اقتصاد دولي

بريطانيا في انتظار أزمة عملة حال فوز المعارضة

بدأت الحملات الانتخابية للحزبين الكبيرين في بريطانيا تمهيداً للانتخابات العامة في الرابع من يوليو (تموز) المقبل بالتركيز على قضايا الاقتصاد التي ستكون في قلب اهتمام الناخبين. وبينما يركز حزب المحافظين الحاكم على بعض المؤشرات الإيجابية للاقتصاد الكلي مثل التضخم والنمو، يحاول حزب العمال طرح أفكار اقتصادية تزايد على المحافظين في كسب ود الشركات والأعمال من القطاع الخاص.

وتواجه بريطانيا تباطؤاً في النمو الاقتصادي وتدهوراً في مستوى المعيشة يجعلها في ذيل قائمة الدول المماثلة في مجموعة الـ7 ومجموعة الـ20 في كثير من المؤشرات.

وحذر صندوق النقد الدولي الحكومة البريطانية من أنها في حاجة إلى توفير ما يصل إلى 30 مليار جنيه استرليني (38 مليار دولار) كي تتمكن من بدء تقليص فجوة العجز في الموازنة، في وقت تضطر فيه الحكومة للاقتراض بكثافة لضبط حسابها الجاري.

وتراهن حكومة حزب المحافظين، مثلما يقول رئيس الوزراء ريشي سوناك ووزير الخزانة جيريمي هنت، على أن الاقتصاد بدأ يعود إلى المسار الصحيح، بالتالي يمكن للسياسات الحالية أن تؤدي إلى تحسن الأوضاع إذا اختار البريطانيون الحزب في الانتخابات بعد أسابيع كي يستمر في الحكم، أما حزب العمال، فإنه لا يقدم رؤية اقتصادية متكاملة للنمو الاقتصادي وتحسين مستوى معيشة المواطنين سوى أنه ينتقد سياسات المحافظين وفي الوقت ذاته يسعى إلى طرح شعارات أقرب لسياسة المحافظين التقليدية.

أزمة عملة متوقعة

ومع ترجيح استطلاعات الرأي بأن حزب العمال سيفوز بالانتخابات، تتوالى التحليلات والتعليقات حول ما يمكن أن يحدث للاقتصاد البريطاني في ظل حكومة من المعارضة العمالية برئاسة كير ستارمر زعيم الحزب. وكتب روجر بوتل مقالاً في صحيفة “ديلي تلغراف” متوقعاً أزمة عملة في بريطانيا مع حكومة حزب العمال، ومع أن الصحيفة معروفة بتوجهها المؤيد للمحافظين تقليدياً، إلا أن ما ذكره بوتل يحمل قدراً كبيراً من الصدقية، بخاصة أنه استشهد بتاريخ حكومات المعارضة العمالية وكيف أن معظمها شهد انهياراً في قيمة سعر صرف الجنيه الاسترليني. ويخلص من ذلك إلى أن حكومات حزب العمال دائماً لديها مشكلة مع سعر صرف العملة.

منذ عام 1931 واجهت كل حكومة عمالية في بريطانيا أزمة انهيار الجنيه الاسترليني، باستثناء حكومة واحدة هي فترة حكم توني بلير، إذ كانت قيمة الاسترليني ترتفع قبل انتخاب حكومة عمالية في 1997 وظل محافظاً على قيمته المرتفعة مدة 10 أعوام بعدها، وكان ذلك تعويضاً عما فقدته العملة البريطانية مع خروج بريطانيا من نظام الصرف الموحد الأوروبي عام 1992، إلا أن قوة الاسترليني تلك أضرت بشدة بتنافسية الصادرات البريطانية، ومع قرب نهاية حكم حزب العمال انهارت العملة البريطانية مع الأزمة المالية العالمية في 2008، صحيح أن ذلك كان ضمن مشكلة عالمية لا تقتصر على بريطانيا، لكنه أكمل تاريخ الحزب مع أزمة عملة باستمرار.

يلاحظ أن حملة المعارضة الانتخابية لا تذكر مسألة سعر الصرف لا من قريب ولا من بعيد، وربما لذلك اختار الاقتصادي المقرب من المحافظين التركيز على هذا الموضوع، وإذا كانت شعارات حزب العمال حتى الآن فضفاضة إلى حد كبير إلا أن وعود الحزب بالتركيز على تحسين النمو عبر القطاع الصناعي يعني أن سعر صرف العملة مهم للاستفادة من التصدير.

وعود المعارضة

يمنح هبوط سعر الصرف للعملة الوطنية ميزة تنافسية للصادرات، لكنه في الوقت نفسه يثقل كاهل الاقتصاد للحاجة إلى رفع الفائدة بالتالي زيادة كلفة الاقتراض للحكومة والشركات، في وقت تعاني بريطانيا حالياً من عجز تجاري مع العالم يصل إلى ثلاثة في المئة من الناتج المحلي الإجمال، ويعني ذلك أن بريطانيا تضطر لاقتراض هذا الفارق من الخارج (غالباً عبر سندات سياسية يشتريها الأجانب)، أو بيع أصول بريطانية للأجانب بقيمة مقابلة للعجز.

وعلى رغم عدم وجود سياسة اقتصادية محددة وواضحة للمعارضة، فإن الغالب أن يسعى حزب العمال لتحسين فرص بريطانيا في التجارة من خلال إعادة التفاوض مع الاتحاد الأوروبي على اتفاقات جديدة غير تلك التي اتفقت عليها حكومة حزب المحافظين ضمن خروج بريطانيا من الاتحاد (بريكست) لكن ذلك، حتى لو حدث فلن يغير كثيراً، وربما يكون اتفاق تجارة حر مع الولايات المتحدة أفضل لبريطانيا.

لم تفلح حكومات حزب المحافظين منذ بوريس جونسون في التوصل إلى اتفاق مع واشنطن، مع ذلك ربما تكون الفرصة أفضل إذا فاز الرئيس السابق الجمهوري دونالد ترمب في الانتخابات الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، إلا أن المشكلة ستكون في قدرة حكومة حزب العمال حينئذ على قبول طلبات ترمب التي ستتعارض مع سياسات الحزب، وهكذا على ما يبدو فإن أزمة عملة قد تكون احتمالاً قوياً جداً في حال فوز حزب العمال وتشكيله الحكومة.

أما بالنسبة للسياسات الرئيسة للمعارضة العمالية، فإن زعيم الحزب كير ستارمر ووزيرة خزانة الظل راتشيل ريفز ربما لا يلتزمان بها تماماً، والدليل على ذلك أن وعود الحزب إنما “تسرق” من سياسات المحافظين، إذ كشفت شبكة “سكاي نيوز” عن رسالة وجهها حزب العمال لرجال الأعمال ورؤساء شركات القطاع الخاص يطلبون تأييدهم للحزب في الانتخابات مع وعد بتغيير التوجهات لصالح الأعمال، على رغم أن القاعدة الانتخابية الأساس للحزب هي العمال وأعضاء النقابات.

صندوق ثروة بلا ثروة

من المقترحات التي يطرحها حزب العمال المعارض لتنشيط الاقتصاد ودعم قوة سعر صرف الاسترليني إنشاء صندوق ثروة سيادي في وقت لا توجد لدى الحكومة ثروة تضعها فيه، إذ تعاني موازنتها من العجز وتزيد عليها كلفة خدمة الدين العام في ظل استمرار الاقتراض بسقف مرتفع جداً.

تقول وزير خزانة الظل راتشيل ريفز، “سيكون صندوق الثروة السيادي أداة حاسمة في ترسانتنا لتحقيق النمو الاقتصادي”، وتضيف أن هدف الصندوق سيكون “توفير فرص الوظائف وزيادة الإنتاجية في كل أنحاء البلاد”، لكن غالب المعلقين والمحللين أبدوا دهشتهم طارحين السؤال المنطقي، من أين ستأتي حكومة العمال بالأموال للصندوق؟

تنشئ الدول صناديق الثروة السيادية لأنها تتوفر لديها فوائض، غالباً من صادرات الطاقة في الدول الغنية بالنفط والغاز، لضمان استثمارات في اقتصادها إذا تراجعت أو انتهت العائدات من الطاقة، ويوجد في العالم 175 صندوق ثروة سيادي بما يصل إلى 12 تريليون دولار، وأكبر تلك الصناديق هو صندوق الثروة السيادي النرويجي وتصل قيمته إلى 1.3 تريليون دولار، إذ إن صادرات الطاقة النرويجية توفر له عشرات المليارات سنوياً، وبلغت تلك العائدات العام الماضي أكثر من 92 مليار دولار، ونتيجة لذلك، فموازنة النرويج باستمرار تتوفر لها فوائض ما بين أربعة و26 في المئة من الناتج المحلي سنوياً.

أما في بريطانيا، فحتى بعد فرض ضريبة إضافية على شركات أرباح شركات الطاقة، أخيراً، لم تحصل الخزانة العامة أكثر من 13.5 مليار دولار لم تكن كافية لسد جزء كبير من عجز الموازنة، بالتالي ليس أمام حكومة جديدة تريد إنشاء صندوق مماثل سوى أن تقترض لتكوين الصندوق، وهو ما يتنافى مع الهدف من الصندوق أساساً.

هناك احتمال أن تبيع الحكومة نصيبها في بعض الكيانات لتوفر مبلغاً أولياً، ربما مثلاً في حدود تسعة أو 10 مليارات دولار من بيع أسهمها في بنوك كبرى مثل بنك “نات ويست”، على أن تقنع مستثمرين بضخ ضعف هذا المبلغ في الصندوق، لكن الحكومة ستحتاج إلى الحصول على هذه المبالغ من القطاع الخاص عبر بيع سندات دين سيادية.

وإذا كان هدف الصندوق كما يبدو من وعود المعارضة هو الاستثمار في مشروعات مثل الطاقة المتجددة وغيرها فإن القطاع الخاص مستعد، من دون صندوق، للدخول في تلك المشروعات طالما كانت مربحة، بالتالي يبدو مقترح الصندوق واحداً من الوعود “الضبابية” التي يطرحها حزب العمال لمواجهة أزمة بريطانيا الاقتصادية، التي يصعب تصور أنها ستحقق إنجازاً أفضل مما كان على يد حكومة حزب المحافظين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى