هل تواجه جامعات بريطانيا خطر الإفلاس؟
سيارات حُملت بالثياب ولبادات المرتبات والمصابيح الجانبية والملصقات والأواني والمقالي وغيرها من مستلزمات الحياة الطلابية، تشق طريقها أواخر شهر سبتمبر (أيلول) الجاري على الطرق السريعة لتنقل آخر دفعة من طلاب السنة الجامعية الأولى إلى حرم جامعاتهم في كل أنحاء بريطانيا. وفي هذه الأثناء، سوف تنكب مجموعة أخرى على تفقد آخر نسخة من دليل الجامعات لاختيار الجامعة التي ستقدم طلبات الدخول إليها عبر هيئة القبول في الجامعات والكليات.
لكن إن صدقنا التحذيرات الخطيرة التي صدرت أخيراً، فهل ستبقى بعض هذه المؤسسات في الخدمة أصلاً خلال السنوات القادمة؟ يواجه قطاع التعليم العالي خطر الانهيار الوشيك بسبب الديون التي راكمها بعد عقد من تجميد الرسوم الدراسية للطلاب تحت سقف معين وتقلص أعداد الطلاب الدوليين بعد أن أخافهم جو العدائية تجاه الأجانب، الذي ينضوي تحته ارتفاع كبير في تكاليف التأشيرات الدراسية والرسوم.
لا شك أبداً في وجود أزمة تمويل تمس قطاع التعليم العالي. ومن الشواهد على ذلك المؤسسات المتوقع أن تبلغ عن عجز هذا العام، وتصل نسبتها إلى 40 في المئة؛ وما يدل على وضعها هو تعدد خطط تسريح الموظفين حالياً التي يغادر بموجبها عدد كبير من الموظفين، ومن بينهم أكاديميين، مختلف الجامعات. لم يسلم أحد في القطاع برمته من هذه الأزمة التي طالت الجميع بدءاً بجامعات غاية في الانتقائية تابعة لـ”مجموعة راسل” Russell Group ووصولاً إلى جامعات عصرية سريعة الانتشار، بدأ تأسيسها عام 1992.
كانت جامعة “شرق أنغليا” أبرز جامعة تعاني من وضع مالي شائك العام الماضي، إذ سجلت خسائر تقدر بـ74 مليون جنيه إسترليني (جنيه إسترليني واحد يعادل نحو 1.34 دولار أميركي) في العام المنتهي في يوليو (تموز) 2022. ومنذ وقت قريب، أعلنت جامعة لنكولن أنها تواجه “متاعب مالية”، في الوقت الذي تناقلت فيه التقارير أنباء عن عمليات إعادة هيكلة وتخفيضات في الميزانية و/أو تسريح موظفين من جامعة غولدسميث وجامعة لندن وكوفنتري ويورك وكارديف. في المقابل، غابت أسماء جامعات كثيرة عن العناوين حتى الآن، من بينها جامعات “مجموعة راسل”، لكنها قد تُذكر قريباً مع توقف دروسٍ وإغلاق أقسام.
ومع أن بعض التعثر الداخلي محتمل، إلا أنه من غير المرجح أن تنهار أي مؤسسة بالكامل. فمن شأن ذلك أن يشكل لطخة سيئة بالنسبة إلى قطاع التعليم العالي في المملكة المتحدة الذي لا تتفوق عليه من حيث السمعة العالمية حتى الآن سوى الولايات المتحدة. لا بد إذن من تدخل هيئة تنظيم الجامعات أي “مكتب الطلاب” الذي أخبرني عدد كبير من نواب رؤساء الجامعات بأنه “في سبات عميق”، لتعيد هيكلة تلك المؤسسات الأقرب إلى حافة الهاوية.
لكن موضوعنا ليس ماذا أو من يتحمل مسؤولية إيصال الأمور إلى هذا الحد بقدر ما الذي يجب أن نفعله لكي نصلح الوضع الراهن. في الأيام الأخيرة، خرج نواب رؤساء الجامعات والهيئات الممثلة لعدة رابطات جامعات على وسائل الإعلام لكي يطرحوا حلولاً ممكنة. ولكن يبدو أن عدداً مقلقاً من بينهم يلتفت فقط إلى الطلاب والآباء لحل المشكلة.
إذ لمح البعض إلى رفع رسوم الدراسة لطلاب المملكة المتحدة. حتى أن فيفيان ستيرن، الرئيسة التنفيذية لرابطة “جامعات المملكة المتحدة” Universities UK، قالت إنها تعتقد بأن معظم العائلات ستتفهم ضرورة رفع رسوم الدراسة. وما أبعد ذلك عن الحقيقة!
وتعاني جميع العائلات، باستثناء أصحاب الدخل الأعلى، في سبيل تعليم أبنائها في الجامعات. ويقدم الآباء والأمهات دعماً مالياً حيثما استطاعوا في ظل النظام الحالي (وهو دعم يصل في حالتي إلى مئة ألف جنيه لثلاثة أولاد)، ومع ذلك يخرج الأبناء من الجامعات وهم يرزحون تحت ثقل دين طلابي يصل بالمعدل إلى 43700 جنيه.
وفيما تتراوح معدلات الفائدة على تلك القروض بين 4.3 و7.3 في المئة، يقول البروفسور تشارلي جيفري، نائب رئيس جامعة “يورك” “يراكم طلابنا ديوناً من بين الأعلى في العالم. وقد أدخلت الحكومة الأخيرة تغييرات جعلت فترة سداد الدين أطول وأكثر تنازلية ما يعني أن شهادة الممرض سوف تكلفه في نهاية المطاف أكثر من شهادة الطبيب، وشهادة المعلم أكثر من شهادة المصرفي وشهادات النساء أكثر من شهادات الرجال”.
وتضمنت تلك التغييرات إطالة مدة سداد الدين الطلابي، من 30 إلى 40 سنة، ما يعني بأن ذوي الدخل المتوسط والمنخفض (مثل الممرضين) يواجهون الآن احتمال قضاء حياة عملية كاملة تقريباً في سداد القرض الدراسي، وفي المقابل ما يعنيه تخفيض سقف الدخل الذي يبدأ عنده السداد إلى 25 ألف جنيه أن ذوي الدخل المرتفع (الأطباء مثلاً) سيتمكنون من سداد ديونهم بشكل أسرع.
أحد الأسباب وراء طول مدة سداد القروض الدراسية العبثي ذاك، هو أسعار الفائدة الصارخة التي تُفرض على ديون الطلاب. تخرج ابني من جامعة “ليدز” في صيف العام 2023. خلال دراسة استمرت أربعة أعوام، راكم نحو 48 ألف جنيه استرليني، تتوزع بين رسوم دراسية وقروض إعالة، لكن بحلول الأسبوع الجاري، تضاعف هذا المبلغ ووصل إلى 56068 جنيه.
وهو واحد من بين 1.8 مليون طالب تقريباً لديهم قروض دراسية تتراوح بين 50 و100 ألف جنيه. بينما يصل عدد الطلاب الذين لديهم ديون بين 100 و200 ألفاً إلى 61 ألف شخص، استناداً إلى أحدث الإحصاءات الصادرة عن شركة “قروض الطلبة الحكومية” Student Loans Company.
إن النظام الحالي ظالم إلى أبعد الحدود، ويدفع الطلبة وعائلاتهم اليوم ثمن قرارات اتخذتها حكومات [توني] بلير و[جون] مايجور منذ 20 و30 عاماً بغية توسيع نظام التعليم العالي في المملكة المتحدة بشكل كبير كما لو أنهم المستفيدين الوحيدين من هذا القرار الرشيد. وتدفع أفقر الفئات الثمن الأعلى على الإطلاق إذ تتوفر أعلى قروض الإعالة فقط للطلاب من الأسر التي لا يتعدى مدخولها السنوي 25 ألفاً.
يقول جون كايتر، نائب رئيس الجامعة وصاحب أطول خدمة في المملكة المتحدة، إذ يقود جامعة “إيدج هيل” منذ العام 1993 “على جميع المستفيدين أن يدفعوا لقاء التعليم العالي، وستعم الفائدة على الفرد والدولة على حد سواء. ويحصل الخريجون على وظائف أفضل ويدفعون ضرائب أكثر ويقل اعتمادهم على هيئة الخدمات الصحية الوطنية وترتفع احتمالات مشاركتهم في العمل التطوعي وفي المساهمة بالمجتمع، لذلك فإن الجميع يكسب وعلى الجميع، وليس فقط الطلاب وأُسرهم، أن يدفعوا”.
هذا تحديداً ما يحصل في دول أوروبية كثيرة فيها القدر نفسه من معدلات المشاركة المرتفعة في التعليم العالمي. ففي فرنسا، تكلف شهادة البكالوريوس 175 يورو (نحو 195.35 دولار) سنوياً، بينما تصل تكلفة برامج الماجستير إلى 250 يورو سنوياً فيما تعد دراسات الهندسة أعلى الدراسات ثمناً إذ تصل تكلفة السنة الواحدة فيها إلى 618 يورو.
وفي ألمانيا، تقدم كل الجامعات الحكومية تعليماً مجانياً بينما يدفع الطالب أجوراً إدارية تلامس 300 يورو في الفصل الواحد. أما في الدنمارك والنرويج والسويد وفنلندا، فالتعليم العالي مجاني أيضاً.
من جانب آخر، تفرض هولندا رسوماً دراسية أعلى، لكن ما يزال مبلغ 2530 يورو سنوياً ضئيلاً مقارنة بالرسوم في المملكة المتحدة. ويبدو أن المملكة المتحدة المكان الوحيد الذي جاء فيه توسيع قطاع التعليم العالي من أجل المصلحة العامة لاقتصاد البلاد، على حساب الطلاب وعائلاتهم، إذ أنهم الوحيدون الذين مولوه.
والوضع مرشح للاستمرار على هذا المنوال، أقله على المدى القصير.
ومع ترجيح الاحتمالات طرح ميزانية تحمل “أخباراً سيئة”، يبدو الوقت مناسباً كي تعترف وزيرة الخزانة رايتشل ريفز بأزمة التعليم العالي التي ورثتها عن المحافظين. وقد يأتي هذا الإدراك على شكل زيادة مؤقتة في الرسوم الدراسية البريطانية لوقف النزيف، 9600 جنيه سنوياً أو 9750 كحد أقصى، مع الحرص على تدني النسبة عن عتبة 10 آلاف جنيه، التي لديها وقع نفسي خاص.
ومن شأن هذا الإجراء أن يشتري بعض الوقت لكن يجب أن تترافق معه مراجعة أعم للطريقة التي تعتمدها البلاد في دفع تكاليف التعليم العالي وإبقاء أبواب مؤسساتها مفتوحة، ما عاد بالإمكان تأجيل حل الموضوع ووضعه على عاتق أحد آخر. وليس من المعقول أن تنحصر كل الحلول بالطلاب وأُسرهم.
يجب أن يكون تخفيف العبء عن كاهل شبابنا أولوية في أي مراجعة لعملية تمويل التعليم العالي. ويجب إما إزالة رسوم الفوائد كلياً أو تخفيضها على أقل تقدير لتتناسب ببساطة مع المعدل الذي تدفعه الحكومة للاقتراض. وقد تشمل الخيارات الأخرى التي يمكن أن تشكل بديلاً عن النظام الحالي المعطل طرح ضريبة الخريجين (ضريبة تصاعدية على أجور الخريجين) تضمن على الأقل بأن يدفع أكثر المنتفعين مالياً من تعليمهم الجامعي أعلى الرسوم لقاء هذا التعليم.
ومن ناحية ثانية، تحظى فكرة منح الإعالة غير القابلة للاسترداد بالدعم كذلك، وربما يمكن طرحها بالتزامن مع زيادة كبيرة في كمية المنح المتوفرة. ويقول بول كروني، نائب رئيس جامعة “تيسايد” التي توظف أشخاصاً من أشد المناطق حرماناً في البلاد “إن كنا نؤمن بفكرة الحراك الاجتماعي علينا زيادة الإعالة والدعم بما يشمل إعادة تقديم المنح وليس القروض”.
ويعتقد كروني الذي أشرف على استثمار أكثر من 300 مليون جنيه في منشآت خلال العقد الماضي من دون أن يقترض قرشاً، بضرورة تقديم منح دراسية للعاملين في الوظائف الرئيسة من أجل معالجة مشاكل التوظيف في قطاعات التمريض والتعليم وغيرها من القطاعات العامة. ويقول “علينا أن نتيح للناس فرصة التسجيل في اختصاصات تخدم قطاعات عامة بحاجة ماسة لليد العاملة”.
ويجب أن يشمل أي نوع من الحلول أيضاً التلمذة المهنية. في بعض الجامعات هناك آلاف الطلاب المسجلين في برامج تلمذة مهنية، لنيل شهادة على مبدأ “حصّل أجراً بينما تتعلم”، لا تحمل كاهل الطلاب أي ديون. إذ يدفع أصحاب العمل (وهم من أكبر المستفيدين من القوى العاملة الأفضل تعليماً) الرسوم الدراسية. وعلى الجامعات التي لا تقدم هذا النوع من البرامج أن تبدأ بذلك.
وبالتالي، مع انطلاق السنة الدراسية الجديدة ووصول صف العام 2024 إلى الحرم الجامعي كي يعيش “أفضل ثلاث سنوات في حياته”، لا شك في أن الآباء على الأقل سيصغون بانتباه إلى رايتشل ريفز في 30 أكتوبر (تشرين الأول) [تاريخ إعلان الميزانية]. إذ حتى لو كانت منهمكة بالأعمال والمتطلبات الكثيرة، فأزمة التعليم العالي أكبر من أن تتجاهلها.