اقتصاد دولي

هل تنجح “دبلوماسية الرقائق” الأميركية الجديدة في الاستغناء عن الصين؟

إذا نجحت إدارة بايدن في خطتها فقد نشهد قريباً تصنيع مزيد من الرقائق الإلكترونية في مصانع تكساس وأريزونا، وستشحن هذه الرقائق بعد ذلك إلى دول شريكة مثل كوستاريكا، وفيتنام وكينيا للتجميع النهائي، قبل أن توزع على العالم لتشغيل الأجهزة بدءاً من الثلاجات وصولاً إلى أجهزة الكمبيوتر العملاقة.

وعلى رغم أن هذه الدول قد لا تكون أول ما يتبادر إلى الذهن عند التفكير في صناعة أشباه الموصلات، فإن مسؤولي الإدارة الأميركية يسعون إلى إعادة تشكيل سلسلة توريد الرقائق العالمية من خلال مفاوضات مكثفة لتحقيق هذا الهدف.

ووفقاً لصحيفة “نيويورك تايمز” تتضمن الخطة الأساسية حث الشركات الأجنبية على الاستثمار في صناعة الرقائق داخل الولايات المتحدة، إضافة إلى البحث عن دول أخرى لإنشاء مصانع للتجميع النهائي، فيما يصف المسؤولون والباحثون في واشنطن هذه الجهود بأنها جزء من “دبلوماسية الرقائق” الجديدة.

وتؤكد إدارة بايدن أن إنتاج مزيد من الرقائق في الولايات المتحدة سيجعل البلاد أكثر ازدهاراً وأماناً، وتفاخر الرئيس بايدن بجهوده خلال مقابلته الجمعة الماضي مع قناة “أي بي سي نيوز”، مشيراً إلى دفع كوريا الجنوبية إلى استثمار مليارات الدولارات في صناعة الرقائق الأميركية.

استراتيجية خارج الحدود الأميركية

يتكشف جزء أساس من هذه الاستراتيجية خارج حدود الولايات المتحدة، إذ تعمل الإدارة بالتعاون مع شركائها لضمان استدامة الاستثمارات المحلية، وفي حال نجحت هذه الجهود الناشئة فقد تساعد الإدارة على تحقيق بعض أهدافها الاستراتيجية الكبرى، فهي تسعى إلى تخفيف المخاوف الأمنية المتعلقة بالصين، التي تسعى بدورها إلى تعزيز صناعة الرقائق بينما تطلق تهديدات ضد تايوان، المركز العالمي لتكنولوجيا الرقائق، وتهدف إلى تقليل أخطار الاضطرابات في سلسلة توريد الرقائق، التي أصبحت واضحة خلال جائحة فيروس كورونا والحرب في أوكرانيا، إذ أدت تلك الأحداث إلى اضطرابات كبيرة في الشحن والتصنيع العالمي.

وقال أستاذ جامعة ستانفورد الذي خدم أخيراً كمساعد وزير الخارجية في مكتب الشؤون الاقتصادية والتجارية بوزارة الخارجية الأميركية، رامين تولوي، وهو في طليعة الجهود الدبلوماسية لإنشاء سلاسل توريد جديدة، للصحيفة “التركيز كان على بذل قصارى جهدنا لتوسيع القدرات في مجموعة متنوعة من البلدان لجعل سلاسل التوريد العالمية أكثر مرونة”.

من أشباه الموصلات للطاقة النظيفة

وتهدف الإدارة الأميركية إلى تحقيق ذلك ليس فقط في مجال الرقائق، بل أيضاً في تكنولوجيا الطاقة الخضراء مثل بطاريات المركبات الكهربائية والألواح الشمسية وتوربينات الرياح، إذ تعد الصين اللاعب الأكبر بفارق كبير في هذه الصناعات.

ويقول بايدن ومستشاروه إن هيمنة الشركات الصينية تعد قضية أمن قومي وكذلك مشكلة حقوق إنسان، نظراً إلى أن بعض التصنيع ينفذ في إقليم شينجيانغ، إذ يجبر المسؤولون هناك بعض أفراد الجماعات العرقية المسلمة على العمل في المصانع، على حد قولهم.

وخلال ثلاث سنوات من إدارة بايدن، اجتذبت الولايات المتحدة استثمارات بقيمة 395 مليار دولار في صناعة أشباه الموصلات و405 مليارات دولار في تكنولوجيا الطاقة الخضراء وتوليد الطاقة النظيفة، وفقاً لتولوي.

وتأتي عديد من الشركات التي تستثمر في هذا النوع من التصنيع في الولايات المتحدة من دول آسيوية معروفة بصناعاتها التكنولوجية مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، وكذلك من أوروبا، وإحدى هذه الشركات هي “أس كي هاينكس”، شركة صناعة الرقائق الكورية الجنوبية التي تبني مصنعاً بقيمة 3.8 مليار دولار في إنديانا، وتقول وزارة الخارجية إن هذا المشروع هو أكبر استثمار على الإطلاق في تلك الولاية، ولديه القدرة على جلب أكثر من 1000 وظيفة إلى المنطقة.

من جهته أشار وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في خطاب ألقاه الشهر الماضي في مؤتمر بولاية ماريلاند إلى أن هذا المشروع يهدف إلى تشجيع الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة، وأكد أمله في أن يجذب التشريع الذي أقره بايدن الاستثمار الأجنبي إلى التصنيع العالي التقنية في الولايات المتحدة من خلال “تحديث طرقنا وسككنا الحديد وشبكات النطاق العريض وشبكات الكهرباء”.

وأضاف أن الجهود السياسية تهدف إلى “تعزيز وتنوع سلاسل التوريد وتعزيز التصنيع المحلي وتحفيز الصناعات الرئيسة في المستقبل من أشباه الموصلات إلى الطاقة النظيفة”.

ولعبت وزارة التجارة الأميركية دوراً كبيراً في الجهود الرامية إلى تعزيز سلسلة توريد الرقائق مع توزيعها 50 مليار دولار على الشركات والمنظمات للبحث والتطوير وتصنيع الرقائق. وقادت وزيرة التجارة، جينا رايموندو، دراسة معمقة لسلاسل توريد الرقائق العالمية لتحديد نقاط الضعف، وعملت مع الحكومات الأجنبية لمناقشة فرص الاستثمار الإضافي في الخارج، وكان هذا الموضوع محور رحلتها إلى كوستاريكا هذا الربيع، إذ التقت مع مسؤولين محليين ومديرين تنفيذيين من “إنتل” التي تدير مصنعاً هناك، وناقشت تنويع سلسلة توريد أشباه الموصلات خلال رحلاتها إلى بنما وتايلاند.

تحدي إعادة تشكيل سلاسل التوريد العالمية

لكن إعادة تشكيل سلاسل التوريد العالمية لتكون أقل اعتماداً على شرق آسيا ستكون تحدياً، إذ تقدم مصانع الرقائق في شرق آسيا تقنيات متقدمة وخبرة كبيرة وكلفة أقل مقارنة بالمصانع الأميركية المتوقعة، فعلى سبيل المثال لا الحصر تنتج تايوان أكثر من 60 في المئة من رقائق العالم وتقريباً جميع الرقائق الأكثر تقدماً، التي تستخدم في أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية وغيرها من الأجهزة، وبالمقارنة قد تواجه صناعة أشباه الموصلات الأميركية نقصاً يصل إلى 90 ألف عامل خلال السنوات القليلة المقبلة، وفقاً لعديد من التقديرات.

وتدعم حكومات الصين وتايوان وكوريا الجنوبية ودول أخرى أيضاً صناعات الرقائق الخاصة بها بصورة كبيرة، ومع ذلك من المتوقع أن تحول استثمارات الولايات المتحدة الجديدة بمليارات الدولارات بعض سلاسل التوريد العالمية إلى أميركا أو أسواق حليفة، ومن المتوقع أن ترتفع حصة الولايات المتحدة من تصنيع الرقائق العالمية إلى 14 في المئة بحلول عام 2032، مقارنة بـ10 في المئة حالياً، وفقاً لتقرير صادر في مايو (أيار) الماضي، عن جمعية صناعة أشباه الموصلات ومجموعة بوسطن الاستشارية.

وانخرط بعض مسؤولي الإدارة الأميركية في صورة أكثر قسرية من دبلوماسية الرقائق لمنع الصين من تطوير نسخ من التكنولوجيا الأميركية، وركز هذا النهج على إقناع عدد قليل من البلدان ــ اليابان وهولندا خصوصاً ــ بمنع الشركات من بيع بعض أدوات صنع الرقائق للصين.

وزار آلان إستيفيز، الذي يقود المكتب المسؤول عن ضوابط التصدير في وزارة التجارة الأميركية، اليابان وهولندا الشهر الماضي، لمحاولة إقناع الدولتين بمنع الشركات هناك من بيع بعض التكنولوجيا المتقدمة للصين.

وعلى النقيض من ذلك، سافر تولوي ومساعدوه حول العالم لاستكشاف الدول والشركات التي قد ترغب في الاستثمار في الصناعة الأميركية وإنشاء مصانع من شأنها أن تشكل نقطة النهاية لسلسلة التوريد. وقال تولوي إن عمل مكتبه كان أحد عناصر التشريع الذي أصدره بايدن أخيراً لخلق مزيد من وظائف التصنيع في الولايات المتحدة، بما في ذلك قانون البنية التحتية وقانون الرقائق والعلوم، ويتضمن إنشاء حوافز مفيدة لإنتاج أشباه الموصلات (CHIPS) والعلوم الذي أصبح قانوناً في أغسطس (آب) 2022، تمويلاً بقيمة 500 مليون دولار سنوياً لإنشاء سلاسل توريد آمنة وحماية تكنولوجيا أشباه الموصلات. وتعتمد وزارة الخارجية الأميركية على هذه الأموال للعثور على بلدان لتطوير سلسلة التوريد، كما ينظم المسؤولون دراسات في مجموعة من البلدان لمعرفة كيف يمكن الارتقاء بالبنية التحتية والقوى العاملة إلى معايير معينة لضمان تجميع الرقائق وتعبئتها وشحنها بصورة سلسة.

ومن الدول المشاركة الآن في البرنامج كوستاريكا وإندونيسيا والمكسيك وبنما والفيليبين وفيتنام، وتعمل الحكومة الأميركية اليوم على إضافة كينيا إلى القائمة.

وقال تولوي إن التدريب الوظيفي يمثل أولوية في إنشاء سلسلة التوريد هذه، مشيراً إلى أنه تحدث إلى جامعة ولاية أريزونا حول الشراكة مع المؤسسات الخارجية لتطوير برامج التدريب، وإحدى هذه المؤسسات هي جامعة فيتنام الوطنية في مدينة هوشي منه، التي زارها في مايو الماضي.

وقال المدير الإداري لشركة “داتينا”، مارتين راسر، وهي شركة أبحاث تركز على الصين، إن شبكة التحالفات هذه تمثل ميزة استراتيجية تتمتع بها الولايات المتحدة على الصين.

وأضاف أن محاولة الولايات المتحدة القيام بكل شيء بنفسها سيكون مكلفاً للغاية، إذ تلعب بلدان مختلفة أدواراً مهمة في سلسلة توريد الرقائق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى