اقتصاد دولي

تباطؤ الاقتصاد الصيني ينذر بانزلاق بكين في دائرة الركود

أظهرت البيانات أن أسعار المنازل انخفضت 5.7 في المئة على أساس سنوي في أكبر انخفاض خلال تسع سنوات

تزداد معاناة الاقتصاد الصيني، مما يزيد الضغط على بكين لتعزيز الدعم للأسر أو المخاطرة بالوقوع في ركود منخفض النمو مصحوب بانخفاض الأسعار والخلافات التجارية. وأظهرت الأرقام التي نشرت السبت الماضي ضعف النشاط الاقتصادي في جميع القطاعات خلال أغسطس (آب) الماضي، إذ سجلت أسعار المنازل أكبر انخفاض سنوي لها منذ تسع سنوات.

وأشارت بكين إلى أن مزيداً من الدعم في الطريق، لكن السياسات التي يجري اقتراحها، مثل خفض متطلبات الاحتياط للبنوك، تضاف إلى قائمة من التدابير الجزئية التي طبقت خلال العام أو العامين الماضيين، والتي فشلت حتى الآن في تحفيز الاقتصاد للوصول إلى نمو أعلى.

ولا يزال قادة الصين ملتزمين هدفهم الطويل الأمد في تحويل الصين إلى عملاق تكنولوجي محصن ضد التدخل الغربي، حتى لو كان ذلك على حساب النمو قصير الأجل أو إعادة التوازن لاقتصاد غير متكافئ يعتمد بصورة مفرطة على الاستثمار والصناعة.

وتتدفق الأموال إلى المصانع، لا سيما في الصناعات ذات الأولوية مثل السيارات الكهربائية وأشباه الموصلات ومعدات الطاقة المتجددة.

انزلاق الاقتصاد الصيني

ومن دون حوافز أقوى موجهة نحو تعزيز الإنفاق بدلاً من توسيع العرض، يحذر الاقتصاديون من أن الصين قد تنزلق إلى فترة ضارة من انخفاض الأسعار والنمو البطيء، مشابهة للركود الطويل الأمد الذي شهدته اليابان، أو التعامل المؤلم مع الديون بعد أزمات العقارات السابقة في أوروبا والولايات المتحدة. وقالت مديرة الأبحاث الاقتصادية لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ في “موديز أناليتيكس” في سيدني كاترينا إيل لصحيفة “وول ستريت جورنال”، “يبدو أنهم يتخبطون… لا أرى أي شيء يبعث على التفاؤل”.

وتعكس سلسلة من البيانات السلبية هذا القلق فقد تراجعت ثقة المستهلك في يوليو (تموز) الماضي، بينما لا تزال معدلات التضخم قريبة من الصفر، كما سجلت الاستطلاعات التجارية في أغسطس الماضي، انخفاضاً في الأرباح وزيادة في المخزونات لدى الشركات المصنعة الصينية، وهي علامات واضحة على أن المصانع تنتج سلعاً بسرعة أكبر بكثير من قدرة الصين أو حتى العالم على استيعابها.

وانخفضت مبيعات السيارات في أغسطس الماضي للشهر الخامس على التوالي، كما هبطت عائدات السندات الحكومية الصينية لأجل 10 سنوات إلى مستويات جديدة، مما يشير إلى تراجع ثقة المستثمرين في آفاق الاقتصاد.

وأظهرت البيانات الصادرة السبت الماضي أن مبيعات التجزئة ارتفعت بنسبة 2.1 في المئة فقط على أساس سنوي في أغسطس الماضي، بانخفاض حاد عن الزيادة التي بلغت 2.7 في المئة في الشهر السابق، وارتفع الإنتاج الصناعي بنسبة 4.5 في المئة، مقارنة بـ5.1 في المئة في يوليو الماضي، بينما تباطأ الاستثمار في المباني والمعدات والأصول الثابتة الأخرى ليصل إلى 3.4 في المئة حتى أغسطس الماضي، مقارنة بـ3.6 في المئة في الأشهر السبعة الأولى.

وأظهرت البيانات أن أسعار المنازل انخفضت بنسبة 5.7 في المئة على أساس سنوي في أغسطس الماضي، وهو أكبر انخفاض خلال تسع سنوات، على رغم جهود الحكومة لاحتواء أزمة العقارات من خلال خفض أسعار الفائدة، وتخفيف قيود شراء المنازل، والتعهد بشراء المنازل غير المبيعة.

وكانت النقطة المضيئة الوحيدة في الصادرات، التي ارتفعت بنسبة 8.7 في المئة على أساس سنوي في أغسطس الماضي، متفوقة بصورة كبيرة على الواردات، التي سجلت نمواً طفيفاً بنسبة 0.5 في المئة.

وخفض عديد من المحللين في “وول ستريت” توقعاتهم للاقتصاد الصيني لهذا العام والعام المقبل، في حين أن قلة هم الذين يعتقدون الآن أن هدف بكين بنمو يقارب خمسة في المئة لهذا العام يمكن تحقيقه من دون مزيد من الدعم من البنك المركزي والحكومة.

وكانت شركة “ميزوهو سيكيوريتيز” آخر المنضمين إلى موجة التخفيضات الجمعة الماضي، إذ خفضت توقعاتها للنمو إلى 4.7 في المئة هذا العام من 4.8 في المئة، مشيرة إلى ما سمته الخطر المتزايد للتأخر أو عدم كفاية الاستجابة السياسية للتحديات المتزايدة.

مخاوف الديون وأسعار الصرف والاستقرار المالي

وحتى الرئيس الصيني شي جينبينغ قلل من توقعاته، ففي خطاب ألقاه الخميس الماضي، حث كوادر الحزب الشيوعي على “العمل الجاد” لتحقيق هدف الحكومة. وفي يوليو الماضي، كانت التعليمات من كبار المسؤولين في الحزب هي “الإصرار بثبات على تحقيق” ذلك الهدف. في حين أن عدم تحقيق هدف النمو الرسمي سيكون أمراً غير معتاد، على رغم أن هدف “نحو 5 في المئة” يمنح بكين بعض المرونة. ويتوقع الاقتصاديون بصورة عامة تقديم دعم مالي ونقدي متواضع إضافي خلال ما تبقى من العام لدفع الاقتصاد نحو تحقيق الهدف. ولمح مسؤول كبير في بنك الشعب الصيني (البنك المركزي الصيني) خلال مؤتمر صحافي هذا الشهر إلى أن البنك المركزي يدرس خفض متطلبات الاحتياط للبنوك، مما سيتيح المزيد من الموارد للإقراض.

وأعلن المسؤولون عن خطط لشراء المنازل غير المبيعة وتحويلها إلى مساكن إيجارية ميسورة الكلفة، ومع ذلك، فإن الحوافز الكبيرة ليست مطروحة، إذ رفضت بكين الشهر الماضي اقتراح صندوق النقد الدولي لإنقاذ قطاع العقارات على نطاق واسع، معتبرة إياه مكلفاً للغاية وغير ضروري، ومن المرجح أن يتسبب في مشكلات مالية مستقبلية. في وقت تمسك المسؤولون بنهجهم التدريجي لدفع الاقتصاد إلى الأمام عند تعثره، من دون تحفيزه لنمو أعلى، مستشهدين بمخاوف تتعلق بالديون وأسعار الصرف والاستقرار المالي. أما الإصلاحات المعقدة المتعلقة بالضمان الاجتماعي والضرائب والرعاية الصحية، والتي من شأنها أن تضع الأسر على أرضية مالية أكثر ثباتاً تأجلت إلى المستقبل.

أزمة العقارات و18 تريليوناً من الثروة المفقودة

وتكمن جذور مشكلات الصين في أزمة العقارات التي لا تزال مستمرة وتستنزف الإيرادات الحكومية، وتعوق الاستثمار، وتمنع المستهلكين من الإنفاق بحرية. ويقدر الاقتصاديون في بنك “باركليز” أنه إذا انخفضت أسعار المنازل على مستوى البلاد بنفس نسبة التراجع البالغة 30 في المئة التي سجلت في المدن الكبرى منذ عام 2021، فإن ركود العقارات في الصين كلف الاقتصاد 18 تريليون دولار من الثروة المفقودة، وهو مبلغ مذهل يعادل نحو 60 ألف دولار للأسرة الصينية المكونة من ثلاثة أفراد.

وقال الرئيس التنفيذي لسلسلة الفنادق “ماريوت إنترناشيونال”، في مؤتمر لـ”بنك أوف أميركا” أنتوني كابوانو “هناك أزمة حقيقية في ثقة المستهلك في الصين”.

وتحاول بكين تعويض الضعف الداخلي من خلال زيادة إنتاج المصانع والصادرات، وإعادة توجيه الاستثمار بعيداً من العقارات نحو التصنيع المتقدم والقطاعات التكنولوجية الأخرى لبناء اقتصاد أقوى وأكثر اكتفاءً ذاتياً، لكن هذه الاستراتيجية تواجه مقاومة متزايدة من الشركاء التجاريين الذين يشعرون بالقلق من تدفق السلع الصينية الرخيصة. وأعلنت الهند هذا الأسبوع أنها ستفرض تعريفات جمركية بنسبة 30 في المئة على بعض واردات منتجات الصلب الصينية، وهي أحدث إجراء ضمن سلسلة من التدابير التجارية التي اتخذتها الاقتصادات الناشئة الكبرى ضد الصين، علاوة على أن الاقتصادات المتقدمة، بما في ذلك الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وكندا، تفرض حواجز أمام السيارات الكهربائية الصينية الصنع وتوجه أموال دافعي الضرائب نحو الصناعات الحساسة مثل رقائق الحواسيب والطاقة المتجددة لحمايتها من هجوم المنافسة الصينية.

نهج ترمب وهاريس تجاه الصين

قال الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب إنه سيرفع التعريفات الجمركية على الواردات الصينية إلى 60 في المئة إذا فاز في الانتخابات في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، وهو ما سيشكل تحديا أكبر بكثير لاقتصاد الصين مقارنة بالحرب التجارية التي خاضها خلال فترته الرئاسية الأولى. ومن المتوقع أن تلتزم نائبة الرئيس كامالا هاريس، المرشحة الديمقراطية، إلى حد كبير بنهج إدارة بايدن الذي يركز على حماية قطاعات معينة من خلال التعريفات الجمركية والقيود الأخرى، وتقييد وصول الصين إلى التكنولوجيا الأميركية.

وبالنسبة إلى عديد من الاقتصاديين، فإن التحدي الأكثر إلحاحاً الذي تواجهه الصين هو الانكماش، ففترة طويلة من انخفاض الأسعار تجعل الديون أصعب تحملاً وتثني الناس عن الإنفاق، إذ يتوقعون صفقات أفضل في المستقبل، كما تتأثر أرباح الشركات والتوظيف سلباً.

وقال المحافظ السابق لبنك “الشعب الصيني” يي غانغ الأسبوع الماضي في مناقشة خلال قمة “بوند”، وهو منتدى مالي في شنغهاي، مشيراً إلى كبار المسؤولين الصينيين، “أعتقد أنه يجب عليهم التركيز حالياً على محاربة الضغوط الانكماشية”.

وارتفعت أسعار المستهلكين في الصين بنسبة 0.6 في المئة، لكن عند استبعاد العناصر المتقلبة مثل الغذاء والطاقة، كانت الزيادة 0.3 في المئة فحسب، وهو أدنى معدل للتضخم الأساس منذ أكثر من ثلاث سنوات. أما أسعار المنتجين، وهي الأسعار التي تتقاضاها الشركات مقابل السلع عند مغادرتها المصانع، فقد تراجعت لمدة عامين تقريباً، علاوة على أن مقياساً أوسع لتغيرات الأسعار عبر الاقتصاد ككل انخفض في ستة من الأرباع السبعة الماضية.

ويقول الاقتصاديون إن تخفيض أسعار الفائدة وزيادة الإنفاق الحكومي سيساعدان، ولكن ينبغي أيضاً اتخاذ تدابير لرفع معنويات المستهلكين. في حين قد تحفز المساعدات قصيرة الأجل مثل القسائم أو المبالغ النقدية عبر تطبيقات الدفع الإلكتروني الإنفاق موقتاً، لكن الحل الدائم يتطلب بداية التعافي في سوق الإسكان.

وقالت كبيرة الاقتصاديين لمنطقة الصين الكبرى في “آي إن جي” بهونغ كونغ لين سونغ، “ما دام الأسر لا تزال حذرة بهذه الصورة، ستستمر الضغوط الانكماشية”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى