نوبل في الاقتصاد .. الملك واشنطن وتفاحة عدن
بعدما وضعت حرب الاستقلال أوزارها، وانتهت بفوز المستعمرات الأمريكية على الإمبراطورية البريطانية في ثمانينيات القرن الثامن عشر، ما أفضى إلى تأسيس الولايات المتحدة، كان الجنرال “جورج واشنطن” يستعد لجني مكاسبه نظير الدور الكبير الذي لعبه للانتصار.
في ذلك الوقت، قاد القدر “واشنطن” للعثورعلى قطعة أثرية عتيقة وغامضة تسمى “تفاحة عدن”، وهي قطعة معدنية كروية الشكل تشع نورًا ذهبيًا عند استخدامها.
كانت التفاحة تمنح مالكها قوى خارقة ومعرفة لا تُضاهى، وخلال الحرب، كانت تتصارع عليها قوى خفية تسعى لإحكام سيطرتها على صناعة القرار العالمي، لكنها في الوقت نفسه غالبًا ما تفسد العقول وتغذي الشهوة الجامحة للسلطة.
وبخلاف ما هو متعارف عليه، من كون “واشنطن” هو الرئيس الأول والأب المؤسس للولايات المتحدة، أفسدت هذه القطعة السحرية عقل الجنرال الوطني وغطت قلبه بحب القوة والتسلط، حتى أنه قرر تنصيب نفسه “ملكًا” للبلاد.
انعزل “الملك واشنطن” في قصره الذي بناه على شكل يشبه أهرامات الجيزة، وتوجس باستمرار من اقتراب أي شخص يحاول نصيحته خشية أن يسرق مصدر قوته، وترك شعبه يعاني من الفقر والفساد والجريمة والأوبئة، وعندما شعر بتهديد من السكان الأصليين الذين أرادوا تخليصه من سيطرة التفاحة الملعونة، قاد جيوشه لإبادتهم وإحراق قراهم.
رغم أن هذه واحدة من أفضل القصص التي تربط بين الفانتازيا وشخصيات التاريخ الحقيقية، التي صاغتها شركة “يوبيسوفت” الفرنسية ضمن سلسلة ألعاب الفيديو الشهيرة “أساسنز كريد” تحت اسم “طغيان الملك واشنطن”، فهي أيضًا تعبير رمزي دقيق إلى حد كبير عن دور القوى الأوروبية الاستعمارية في سلب ونهب ثروات العالم واستعباد سكانه.
بعد قرون من سيطرة التفاحة على عقل “الملك واشنطن”، لم تُمحَ بصمتها من العالم، ورغم استقلال الدول وخروج المستعمرين الأوروبيين، ظلت لعنتها تشكل الأنظمة الاقتصادية والمؤسسات السياسية في العديد من البلدان.
الأبحاث الحديثة الحائزة على جائزة نوبل للاقتصاد لعام 2024، والتي حصل عليها 3 علماء أمريكيين، تكشف أن آثار هذه التفاحة لم تنتهِ؛ فالاستعمار لم يكن مجرد غزو للأراضي، بل كان غزوًا للعقول والمؤسسات التي شكلت ماضياً وحاضراً – وعلى الأرجح مستقبل – الدول.
ويمكن القول إن “تفاحة عدن” التي أغوت الغرب وأثارت موجة الاستعمار التاريخية هي الطمع في الموارد والثروات، وحتى الآن، لا يزال العديد من الأمم تواجه صعوبة في فك شفرات الازدهار والنهوض، نتيجة التأثير المستمر منذ عقود للإفساد الذي مارسه المحتل عليها، فكيف دمرت أوروبا مستقبل هذه الدول قبل أن تدمر ماضيها؟
كيف تقاسم المستعمرون العالم ككعكة عيد ميلاد؟
– خلال الحقبة الاستعمارية التي امتدت نحو 5 قرون، تميز العقل الأوروبي ليس فقط بالاستبداد والوحشية، بل كان أيضًا شديد الجشع شديد الغرور، يتملكه الصَّلَفُ والحماقة معًا في بعض الأوقات.
– على سبيل المثال، وقّعت إسبانيا اتفاقية “توردسيلاس” مع البرتغال في عام 1494، بهدف تقسيم أراضي العالم الجديد (الأمريكتين) بين البلدين، وأعقبتها في عام 1529، اتفاقية جديدة تقسم المحيط الهادئ بينهما، لتحديد حقوق التجارة والاستعمار في آسيا والفلبين وجزر التوابل.
– لم تعترف القوى الأوروبية الأخرى بهذه الاتفاقيات، لكن الأهم أنها تجاهلت تمامًا ملايين السكان الأصليين، وكان الغزو الناتج عنها كارثيًا لحضارات مثل الإنكا والتاينو والأزتك، إلى جانب آلاف المجتمعات الأخرى.
– كان الاستعمار عملًا وحشيًا، ودفعت الشعوب الأصيلة ثمنه، وتشير التقديرات إلى أن احتلال بلجيكا للكونغو في الفترة من عام 1885 إلى عام 1908 أدى إلى مقتل 8 ملايين إنسان.
– في الهند، تشير تقديرات وأبحاث مستقلة، إلى أن أكثر من 100 مليون من السكان الأصليين قتلوا أو ماتوا بسبب المجاعات الناجمة عن سياسات المستعمر البريطاني، مثل تدمير صناعات النسيج القوية لصالح دعم أعمال شركة الهند الشرقية.
كيف شكل الاستعمار مصائر الأمم؟
– يقول العلماء الحائزون على “نوبل”، إن الاستعمار الأوروبي لمساحات شاسعة من العالم أدى إلى تحولات كبيرة في مؤسسات العديد من المناطق والبلدان الخاضعة لسيطرته، بهدف خدمة مواطنيه المهاجرين إلى هذه الدول.
– العلماء الثلاثة؛ “دارون عجم أوغلو” و”سيمون جونسون”، الأستاذان بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، و”جيمس روبنسون”، الأستاذ بجامعة شيكاغو، توصلوا إلى أن الكثير من الدول المحتلة لم تستطع النهوض والازدهار لاحقًا بسبب الخلل الهيكلي الذي قامت عليه مؤسساتها.
– خلق الاستعمار ما أطلق عليه العلماء “انعكاس الثروة” من الناحية الاقتصادية، حيث أصبحت الشعوب الغنية سابقًا فقيرة عندما استعمرها الأوروبيون، في حين انتهى الأمر ببعض الشعوب الفقيرة سابقًا إلى الثراء.
– بالعودة إلى الوقت الحاضر، فإن 50% من سكان العالم يكسبون أقل من عُشر إجمالي الدخل ولا يملكون سوى 2% من إجمالي الثروة الصافية، ويعود هذا إلى التفاوتات بين البلدان، والتي تتعارض بدورها مع نموذج النمو الكلاسيكي الجديد.
– وفقًا لهذا النموذج يُفترض أن تلحق الدول الفقيرة بالغنية بمرور الوقت إذا تشابهت الظروف لكن هذا لم يحدث لوجود اختلافات مثل تلك المرتبطة بالاستثمار، ونمو السكان، ورأس المال البشري، والإنتاجية، علاوة على اختلاف طبيعة المؤسسات التي تعد محركات أساسية للرخاء.
– يرجع ذلك إلى حقيقة أن ثروات الأمم تتشكل أساسًا من قِبَل تسلسل هرمي للمؤسسات، حيث تؤثر المؤسسات السياسية على تلك الاقتصادية، ثم تؤثر المؤسسات الأخيرة على النتائج الاقتصادية.
كيف دمر المستعمر الماضي وأفسد المستقبل؟
– كان الغرض الرئيسي لحملة الاستعمار الأوروبية الشعواء هو إثراء شعوبها، وبالتالي خلق المستعمر حوافز مختلفة لمواطنيه في الأراضي المحتلة، وفي الأماكن الأكثر ثراءً، أسس حكومات مهمتها سرقة الثروات والموارد وإرسالها إلى أوروبا، بالإضافة إلى تحطيم أسس الرخاء المحلي.
– في الأماكن الأكثر فقرًا، عمل المحتل على بناء مجتمعات استيطانية، وحماية المؤسسات المفيدة اقتصاديًا من أجل جعل هذه المجتمعات تعمل بشكل جيد، وفي كل من الأماكن الفقيرة والغنية سابقًا، غيرت هذه المؤسسات الاستعمارية مسار تطور البلدان المحتلة حتى يومنا هذا.
– كان أحد العوامل المهمة التي أثرت على نوع المستعمرة وتطورها هو الكثافة السكانية، فكلما زادت كثافة السكان الأصليين، زادت المقاومة المتوقعة، لكن أيضًا كان عدد السكان الكبير يمثل فرصة مربحة حيث يوفر عمالة رخيصة، وذلك طبعًا بمجرد هزيمتهم.
– أدى هذا إلى انخفاض عدد المستوطنين الأوروبيين الذين انتقلوا إلى المستعمرات المكتظة بالسكان بالفعل، وفي المقابل، كانت الأماكن ذات الكثافة السكانية المنخفضة أقل مقاومة للمستعمرين وذات فرصة أقل لاستغلال العمالة، ولذلك انتقل المزيد من المستوطنين الأوروبيين إلى هذه الأماكن.
– بالنسبة للأماكن التي تدفق إليها عدد قليل من المستعمرين، استولى أو أنشأ الأوروبيون ما يعرف بـ “المؤسسات الاستخراجية” والتي تعمل على إفادة وتركيز السلطة والثروة في يد النخبة المحلية على حساب معظم السكان، ولم تكن هناك انتخابات وكانت الحقوق السياسية محدودة للغاية.
– في المستعمرات التي تضم العديد من المستعمرين، كانت هناك حاجة إلى مؤسسات اقتصادية شاملة تحفز المستوطنين على العمل الجاد والاستثمار في وطنهم الجديد، وأدى هذا إلى السماح ببعض الحقوق السياسية والتي تضمن لهم بدورها حصة من الأرباح.
من الازدهار إلى الانكسار: كيف سرق الاستعمار الأمل؟
– إن الاختلافات المعاصرة في ظروف المعيشة بين مدينة نوجاليس الأمريكية ونوجاليس المكسيكية ترجع بشكل كبير إلى المؤسسات التي أقيمت في المستعمرة الإسبانية التي أصبحت فيما بعد المكسيك، وتلك في المستعمرات التي أصبحت لاحقًا الولايات المتحدة.
– هذا النمط تكرر في جميع أنحاء العالم المستعمر، ولا يعتمد على ما إذا كان المستعمرون بريطانيين أو فرنسيين أو برتغاليين أو إسباناً، ويعني أن أجزاء العالم المستعمر التي كانت أكثر ازدهارًا قبل نحو 500 عام هي الآن تلك التي تعاني من الفقر النسبي.
– يقول العلماء في أبحاثهم: “إذا نظرنا إلى التحضر كمقياس للرخاء، فإن هذا كان أعظم في المكسيك خلال عهد الأزتيك مما كان عليه في نفس الوقت في ذلك الجزء من أمريكا الشمالية الذي يُسمى الآن كندا والولايات المتحدة”.
– السبب هو أن المستعمرين الأوروبيين أدخلوا أو حافظوا على المؤسسات التي عززت الرخاء على المدى الطويل في الأماكن الأكثر فقرًا وأقل كثافة سكانية.
– أما في تلك الأكثر ثراءً وكثافة سكانية، كانت المؤسسات تهتم أكثر بتركيز السلطة والثروة في يد النخبة، وكانت المؤسسات أقل احتمالاً للنجاح في تحقيق الرخاء بالنسبة للسكان المحليين.
– تحديدًا، أنشأ الأوروبيون في الجزء الشمالي من الأمريكتين، مؤسسات تحمي الحريات الفردية وحقوق الملكية، وتفرض سيادة القانون، وتثقف سكانهم، وتشجع الإبداع وريادة الأعمال، وتخدم الاقتصاد بشكل جيد مع الثورة الصناعية.
– لكن في الجزء الجنوبي حيث توجد إمبراطوريتا الإنكا والأزتك، كان عدد السكان الأصليين أكبر من أن يتمكن الأوروبيون من الانتقال إلى هناك وحكم أنفسهم، فأنشأوا تلك المؤسسات الاستخراجية التي عملت على استغلال وقمع السكان الأصليين، ولم تكن مؤهلة للنجاح في ظل اقتصاد صناعي حديث ومبتكر.
– في منتصف القرن الثامن عشر كان الإنتاج الصناعي في الهند أعلى منه في الولايات المتحدة، لكن تغير هذا بشكل أساسي منذ بداية القرن التاسع عشر، مما يشير إلى أن “انعكاس الثروات” كان في المقام الأول نتيجة للاختلافات في المؤسسات.
– عندما درس العلماء التحضر في القرون التي سبقت الاستعمار، لم يجدوا نمطاً مماثلاً لذلك، حيث ظلت الأجزاء الأكثر تحضرًا وثراءً كما هي، وبالإضافة إلى ذلك، عندما نظروا إلى أجزاء العالم التي لم تكن مستعمرة، لم يجدوا دليلًا على ظاهرة “انعكاس الثروات” أيضًا هناك.
– تُظهِر جهود العلماء الثلاثة أن الابتكارات التقنية التي اجتاحت العالم لم تتمكن من ترسيخ أقدامها إلا في الأماكن التي أنشئت فيها مؤسسات من شأنها أن تفيد السكان على نطاق أوسع، أو تلك التي أقامها الأوروبيون لخدمة المستوطنين.
– رغم أن قصة “طغيان الملك واشنطن” تبدو كخيال سياسي يعكس روح التحرر من الاستبداد، فإن الواقع ليس مشرقًا تمامًا، حيث إن واشنطن لم يكن من السكان الأصليين لأمريكا الشمالية، وكان والده “أوغسطين”، مستعمراً إنجليزياً من الجيل الثالث.
– هذا يعني أن “واشنطن” كان في الحقيقة أحد المستفيدين من الاستيطان الأوروبي الذي قام على حساب السكان الأصليين والمؤسسات التي أقاموها، وهذا في حد ذاته يجسد الطغيان كنتيجة ولكن بشكل مختلف عن السيناريو الدرامي لـ “يوبيسوفت”، حيث كانت الحرية المحققة في نهاية حرب الاستقلال قائمة أساسًا على أنقاض حضارات وثقافات أخرى.
– لذا، بينما يحتفل العالم بذكرياته الوطنية، يبقى من المهم أن نتذكر كيف أن بعض النضالات من أجل الحرية قد تُمثل في ذات الوقت تجسيدًا لطغيان مستمر، ينخر في المجتمعات حتى اليوم.
المصادر: أرقام- موقع لجنة نوبل- ڤوكس- موقع اليونيسكو- ناشونال جيوغرافيك- ذا ماب أز هيستوري- شبكة إن بي آر- موقع جمعية ماونت فيرنون- بي بي سي- تايمز أوف إنديا (هذا المحتوى ساهم في تنسيقه الذكاء الاصطناعي)