفيدرالي» الأميركي وبنك إنجلترا البريطاني في خفض أسعار الفائدة قبل «المركزي» الأوروبي، فما الذي يجعل اقتصاد دول منطقة اليورو في وضع أضعف من بقية اقتصادات العالم الكبرى؟ ولماذا يتوقع تأخر الانتعاش الاقتصادي في أوروبا ما بعد أزمة كورونا عن الانتعاش في بقية الاقتصادات المماثلة؟
صحيح أن الحرب في أوكرانيا، التي بدأت مطلع عام 2022 تؤثر على فرص الانتعاش الاقتصادي الأوروبي، لكن تأثيرها السلبي على الاقتصاد طال أغلب دول العالم وليس أوروبا فحسب، وكذلك كانت أزمة وباء كورونا في عامي 2020 و2021 لم توفر اقتصاداً حول العالم من دون أن تصبه بالضرر، وليس اقتصادات أوروبا فقط.
احتجاجات المزارعين نموذجاً:- تعود مشاكل الاقتصاد الأوروبي الهيكلية إلى ما قبل أزمة وباء كورونا، وإن كانت الأزمة ثم الحرب في أوكرانيا فاقمت تلك الأزمة، وعلى سبيل المثال، تحتل احتجاجات المزارعين الأوروبيين في الأيام الأخيرة عناوين الأخبار بعدما حاصروا مبنى المفوضية الأوروبية في بروكسل بمئات الجرارات الزراعية، وقطعوا الطريق السريع بين إسبانيا وفرنسا، فضلاً عن الاحتجاجات في ألمانيا وهولندا وغيرها.
يحتج المزارعون على قيود اتحادية من المفوضية الأوروبية تهدد مستقبل الزراعة، إلى جانب الشكوى من ارتفاع الأسعار وخفض الدعم الزراعي وغيرها، لكن مشاكل المزارعين ليست وليدة اليوم، إنما تعود إلى ما قبل عام 2019، وتفاقمت مع ما تسمى «الصفقة الخضراء» للاتحاد الأوروبي التي تتضمن إجراءات للوصول إلى «الحياد المناخي» بحلول عام 2050. من بين تلك القيود خفض استخدام السماد والمبيدات بنسبة 50 في المئة بحلول عام 2030، وتحويل نسبة 30 في المئة من الزراعة في أوروبا إلى زراعات عضوية.
لا تؤثر احتجاجات المزارعين على قطاع الزراعة الأوروبي فقط، إذ يتضرر الأمن الغذائي للقارة وتضطر للاستيراد، وإنما تطال الاقتصاد بشكل عام نتيجة تعطيل الاحتجاجات للأعمال بشكل عام، علاوة على أن الاحتجاجات ليست قاصرة على السياسات الأوروبية المتعلقة بالزراعة وحدها، بل الاحتجاجات على ارتفاع كلفة الوقود وانخفاض الأجور بشكل عام، وفي قطاع الزراعة بشكل خاص. وتتركز احتجاجات المزارعين الألمان على خطط الحكومة لرفع الدعم عن الديزل، الوقود الأساس للميكنة الزراعية، وفي فرنسا يحتج المزارعون على الإجراءات الحكومية المشددة التي تحد من النشاط، أما في هولندا فتتركز الاحتجاجات على السياسات البيئية للحكومة التي تستهدف تقليل حجم الثروة الحيوانية، في سياق خفض الانبعاثات.
يخلص تحليل لشبكة «يورو نيوز» إلى أن احتجاجات المزارعين ناجمة عن تخبط السياسات الاقتصادية الأوروبية بشكل عام، ويضيف، «قبل أن تتوفر لأوروبا فرصة التعافي من التبعات الاقتصادية، جاءت احتجاجات المزارعين لتعقد مشاكلها بالإضرار بالبنى التحتية لاقتصادات دول الاتحاد الأوروبي، وتعطل فرص انتعاش البنية التحتية الزراعية… ويمكن للاحتجاجات ألا تضر فقط بالاقتصادات الوطنية بل أن تؤثر سلباً على مستوى الاتحاد الأوروبي ككل».
تراجع آفاق النمو:- في أحدث تعديل لتوقعاتها لنمو اقتصاد دول منطقة اليورو، خفضت المفوضية الأوروبية تقديراتها هذا العام، وإن أشارت إلى استمرار معدلات التضخم في التباطؤ السريع.
بحسب ما نشر على موقع المفوضية قبل أيام، يتوقع أن يكون معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي لدول الاتحاد في المتوسط عند نسبة 0.9 في المئة، أي أقل من نصف معدل النمو الاقتصادي العالم المتوقع، وكان التقدير السابق للمفوضية أن تحقق دول الاتحاد الأوروبي نمواً بنسبة 1.3 في المئة في 2024، بينما توقعت انخفاض معدلات التضخم من نسبة 6.3 في المئة العام الماضي إلى ثلاثة في المئة في 2024، و2.5 في المئة للعام المقبل. أما البنك المركزي الأوروبي، فرسالته المتتالية للأسواق أن البدء في التيسير النقدي لن يبدأ قريباً، إذ لا يزال مسار انخفاض معدلات التضخم المتوقع أطول من التقديرات السابقة، ولا ينتظر أن تبدأ تأثيرات السياسة النقدية على معدل التضخم في الوضوح بقوة قبل النصف الثاني من هذا العام. وأظهرت أحدث بيانات صادرة عن البنك المركزي الأوروبي، الأسبوع الماضي، تباطؤ النمو في الأجور المجمعة لدول منطقة اليورو للمرة الأولى منذ عام ونصف العام، ويرى الاقتصاديون أن ذلك التراجع لن يكون كافياً لإقناع واضعي السياسة النقدية الأوروبية كي يبدأوا في خفض أسعار الفائدة. وبحسب بيانات «المركزي» الأوروبي فإن الزيادة السنوية في الأجور المجمعة في الاتحاد الأوروبي كانت بنسبة 4.5 في المئة في الربع الأخير من العام الماضي، مقارنة مع زيادة بنسبة 4.7 في المئة في الربع الثالث، في أول تراجع منذ الربع الثاني من عام 2022.
تبعات سياسية للأزمة الاقتصادية:- من الملاحظ أن أكثر المؤيدين لاحتجاجات المزارعين الأوروبيين تيارات اليمين السياسي واليمين المتطرف في الدول الأوروبية، وتستفيد قوى اليمين المتشدد تلك في زيادة شعبيتها من ارتفاع كلفة الغذاء في دول أوروبا عامة، وتدهور مستويات المعيشة والجمود في النشاط الاقتصادي بشكل الذي يعبِّر عنه إغلاق المصانع، بخاصة في أكبر اقتصاد أوروبي بألمانيا.
باستغلال كل مظاهر التردي الاقتصادي تلك، تسعى قوى اليمين المتطرف لزيادة حظوظها في انتخابات البرلمان أوروبي مطلع يونيو (حزيران) المقبل. وبحسب دراسة للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية فإن «التحالف الكبير» في البرلمان الأوروبي، الذي يضم المحافظين والديمقراطيين الاجتماعيين وأحزاب التجديد، سيفقد أغلبيته الواضحة في البرلمان الأوروبي، وسيكون ذلك بالطبع لصالح قوى اليمين المتطرف. وتشير الدراسة إلى أن التحالف ربما لا يحصل على أكثر من نسبة 54 في المئة من مقاعد البرلمان الأوروبي، في انتخابات الصيف المقبل بتراجع واضح عن نسبته الآن عند 60 في المئة من مقاعد البرلمان.
لن تكون المشكلة هي التبعة السياسية لاستغلال الأزمة الاقتصادية بصعود اليمين المتطرف في انتخابات البرلمان الأوروبي، بل سينعكس ذلك اقتصادياً في ما بعد بشكل الدائرة المفرغة، فبرلمان أوروبي يحظى فيه اليمين المتطرف بنسبة معطلة سيحد من قدرة المفوضية الأوروبية على اتخاذ إجراءات إصلاح هيكلي ضرورية لإنعاش الاقتصاد وتحقيق التعافي المأمول.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى