مختارات اقتصادية

بوصلة العصر الرقمي .. رصد كل خطوة على سطح الأرض

في ليلة باردة ومظلمة، وبينما كان المحامي “روبرت كلايتون” في فيلم “إينمي أوف ذا ستيت” (Enemy of the State) يقود سيارته محاولًا الهرب من ملاحقة لا تنتهي، كانت الأقمار الصناعية في الفضاء تتابعه بدقة متناهية.

 

كل خطوة يقوم بها كانت مرصودة، كل انعطاف يتم توثيقه، ولم يكن هناك مهرب من القبضة الحديدية لتكنولوجيا المراقبة.

 

هذه المشاهد كانت بمثابة رصد لأحد أوجه تكنولوجيا تحديد المواقع العالمي أو ما يعرف بي “جي بي إس” (GPS)، ولكن هل هذا هو الوجه الوحيد؟

 

بداية القصة

 

كانت السماء مليئة بالنجوم المتلألئة في ليلة مظلمة عام 1957، حين شوهد جسم غريب يلمع في الفضاء، هذا الجسم كان أول قمر صناعي في العالم، “سبوتنيك 1″، الذي أطلقه الاتحاد السوفيتي سابقًا.

 

لم يكن الأمر مجرد بداية لعصر استكشاف الفضاء فحسب، بل كان شرارة أدت إلى تطوير واحدة من أعظم ابتكارات العصر الحديث وهو نظام تحديد المواقع العالمي.

 

عندما انطلق “سبوتنيك” في الفضاء، لاحظ علماء أمريكيون أن إشارات الراديو التي كان يبثها القمر الصناعي تتغير تبعًا لموقعه بالنسبة للأرض.

 

واكتشفوا أن بإمكانهم تحديد موقع “سبوتنيك” عن طريق تحليل تلك الإشارات المتغيرة، هذا الاكتشاف البسيط كان نواة فكرة نظام قادر على تحديد المواقع باستخدام الأقمار الصناعية.

 

وفي خضم الحرب الباردة، أدرك الجيش الأمريكي أهمية هذه التكنولوجيا، وسرعان ما بدأ في تطوير نظام ملاحي يعتمد على الأقمار الصناعية.

 

وأجرت البحرية الأمريكية تجارب الملاحة عبر الأقمار الصناعية في منتصف الستينيات لتتبع الغواصات الأمريكية التي تحمل صواريخ نووية، ومع وجود ستة أقمار صناعية تدور حول الأرض، تمكنت تلك الأقمار من تحديد موقع الغواصة في غضون دقائق.

 

وفي عام 1973، وُلد المشروع الرسمي لنظام تحديد المواقع العالمي تحت إشراف وزارة الدفاع الأمريكية، كان الهدف الرئيسي من النظام هو توفير وسيلة دقيقة وموثوقة لتحديد المواقع في أي مكان على الأرض، خصوصًا للأغراض العسكرية.

 

 

مرّ النظام بعدة مراحل من التطوير والاختبار، وأصبح النظام يضم 24 قمرًا صناعيًا يعمل بكامل طاقته في عام 1993، ومع مرور الوقت أصبح متاحًا للاستخدام المدني أيضًا.

 

وبحلول نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، بدأ العالم يشهد تطبيقات لنظام جي بي إس في مجالات متعددة.

 

ولم يعد النظام مخصصًا للاستخدام العسكري فقط، بل تحول إلى أداة لا غنى عنها في حياتنا اليومية، من الهواتف الذكية إلى أنظمة الملاحة في السيارات، وحتى في عمليات البحث والإنقاذ.

 

وهكذا، من تجربة بسيطة لدراسة إشارات راديو من قمر صناعي روسي صغير، تحول نظام جي بي إس إلى رفيقنا الذي نثق به في كل مرة نحتاج فيها إلى توجيه أو تحديد موقع، لتظل تلك الليلة المظلمة عام 1957 شاهدة على بداية ثورة تقنية غيّرت مجرى التاريخ.

 

مزيد من الاستخدامات لنظام تحديد المواقع

 

هناك العديد من الاستخدامات اليومية تعتمد في أساسها على نظام جي بي إس، لكن أهمية هذا النظام تظهر جليّة في عمليات إنقاذ الأرواح والممتلكات أوقات الأزمات والكوارث الطبيعية.

 

ومن أبرز تلك الاستخدامات تقنية الاستشعار عن بُعد المعتمدة على نظام تحديد المواقع، والتي توفر معلومات في الوقت الفعلي حول المناطق المحيطة باستخدام أجهزة الاستشعار والكاميرات وأنظمة الرادار للكشف عن البيانات وتحليلها من مسافة بعيدة.

 

كما يحلل ظروف المرور وتحديثات الطقس والعوامل البيئية التي تؤثر على الملاحة لتوفير سفر أكثر أمانًا للمستخدمين.

 

ويُعد الاستشعار عن بُعد مفيدًا بشكل خاص للملاحة في المواقع النائية والخطرة مثل المحيطات المفتوحة والمدن التي غمرتها الفيضانات والمناطق المتضررة من الكوارث الطبيعية.

 

نظام الملاحة المستقلة من بين الاستخدامات الحديثة لنظام تحديد المواقع وهو يمكّن المركبات والأجهزة الأخرى من التنقل دون تدخل بشري.

 

وتجمع هذه التكنولوجيا بين أجهزة الاستشعار والكاميرات والخوارزميات لتمكين الأجهزة من اكتشاف بيئتها والاستجابة لها في الوقت الفعلي.

 

وتتمتع الملاحة المستقلة بفوائد عديدة مثل زيادة السلامة وتقليل أوقات السفر وتحسين الكفاءة، حيث تتنقل المركبات المستقلة بكفاءة أكبر من خلال تجنب الازدحام المروري واتخاذ أقصر طريق إلى وجهتها، كما أنها تقلل من خطر الحوادث من خلال اكتشاف المخاطر المحتملة.

 

 

وكما أن للملاحة المستقلة استخدامات مدنية فإن هذه التقنية تلعب دورًا مهمّاً في الطائرات المسيرة والتي أصبحت في طليعة الأسلحة المستخدمة في الحروب والصراعات الحالية.

 

تحديد المواقع الداخلية هي أيضًا تقنية تعتمد على نظام جي بي إس، وتوفر للمستخدمين قدرات الملاحة داخل المباني وغيرها من الأماكن المغلقة.

 

وتستفيد مثل هذه الحلول من أجهزة الاستشعار والخوارزميات لتحديد موقع الجهاز بالنسبة لمحيطه.

 

ويُعد تحديد المواقع الداخلية مفيداً في البيئات مثل المطارات ومراكز التسوق والمستشفيات، حيث يكون التنقل صعبًا بسبب تعقيد تخطيط البنية الأساسية.

 

ومن بين التقنيات أيضًا نظام تحديد المواقع العالمي المتقدم، وهو تقنية تستخدم أجهزة استشعار وخوارزميات إضافية على نظام تحديد المواقع العالمي التقليدي لتتبع الموقع الدقيق لجهاز الاستقبال بدقة أفضل.

 

وتتيح تلك التقنية تحديثات حركة المرور في الوقت الفعلي، ما يوفر للسائقين والمستخدمين الآخرين تجربة تنقل أكثر دقة وكفاءة.

 

بالإضافة إلى ذلك، تُعد أنظمة جي بي الحديثة مفيدة في تطبيقات أخرى مثل تتبع أو مراقبة حركة الأشخاص والمركبات، وبالتالي تعمل على تحسين إدارة الأصول والسلامة مع تقليل أوقات السفر وتعزيز الإنتاجية الإجمالية.

 

سوق بالمليارات

 

وقُدر حجم سوق أنظمة تحديد المواقع العالمية بنحو 94.25 مليار دولار في عام 2022، ومن المتوقع أن ينمو بمعدل نمو سنوي مركب بنسبة 16.1% من عام 2023 إلى عام 2030.

 

وسجل حجم هذا السوق نحو 109.3 مليار دولار في عام 2023، ومن المنتظر أن ينمو هذا السوق بشكل أكبر مع حلول عام 3030 ليصل 311.8 مليار دولار.

 

ومن المتوقع أن يعزز انتشار الهواتف الذكية المتزايد وانتشار المركبات التي تعمل بنظام تحديد المواقع العالمي نمو السوق خلال الفترة المتوقعة.

 

 

علاوة على ذلك، فإن الاستخدام المتزايد لوسائل التواصل الاجتماعي في جميع أنحاء البلدان النامية والنمو في عمليات الدمج والاستحواذ بين مصنعي المكونات والمتكاملين من شأنه أن يغذي نمو سوق أنظمة تحديد المواقع العالمية.

 

كما أنه من المتوقع أن تساعد عمليات الدمج والاستحواذ بين مصنعي المكونات ومُدمجي الأنظمة اللاعبين في سوق نظام تحديد المواقع العالمي على الحصول على حصة عالية من الإيرادات وزيادة الربحية الإجمالية خلال السنوات القادمة.

 

مصاعب تواجه تقنية جي بي إس

 

قد تتعرض لموقف يبلغك فيه نظام تحديد المواقع العالمي في السيارة أنك قد وصلت إلى فندقك، ولكن كل ما يمكنك رؤيته هو الصحراء أو ربما مزرعة.

 

في بعض الأحيان، يخيب نظام تحديد المواقع العالمي- الذي يستخدم إشارات من الأقمار الصناعية لتحديد الموقع- آمالنا، ولكن هل تساءلت يومًا عن سبب حدوث مثل هذا الخطأ؟

 

قد يكون الخروج عن النطاق -إلى واد شديد الانحدار أو غابة كثيفة- كافيًا لتعطيل نظام تحديد المواقع العالمي في سيارتك، ولكنّ هناك أسباباً أخرى لفشل أنظمة الملاحة العالمية عبر الأقمار الصناعية.

 

أول تلك الأسباب هو التزييف أو التشويش حيث يتم إرسال إشارات خاطئة لخداع جهاز تحديد المواقع العالمي ليعتقد أنه في مكان آخر، وبالفعل تم الإبلاغ عن نحو 50 ألف حادث على متن الطائرات خلال عام 2022 فيما يتعلق بهذا الأمر، بزيادة خمسة أضعاف عن إجمالي العام الذي يسبقه، وفقًا لجمعية الطائرات التجارية الأوروبية.

 

لذا يختبر علماء في كلية إمبريال بلندن “بوصلة الكم” (Quantum Compass) في أنفاق لندن.

 

وهي تقنية جديدة يمكن أن تحل محل نظام تحديد المواقع العالمي أو تعمل بجانبه، بغرض الملاحة في الأماكن التي يصعب فيها الاعتماد على الأقمار الصناعية.

 

ويعتمد هذا الجهاز على ذرات مُبردة للغاية ومبادئ ميكانيكا الكم لقياس الحركة بدقة عالية جدًا، ما يوفر بديلاً ذاتي التشغيل لأنظمة الجي بي إس التي تعتمد على الأقمار الصناعية، وهذا يعني أن الإشارة “لا تنحرف”، ما يجعل اعتراضها أو تزييفها أكثر صعوبة، كما يقول “ريتشارد كلاريدج”، الفيزيائي في مجموعة بي إيه الاستشارية.

 

هل يستبدل نظام جي بي إس قريبًا؟

 

في مايو الماضي، أجرت المملكة المتحدة اختبارين منفصلين للملاحة الكمومية – أحدهما على متن سفينة تابعة للبحرية الملكية والآخر على متن طائرة نفاثة صغيرة، وفي الشهر التالي، أصبح نظام النقل تحت الأرض في لندن موقع اختبار للتكنولوجيا.

 

 

وأثبتت الاختبارات بنجاح أن الملاحة الكمومية “غير قابلة للتشويش”، ويمهد بحث المملكة المتحدة الطريق أمام نشر التكنولوجيا على نطاق أوسع في المستقبل.

 

لكن هل تحل الملاحة الكمومية محل نظام تحديد المواقع العالمي؟ لقد تم تقدير أن انقطاع خدمة الأقمار الصناعية ليوم واحد سيكلف المملكة المتحدة أكثر من 1.3 مليار دولار على سبيل المثال لذلك فإن الحكومات والشركات حريصة بالتأكيد على إيجاد حل.

 

لكن من غير المرجح أن تحل أنظمة الملاحة الكمومية محل نظام تحديد المواقع العالمي في وقت قريب، فهناك حاجة إلى ذرات شديدة البرودة لتحقيق الملاحة الكمومية، والمعدات كبيرة الحجم حاليًا.

 

حتى عندما تنكمش الآلات في السنوات القادمة، فمن المحتمل أن تستخدم الملاحة الكمومية كنسخة احتياطية بدلًا من استبدال نظام تحديد المواقع العالمي بشكل كامل.

 

ومن المرجح أيضًا نشرها في الأماكن التي لا يوجد فيها نظام تحديد المواقع العالمي، مثلما الحال عند التواجد تحت الماء.

 

بالطبع، ستستمر الأقمار الصناعية في إفادة الحياة على الأرض بطرق أخرى أيضًا، فبحلول عام 2030 من المتوقع أن تولد رؤى مراقبة الأرض أكثر من 700 مليار دولار، وفقًا لتقرير “تضخيم القيمة العالمية لمراقبة الأرض” الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي.

 

المصادر: أرقام- إنترنت موفي داتيا بيز (آي ام دي بي)- موقع ناسا- منتدى الاقتصاد العالمي- جراند فيو ريسيرش

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button