مختارات اقتصادية

في سوق الأسهم .. هكذا يفكر المتداول الناجح وهذه صفاته النفسية

“هل من الممكن أن يكون غالبية الناس في قطاع بعينه مخطئين؟ حسنًا في سوق الأسهم الأغلب يجانبهم الصواب باستمرار..” هذا ما يؤكده الاقتصادي الذي حصل على جائزة نوبل “ريتشار ثالر”، في معرض تحليله لسوق الأسهم، الذي يؤكد أنه من أكثر المجالات التي تشهد “خداع الإنسان لنفسه”.

وبشكل مبدئي يرى “ثالر” أن أغلبية تقترب من 80% في سوق الأسهم تعتقد أنها “أذكى كثيرًا” من غيرها، بينما عند الحديث مع كبار المتداولين يلاحظ كيف ينظرون لأنفسهم بشكل متواضع بل يرصد بعضهم أخطاءه ويعددها أكثر مما يتناول نجاحاته ويتفاخر بها.

التواضع

ويرى “ثالر” بناء على تحليل أن التمتع بالتواضع من أهم و”أندر” الصفات في المتداولين، ويشير إلى أن مفهومه في “المحاسبة العقلية” -وهو مفهوم يعنى حساب المكسب والخسارة وفقًا لرؤية صاحبه وليس على قواعد المنطق والحساب السليم-أو خداع الشخص لنفسه ليخرج فائزًا كثير ما ينطبق في سوق الأسهم.

ولأن ادعاء الذكاء غالبًا ما يترافق مع “الإنكار” فإن المتداولين الناجحين لا ينكرون أخطاءهم، بل وكثيرًا ما يعترفون بها علنًا، ومن ذلك اعتراف “جورج سورس” بخطئه في الاستثمار في سوق الأسهم اليابانية، واعتراف “جون بوغل” بخسارته المالية التي وصفها بالشائنة في أولى تجارب تداوله وغيرهما.

بينما في المقابل تجد أكثر من 85% وفقًا لتقديرات دراسة أمريكية يلقون باللائمة على خساراتهم على عوامل خارجية، سواء كبار المتداولين أو صانع السوق أو أي حدث طارئ، أو حتى خطأ بقية المتداولين في بيع سهم اشتراه المتداول بما يؤدي لتراجع سعره أو شراء سهم باعه أو رفضِ شرائه بما يؤدي لارتفاع سعره.

التجرد

في أول أغسطس عام 2023 توقع أستاذ الاقتصاد الجامعي “جيرمي سيجال” أن يبلغ سوق الأسهم الأمريكية قممًا غير مسبوقة، على الرغم من أن السوق -مؤشر ستاندرد آند بورز 500 تحديدا- كان يواجه تقلبات شديدة منذ بلغ قمة 4796 نقطة في يناير 2022، وأكد أنه لا يتوقع ذلك فحسب ولكنه واثق منه تمامًا ولا يساوره الشك في استنتاجاته.

وعند سؤاله عن الأسباب، أجاب “سيجال” أن تراجع معدلات التضخم وصعود معدلات الربحية في قطاعات الاقتصاد الرئيسية، مع ارتفاع مستويات التشغيل وقوة القطاعات الرائدة في الاقتصاد تؤكد اتجاه السوق للصعود، وأنه نصح كثيرا من المقربين بشراء أسهم بعينها للاستفادة من الارتفاع المرتقب للسوق.

وعندما أطلق “سيجال” تصريحاته كان مؤشر “ستاندرد آند بورز 500” عند مستوى 4576 نقطة، وبمنتصف مايو 2024، أي بعد قرابة 9 أشهر حقق المؤشر مستويات قياسية فوق 5300 نقطة بزيادة قدرها 15% عن وقت تصريحاته.

وعند سؤاله عن كيفية تكهنه بالارتفاع، يقول “سيجال” إن القاعدة في سوق الأسهم بسيطة ومعقدة في نفس الوقت، فإذا كانت الظروف الاقتصادية ممتازة فسترتفع غالبية الأسهم بسرعة، وإذا كانت سيئة ستتراجع، فماذا سيحدث إذا بقيت على حالها دون تغيير كبير في عموميات الاقتصاد والقطاع الذي تستثمر به؟

ويعد “سيجال” أن فترات عدم التغير الكبير هي أفضل فترات التداول، لأن المضاربات تقل في هذه الظروف، ويقل هؤلاء الذين يعملون بالتحليل الفني لصالح هؤلاء الذين يتبنون التحليل الأساسي وهو ما يفرض حالة من الاستقرار على الأسواق، وغالبا ما تستمر الأسواق في الارتفاع ولكن بوتيرة بطيئة.

ويصف “سيجال” الفائزين في سوق الأسهم بأنهم “هؤلاء المنضبطون بشدة، الذين يسمعون آراء الآخرين باستمرار ولكنهم يمتلكون رأيهم الخاص ورؤيتهم، والأهم أنهم متجردون من الآراء المسبقة التي تعميهم عن الوصول لاستنتاجات جيدة.

يقاومون الضغوط النفسية والثقة المطلقة

ويقول “جريوجوري مانكيو” أستاذ الاقتصاد في جامعة “هارفارد” إن كبار المتداولين يواجهون ضغوطًا نفسية هائلة أثناء العمل في أسواق الأسهم المتقلبة، تتضمن هذه الضغوط الخوف من الخسارة، والشك الذاتي، والجشع، والضغط الاجتماعي.

ويقول إنهم لا يفرطون في الثقة أو في عدم الثقة في شيء أو مؤسسة، لافتًا إلى أن أكثر من 50% من موظفي بنك “ليمان برازر” وشركة “إنرون” للطاقة احتفظوا بأغلب ثرواتهم ومدخراتهم الشخصية في صورة أسهم في الشركة التي يعملون بها، وبالتالي كانت خسارتهم فادحة مع إفلاس المؤسستين.

ومن أهم صفات المتداول الناجح نفسيًا شجاعة الاعتراف بالخطأ، وهو ما يجنبه الوقوع في فخ التكلفة الغارقة، حيث تشير دراسة إلى أن قرابة 88% من المستثمرين على الأقل يقعون في فخ مغالطة التكلفة الغارقة، حيث يستمرون في مواقف تؤثر عليهم بالسلب بسبب ما أنفقوه من تكلفة لا يمكنهم استعادتها.

وحتى بعد أن يتكشف خطأ السير في منهج التكلفة الغارقة للمستثمرين فإن أكثر من 50% ممن يقعون في هذا الفخ يرون أن سلوكهم “كان مبررًا” لأنه كان من الممكن أن تنقلب الخسائر إلى أرباح بطريقة أو بأخرى، وهو تعويل هنا على ما لا يملك المستثمر التحكم فيه.

لا يقودهم الطمع

ويؤكد “ديفيد كوهين” مؤلف كتاب (الخوف والطمع والذعر: سيكولوجيا سوق المال) أن كافة المستثمرين يقعون فريسة للطمع في وقت أو آخر خلال مسيرتهم، ولكن المستثمرين الذي يستكملون رحلتهم في أسواق الأسهم بشكل سليم يتعلمون من تجاربهم السيئة ويلتزمون منهجًا أكثر توازنًا في صفقاتهم الاستثمارية اللاحقة.

وعلى ذلك يكشف “كوهين” أن 70% ممن يدخلون سوق الأسهم على الأقل يقودهم إليه الرغبة في الربح السريع دون بذل الجهد، وهو ما يعرف بالدخل السلبي، ولذلك يبدو وجود “الطمع” مفهومًا لأن هناك رغبة في “كسب بلا عمل” وإن كان في الواقع يفرض الدراسة والتحليل والمتابعة وهي كلها أشكال للعمل.

وبسبب هذا الطمع يقدر “كوهين” أن أكثر من 80% من المتعاملين يفقدون اتزانهم بدرجات متفاوتة بفعل الخسائر أو المكاسب المتتالية، فيصرون على الاحتفاظ بالأسهم حال الخسائر رغم حتمية البيع ويبالغون في الاحتفاظ أيضًا بعد تحقيق مكاسب رغبة في تحقيق مكاسب أكثر، بل ويستمر البعض في الاحتفاظ بالأسهم دون مبرر بعد تحول المكاسب إلى خسائر، طمعًا في ارتدادة صاعدة في السوق.

بافيت “المثال الأبرز”

وهنا يختلف “وارين بافيت” عن هؤلاء في أنه في الوقت الذي تبدو “أبل”، وهي استثماره الأكبر، مقبلة نظريًا على المزيد من الازدهار مع بقية الشركات المستفيدة من “ثورة الذكاء الاصطناعي” إلا أن “بافت” باع بعض حيازاته من أسهم الشركة منها في بداية مايو 2024.

وعلى الرغم من أن المحللين رجحوا أن يكون هدف “بافيت” هو ما أعلنه بنفسه للمستثمرين بأنه من أجل سداد بعض الاستحقاقات الضريبية إلا أن لجوء “بافيت” للبيع دون استخدام الكاش المتاح لدى شركته إلا بقدر محدود يعكس التزاما وانضباطًا كبيرًا والأهم عدم الانجرار وراء أسباب الطمع.

 وبما أنا “بافيت” هو الأنجح في سوق الأسهم عالميًا، كما يراه كثيرون، فمن المفيد رصد تصرفاته وعقليته وانعكاسها على أدائه في سوق الأسهم:

منضبط: يستثمر في شركات يدرسها بعناية ونتذكر قوله الشهير: “لن أستثمر في العملات الرقمية حتى لو أصبحت جميعها بـ25 دولارًا” وذلك لرفضه المضاربة، وتبنيه للتحليل طويل المدى.

يحيط نفسه بشبكة مستشارين: من الراحل “تشارلي مونجر” إلى “بيل جيتس” إلى عشرات الأشخاص الذين تكلموا عن “بافيت” وكيف يلتقي بكثير من موظفي شركته للنقاش حول استثمارات الشركة بل يوجد في المؤتمرات والندوات ويستمع لآراء الناس فيها ويجتمع بنفسه باستمرار بالجمعية العامة للمساهمين في “بيركشاير هاثاواي” رغم تخطيه لعامه التسعين.

لا يترك المال يستهلكه: والدليل على ذلك تبرعاته الكبيرة للمؤسسات الخيرية، وهذا يبدو عنصرا غير ذي صلة لكن في الحقيقة فإن تحول المال لهدف أوحد (وليس وسيلة) يجعل الشخص مهووسًا به بما يؤثر على أدائه في الأسواق.

وهذه الفكرة نفسها يؤكدها المستثمر البريطاني “ريتشارد برانسون”، وهو أنه يرفض باستمرار تعريف نفسه على أنه “الثري” أو “الملياردير” معتبرًا أن تخطي ثروته لبضعة مليارات ليس مؤشراً على النجاح ولكن التوازن في حياته بين الانجاز المالي والعملي والأسري والخيري.

لا يعتقد أنه الأكثر ذكاء: عند سؤال “بافيت” عما إذا كان يعتبر نفسه ذكيا أجاب بأنه ليس طبيباً لامعاً ولا عالم صواريخ ولكنه يدرك أسس عمله ويلتزم بها، ويتفق هذا مع تقييمات “ريتشارد ثالر” بأن من يعتقدون أنهم الأذكى عمليًا لا يفلحون.

المصادر: أرقام- كتاب  Fear, Greed and Panic: The Psychology of the Stock Market”“- نيويورك تايمز- فوربس- المنتدى الاقتصادي العالمي- سي.إن.بي.سي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى