مختارات اقتصادية

هل سوق الأسهم رشيدة؟

ظهرت العديد من النظريات التي تهتم ببحث كيفية عمل سوق الأسواق، في محاولة مستمرة للبحث عن طرق لتبسيط نظامها المعقد للمتعاملين بما يساعدهم على تحقيق نتائج أفضل، بما في ذلك نظريات تؤكد على «عشوائية» سوق الأسهم، وأخرى في المقابل تؤكد على أن سوق الأسهم «كفء» بالكامل.
في سوق «كفء» أو يعمل وفقًا للتوقعات الرشيدة فإن السوق «يعكس الحقائق بشكل كامل»، أي إنه إذا كان وضع الشركة جيدا وتحقق الأرباح وتتوسع فسوف يرتفع سعر سهمها، وبما يتناسب مع ما تحققه من أرباح وتوسع وفقًا لمعادلات حسابية واضحة تُقيم سعر الشركة السوقي وبقسمة السعر السوقي على عدد الأسهم تتحدد قيمة الأخيرة.
الثقة مقابل الوقائع:- بموجب هذه النظرية، نظرًا لأن جميع المعلومات المتاحة حول الأسهم معروفة للجمهور، فقد تم تسعيرها بالفعل، وهذا يعني أنه لا توجد فرصة لشراء سهم بأقل من قيمته العادلة لأن جميع الأسهم يتم تداولها بالفعل بالقيمة العادلة، ولكن هل هذه الافتراضات -التي يدعمها الكثير من الأكاديميين- صحيحة؟
على سبيل المثال قررت «تسلا» في أبريل 2023 خفض أسعار بعض موديلات سياراتها بنسبة 4.7-5.3%، في خفض هو الثاني خلال أسابيع قليلة، وذلك ما قدرته الأسواق محاولة من جانب الشركة لتجنب آثار التضخم السلبية على المبيعات ومحاولة لاستباق أي ركود مستقبلي في الاقتصاد الأمريكي.
والشاهد أن مثل هذه التخفيضات في سعر البيع مع بقاء تكاليف الإنتاج كما هي من شأنه أن يؤثر بشدة على ربحية الشركة، وبالتالي كان من المفترض وفقًا لنظرية رشادة الأسواق أن يتراجع سعر السهم بشدة مع الإعلان لكي يعكس واقع السهم وبالتالي يعبر عن «حقائق السوق» وفقًا لافتراضات النظرية.
إلا أن السهم في يوم الإعلان عن خفض أسعار البيع لم يتراجع إلا بنسبة 1.4% فحسب ليؤكد أكثر من حقيقة أهمها أن هناك عوامل أخرى غير الحقائق يضعها السوق في اعتباره من بينها درجة الثقة في إدارة الشركات ومستقبلها وقدرتها على النمو المستقبلي، فضلًا عن مقارنة أداء الشركة بنظرائها في القطاع نفسه.
إدراك متأخر للحقائق: إلا أنه يجب إدراك أن السوق كثيرًا ما يتأخر في رد فعله، فحتى إن كان رد فعله يعمل وفق لـ»التوقعات الرشيدة» أي إنه يستجيب للتغيرات السلبية انخفاضًا والإيجابية ارتفاعًا، إلا أن إدراك السواد الأعظم للمتعاملين بحقائق السوق واستجابتهم لها غالبًا ما تأتي متأخرة. ولعل أبرز مثال على ذلك جاء مع الكساد العظيم، حيث تفاقمت الأزمة الاقتصادية عام 1929، حيث بلغ معدل الانكماش الاقتصادي الأمريكي 15%، ثم وصلت معدلات البطالة 30%، هذا بالإضافة إلى إغلاق نصف البنوك الأمريكية أبوابها وإشهار إفلاسها، فضلا عن خسارة الديون 20-25% من قيمتها بشكل عام وعجز كثيرين عن السداد.
وعلى الرغم من أن هذه المؤشرات كان لها تمهيد واضح، من خلال تراجع مؤشرات ثقة الاقتصاد، وتقلص مبيعات الكثير من الشركات الكبرى، وتراجع الصادرات إلا أن سوق الأسهم لم تعكس الحقائق إلا متأخرة ولذلك استيقظت على الثلاثاء الأسود في أكتوبر 1929 واستمر المؤشر في التراجع حتى منتصف 1932 وفقد مؤشر «داو جونز» خلال هذه الأعوام الثلاث 89% من قيمته. فهل فقدت الشركات بالفعل 89% من قيمتها خلال 3 أعوام، وهل من المتصور أن أصول الشركات وقدرتها على تحقيق الأرباح انخفضت بهذه النسبة، وهل يعني ذلك أن الأسواق لم تكن رشيدة ثم أصبحت فعالة أم أنها كانت رشيدة وأصبحت غير ذلك؟
تأثير «المغامرين»:- ولأن السوق يتحرك صعودًا وهبوطًا في النهاية بناء على أوامر الشراء والبيع التي يقوم بها المتداولون، فإنه لكي يعكس حقيقة الشركات وقيمتها السوقية بدقة كبيرة يجب أن يكون هؤلاء المتعاملون على دراية تامة بقواعد تقييم الشركات وأوضاع الاقتصاد والقطاعات الإنتاجية المختلفة، فضلا عن قيامهم باستقراء جيد لكافة تلك العناصر.
والحقيقة أن أكثر من 70% من المتعاملين في الأسواق الأمريكية على سبيل المثال يفتقرون إلى عناصر «أساسية» في تقييم الشركات فإذا كان هؤلاء مؤثرين وبشدة -ويتزايدون مع ارتفاع السوق- في أسعار الأسهم من خلال طلبات الشراء، فكيف سيكون السوق منطقيًا؟
ويقول الأستاذ في جامعة «شيكاغو» «إيجوين فاما» قبل أكثر من 50 عامًا في ورقة بحثية لصالح الجمعية المالية الأمريكية «إذا كانت الأسواق تعكس بالكامل المعلومات المتاحة (مع التشديد على فكرة المتاحة) فإنها أسواق رشيدة، ولكن هذا ما لا يحدث مطلقًا على أرض الواقع».
ويشير «فاما» إلى أن قرابة نصف المتعاملين في أسواق المال يغامرون بفوائض مالية لا يحتاجونها بما يخلق حالة من عدم الرشادة واتجاها واضحا من المغامرات غير المحسوبة سواء بشراء الأسهم أو الاحتفاظ بها رغم الخسائر.
علم حسابي أم إنساني:- وهنا يجب الإشارة إلى أن افتراض رشادة الأسواق المستمرة يجعل الاقتصاد والأسهم كما لو كانت من العلوم الطبيعية وليست علمًا إنسانيًا به جوانب حسابية فالمتداولون ليسوا مجردين من المشاعر التي تؤثر عليهم في التداول كما أن «التوقعات» تشكل حيزًا كبيرًا من اهتمامات السوق، سواء كانت التوقعات منطقية أم غير ذلك. ومن بين أكثر الشركات التي تأثرت أسعارها بشدة خلال الفترات الماضية بسبب «التوقعات» كانت شركة «أوبر»، حيث تراجع سعر السهم ليصل إلى 21 دولارا في مارس 2020 ثم عاد ليترفع إلى قاربة 3 أمثال ضعف السعر (60 دولارًا) في مارس 2021 قبل أن ينخفض سعره إلى مستوى 21 دولارا مجددًا في مايو 2022.
ولم يكن العامل الأساسي في التذبذب الذي شهده سعر السهم في قدرته على تحقيق الأرباح، ولكن في اختلاف توقعات قدرة الشركة على النمو في عدد المستخدمين والهيمنة على سوق النقل التشاركي من عدمه، وهذا هو السبب الرئيسي الذي أدى للصعود السريع ثم الهبوط في سعر السهم. هذا بالإضافة إلى تأثره باتجاه أسهم التكنولوجيا في السوق الأمريكي بشكل عام.
كما أنه -وفقًا لدراسة لجامعة «ستانفورد»- فإن 36% من المتعاملين بالسوق يشترون ويبيعون الأسهم وفقًا لما «يشعرون به» ووفقًا لما «يسمعون» دون أن يعملوا بأنفسهم مطلقًا سواء في التحليل الفني أو الأساسي، هذا فضلًا عن عدم إلمام الكثير ممن يقومون بنوعي التحليل بأساسات كل منهما.
ويعكس هذا وجود قدر غير هين من العشوائية، ويعطي هؤلاء قدرة كبيرة على توجيه السوق من خلال الإيماء لهؤلاء باتجاهه ككل أو باتجاه سهم معين بما يجعل أكثر من ثلث السوق يتبع هذا الاتجاه بلا دراسة مطلوبة، ويمنح بعض «المؤثرين» ميزة نسبية كبيرة للغاية ولو في بعض الفترات.
وبشكل عام يمكن القول بأن نظرية «كفاءة الأسواق» أو رشادتها لا تفتقر إلى بعض المنطق، لكنها تشبه من يقود سيارة ويلتزم بقواعد المرور بشكل تام ويحفظ إشارات الطرق تماما، ولكنه بحاجة للتحسب لأخطاء الأخرين فضلًا عن تذكر قاعدة المستثمر الشهير «جيسي ليمور» التي تقول: «لم يتم اكتشاف جميع قواعد سوق الأسهم بعد». المصادر: أرقام- دراسة «Is the market rational?»- سي.إن.إن- فورتشن- دراسة «Random Walks in StockMarket Prices»

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى