مقالات اقتصادية

هل بات اليورو منيعا مع بلوغه ربع القرن في سوق العملات؟

أثبت براعته في التعامل مع الكوارث المحلية

كتب أسامة صالح

يعد اليورو، استناداً إلى المعايير التي وضعها أنصاره، عملة ناجحة. مع احتفاله في الأول من يناير (كانون الثاني) 2024 بالذكرى السنوية الـ25 لتأسيسه (أطلق في شكل إلكتروني عام 1999، وأصدرت الأوراق النقدية والعملات المعدنية بعد ثلاث سنوات، عام 2002)، يجب أن تكون المناسبة سبباً للاحتفال.

اليورو هو العملة الاحتياطية الثانية في العالم، بعد الدولار. ومنذ إطلاقه، يحقق مستوى من الاستقرار لم يعتقد سوى قلائل بأنه ممكن. وعلى نحو متزايد، تبدي الشركات القائمة في أنحاء العالم كله التي تتاجر مع أوروبا استعداداً لقبول الأسعار المعروضة باليورو.

وإذ كان من الممكن في السابق أن تحدث تقلبات جامحة في العملات الفردية، مما يجعلها عرضة إلى هجمات في الأسواق من مضاربين، لم يعد أي من ذلك يحصل الآن. لقد خلقت العملة الموحدة هدوءاً وأمناً. وثمة نسخة رقمية منها قيد الإعداد.

لقد حققت العملة سيادة الاتحاد الأوروبي، إذ وضعت الكتلة تحت مظلة سياسة نقدية واحدة، ذلك أن الاتحاد الأوروبي يملك هويته الخاصة ويمكن أن يعمل كوحدة واحدة.

وبعد زمن شهد توافر عدد كبير من العملات في مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي، كان بعضها أقوى كثيراً وأكثر قبولاً على الصعيد الدولي من غيره، تسود عملة واحدة الآن، وباتت التجارة عبر الحدود داخل الكتلة أبسط بكثير، مع انتفاء الحاجة إلى تحويل للعملات.

لقد عمل اليورو، الذي توفي مصممه الأبرز جاك ديلور الأسبوع الماضي عن عمر ناهز 98 سنة، على الربط بين الدول الأعضاء. إنه نظام الوحدة الأوروبية الملموس أكثر من غيره، ويستخدم تلقائياً وباستمرار من الناس في بلدان مختلفة جداً.

ليس من دون مبرر أن كريستين لاغارد رئيسة المصرف المركزي الأوروبي والمؤيدة البارزة لليورو تمكنت من الإشادة بـ”قرار أوروبا البعيد النظر بعد الحرب العالمية الثانية بربط اقتصاداتها معاً بإحكام لكي تكون عرى مستقبلنا غير قابلة للانفصام، وهذا بدوره أوجد المنطق القوي الذي يقوم عليه التكامل الأوروبي”.

وقالت لاغارد “يعني محرك التكامل هذا أننا كلما واجهنا تجارب، لم نعد إلى الانقسام وندع ما بنيناه معاً يفشل. بدلاً من ذلك، واجهنا هذه التحديات في شكل مباشر وعالجناها معاً”.

وشكل اليورو عاملاً حاسماً في هذا التقارب “وكانت هذه الروح نفسها هي التي جعلت، من أواخر ثمانينيات القرن الـ20 فصاعداً، العملة الموحدة خطوة تالية ضرورية في رحلتنا الأوروبية”.

يتلخص ما دفع التحول في أن السوق المشتركة أصبحت السوق الموحدة، ومع ذلك، اشتدت الضغوط من أجل إنشاء نظام نقدي موحد، لم يكن بوسع الاتحاد الأوروبي أن يتحمل ترك الدول الأعضاء تخفض قيمة عملاتها لزيادة قدرتها التنافسية في مقابل بعضها بعضاً. كان هذا ليخالف روح الوحدة ويغذي انعدام الثقة، وبات من الأفضل بكثير تأسيس مصرف مركزي واحد.

في المقابل، مع سقوط جدار برلين ونهاية الحرب الباردة، أثيرت تساؤلات حول قيادة الاتحاد الأوروبي، فهل يعبر عنها الفرنك الفرنسي أو المارك الألماني؟ مرة أخرى، كان من الأفضل أن تتوافر عملة واحدة مشتركة من شأنها أن تنهي إغراء التلويح بالأعلام القومية وتسجيل النقاط.

وقالت لاغارد “كان اليورو هو الحل المنطقي لهذه التغييرات الثلاثة. لقد قدم إلى الأوروبيين الاستقرار والسيادة والتضامن”.

كان كل شيء جيداً وعلى ما يرام. هذا ما نصت عليه النظرية. في الممارسة العملية، كان لليورو نصيبه من الصعود والهبوط لكنه ظل على مساره.

في ذلك الوقت، عام 1999، لم يستطع أحد أن يرى الأزمات التي تنتظرنا. خلال 25 سنة، شهد اليورو الانهيار المصرفي عام 2008، والجائحة العالمية، واندلاع حرب مباشرة فعلية على الأراضي الأوروبية، في أعقاب غزو روسيا لأوكرانيا الذي تسبب في ارتفاع تصاعدي في أسعار الطاقة وتقلبات هائلة.

في الآونة الأخيرة، توطن التضخم العالمي ومعه معدلات الفائدة العالية، لقد ثبتت صعوبة التخلص من الأمرين، ومع ذلك، نجا اليورو طوال الوقت مما واجهه كله.

أوروبا، التي ظلت لفترة طويلة مرتعاً للتوترات والمنافسات القومية، وموقعاً لعديد من النزاعات التاريخية، بقيت هادئة، هدوءاً لم يكن ليحدث في الماضي. لولا اليورو، وفق حسابات المصرف المركزي الأوروبي، لكان الانهيار المصرفي وحده قد شهد تلقي العملات المحلية القديمة ضربات مدمرة محتملة من الدولار. وبالمثل، كان “كوفيد-19” سيضربها بالقدر نفسه من الشدة تقريباً.

كما كانت الحال في الاستجابة لهذه الموجات العالمية العاتية والساحقة، وفر اليورو الاستقرار الذي لم يكن من الممكن تصوره في السابق. لم ينكسر الصاري في أية سفينة، ولم تخسر أية سفينة دفتها، واجتازت السفن العاصفة وظلت عائمة.

وأثبت اليورو براعته في التعامل مع الكوارث المحلية. شهدت أزمة الديون السيادية تكديس الدول كميات ضخمة من الائتمان لم تتمكن من تسديدها. أما في أوروبا، فتبلورت المسألة بطرق مختلفة، عكست السياسات التي تسنها الحكومات الأعضاء ويمكنها التنظيم الضعيف.

في أيسلندا، تبين أن القطاع المصرفي الذي روج له وصدرت خدماته، رسمياً وبكثافة، كان يعاني نقصاً شديداً في الموارد ويتسم بهشاشة. في إيرلندا، تراجعت طفرة العقارات فجأة. وفي اليونان، أدى التبذير الذي مارسته أثينا، مع إنفاق الإدارة المركزية من دون ضرائب موازية، إلى جعل البلاد تتسول الحصول على قارب نجاة.

وفي حين جرى التعامل مع حالات الطوارئ هذه، وجرى فرض قيود، لا يعني ذلك أن الشيء نفسه لا يمكن أن يتكرر. قد تكون هناك عملة واحدة لكن ثمة اختلافات واسعة في النهج والقوة الاقتصادية. دول جنوب الاتحاد الأوروبي، مثلاً، هي مصدر دائم للتوتر. وثمة نقطة ضعف حرجة تتمثل في احتفاظ كل دولة عضو في منطقة اليورو بالمسؤولية عن سياساتها الضريبية والإنفاقية.

كذلك لا يستطيع اليورو أن يزعم بأي شكل من الأشكال أنه يمثل الاتحاد الأوروبي بالكامل. تقع سبع دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي خارج منطقة اليورو: هنغاريا وبلغاريا وتشيكيا والدنمارك وبولندا ورومانيا والسويد. ليست هذه الدول في عجلة من أمرها للانضمام إلى منطقة اليورو. إما أن هذه الدول لا تستطيع تلبية معيار التأهل للخطوة أو أنها غير مقتنعة بمزايا تبديل العملة.

وفي حين أعطى اليورو هوية إلى الاتحاد الأوروبي، ثمة شكوى مشتركة مفاده بأنه حرم البلدان التي تستخدمه من مصدر الفخر والتمايز الوطنيين العريق الخاص بكل منها، هويتها.

لقد تمكنت منطقة اليورو من الصمود في وجه “بريكست”، وذلك لأن بريطانيا لم تكن عضواً في المنطقة. لكن إذا انسحبت دولة عضو في منطقة اليورو من الاتحاد الأوروبي، قد يكون الضرر الذي قد يلحق بصدقية اليورو شديداً.

إن منطقة اليورو منطقة ذات عملة تهيمن عليها دولة واحدة. ألمانيا هي القوة الاقتصادية للاتحاد الأوروبي، مما يؤدي إلى اتهام اليورو بأنه ليس أكثر من المارك الألماني بلباس مختلف.

ومع ذلك، فاليورو راسخ عالمياً، ولا شك في ذلك. لكن تطورات جديدة وصعبة تواجهه. وفيما يخص العملات، ليست 25 سنة مدة طويلة جداً على الإطلاق. لا تزال اختبارات كثيرة تنتظر اليورو.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى