مقالات اقتصادية

التكنولوجيا تغير المبادئ المعروفة بالنسبة للسلع الأساسية

كتب أسامة صالح

كل طالب يغوص في دراسة أسواق السلع الأولية يكتشف سريعاً المبدأ الأساسي المتداول في هذا المجال، وهو أن “انخفاض الأسعار يحل مشكلة انخفاض الأسعار، بينما يعالج ارتفاع الأسعار مشكلة ارتفاع الأسعار”.

هذا المفهوم يسلط الضوء على طبيعة دورة الرخاء والركود التي تتميز بها سوق السلع الأولية، حيث تتبع فترات الاستثمار المكثف التي تؤدي إلى فائض في العرض وتراجع الأسعار، فترات من التراجع في الاستثمار. هذا الانخفاض في الاستثمار يقلص من معروض السلع، ويؤدي إلى ارتفاع الأسعار. بيد أن ما لا يدركه الكثيرون ربما هو أن هذا المبدأ، رغم بداهته، غالباً ما يكون مضللاً، إن لم يكن في بعض الأحيان غير دقيق على الإطلاق.

أحدث الأمثلة على ذلك نجدها في أسواق النيكل العالمية والغاز الطبيعي في الولايات المتحدة، حيث لا تنطبق مزاعم النظرية البديهية المقبولة بأن انخفاض الأسعار يعالج مشكلة انخفاض الأسعار.

هذا الأمر إيجابي بالنسبة لتحول الطاقة لأن النيكل والغاز عنصران أساسيان في مكافحة تغير المناخ. فلا بديل عن النيكل في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية، فيما يعد الغاز وقوداً انتقالياً بين الفحم ومصادر الطاقة المتجددة.

انخفاض الأسعار يثير استياء المنتجين

لكن الأسعار المنخفضة، واحتمال أن تظل منخفضة لفترة طويلة، مشكلة فظيعة بالنسبة للمنتجين الذين يعملون بالفعل على خفض إنتاجهم أو حتى التخلي عن مشاريع بأكملها.

وقد حدث أمران استحوذا على اهتمام السوق. الأول هو قيام شركة “غلينكور“، أكبر شركة في العالم لتجارة السلع الأولية، بوضع منجمها الرئيسي للنيكل الذي تقدر قيمته بمليارات الدولارات تحت “العناية والصيانة” في 12 فبراير، وهي خطوة أولى قبل بيعه أو إغلاقه نهائياً. الأمر الثاني هو إعلان “إي كيو تي” (EQT)، أكبر شركة لإنتاج الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة، في 4 مارس الجاري عن تخفيض إنتاجها بنحو 6% في ربع السنة الحالي بعد هبوط أسعار الغاز الأميركي مقتربة من أدنى مستوياتها منذ 25 عاماً.

“غلينكور” و”إي كيو تي” مثالان نموذجيان على هذه الحالة. غير أن شركات أخرى تتخذ إجراءات في كلتا السوقين، واحتمال إفلاس بعض الشركات ظاهر للعيان.

أولاً، كمقدمة سريعة في علم اقتصاد السلع الأولية، تقول النظرية إن الأسعار المنخفضة تجبر المنتجين على تقليص الاستثمار، مما يحد من العرض. كما أنها تحفز المستهلكين على زيادة الاستهلاك، وربما في استخدامات جديدة، مما يعزز الطلب. وبمرور الوقت، تعيد كلتا القوتين التوازن إلى السوق، بما يدفع الأسعار إلى ما يسمى متوسط الارتداد، المعروف أيضاً باسم المتوسط. لكن هذا النموذج المثالي للعرض والطلب يفترض بيئة ثابتة لا تأخذ في اعتبارها التغيرات التكنولوجية.

تأثير الابتكار التكنولوجي على الإنتاج

في معظم الأوقات يكون النموذج الثابت مفيداً، لكن التطورات التكنولوجية تؤدي أحياناً إلى انخفاض منحنى تكلفة الإنتاج، وبصورة دائمة. وهذا ما حدث مع النيكل والغاز الأميركي. ولهذا السبب يعاني المنتجون في محاولة إعادة التوازن إلى الأسواق، حتى عند اتخاذ إجراءات كان يمكن أن تحقق نجاحاً سريعاً في الماضي.

لنأخذ النيكل كمثال، فهو معدن مستخدم في صناعة الصلب المقاوم للصدأ، ويتزايد استخدامه في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية. فقبل عقدين، كانت المجموعة الصينية “تسينغشان هولدينغ” (Tsingshan Holding Group) رائدة في الاستخدام واسع النطاق لما يسمى بحديد خام النيكل (NPI)، وهو منتج شبه مكرر يعد بديلاً منخفض التكلفة للنيكل النقي، اللازم لإنتاج الصلب المقاوم للصدأ.

ظهر الابتكار التكنولوجي الرئيسي في الأفران الدوارة، التي تسمح بمعالجة الخام وصهره وتوجيهه إلى أفران الصلب المقاوم للصدأ في تدفق ساخن باستمرار. علاوة على ذلك، بنت “تسينغشان هولدينغز” مراكز لتحويل المعادن من المناجم مباشرة في إندونيسيا، حيث جمعت كافة خطوات الإنتاج في موقع واحد (جزيرة سولاوسي)، مما خفض التكاليف بشكل أكبر. كما طورت الشركة مؤخراً نظاماً جديداً لتحويل الحديد الخام إلى نيكل نقي، مما أدى إلى زيادة في المعروض في السوق. ويمكن رؤية هذه الطفرة بشكل أفضل من خلال رصد حصة إندونيسيا من إنتاج النيكل العالمي، والتي قفزت إلى حوالي 50% العام الماضي من 10% قبل 10 سنوات.

اضطرابات سوق الغاز

شهدت سوق الغاز أيضاً اضطراباتها الخاصة في شكل عمليات التكسير الهيدروليكي. فقد كان يُنظر إلى النفط الصخري تاريخياً باعتباره مصدراً غير متوقع للهيدروكربونات، لكن نوعين من التقدم التكنولوجي غيرا ذلك. الأول يتعلق بتعلم شركات التنقيب الأميركية كيفية حفر الآبار بشكل عمودي ثم تعديل وضع المعدات بزاوية 90 درجة تقريباً لمواصلة الحفر بشكل أفقي بضع ياردات فقط في البداية زادت إلى أميال في وقتنا الحالي. وبعد ذلك، يُستخدم الماء والرمل والمواد الكيميائية لتفجير الصخور، وهي عملية معروفة باسم التكسير الهيدروليكي، لتحرير جزيئات النفط والغاز من الصخر غير المسامي.

كانت النتيجة زيادة هائلة في الإنتاج، مما جعل الولايات المتحدة أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال خلال العام الماضي. وبمرور الوقت، أصبحت تكلفة هذه العملية أقل فأقل، مما خفض التكاليف الإجمالية. وارتفع إنتاج الغاز في الولايات المتحدة بمقدار الضعف تقريباً منذ 2010 على الرغم من انخفاض الأسعار لأعوام.

إذا لم يحدث اضطراب جيوسياسي هائل، فمن غير المرجح أن تعود أسعار النيكل والغاز الأميركي إلى مستوياتها التاريخية المعتادة، بغض النظر عن الإجراءات التي يتخذها المنتجون.

وصحيح أن أياً من السلعتين غير محصنة تماماً من قاعدة “انخفاض الأسعار يعالج انخفاض الأسعار”، لكن التغير في تكاليف الإنتاج يعني أن الأسواق لن ترتد، وأنها مقبلة على فترة من انخفاض الأسعار لمدة أطول. وربما كانت هذه الأخبار سيئة بالنسبة للشركات المنتجة، وللمساهمين فيها، لكن النيكل الرخيص والغاز الأميركي من الأخبار الجيدة بالنسبة لكوكب الأرض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى