هل تنجح التدابير الصينية الجديدة في إنعاش القطاع العقاري؟
ظل القطاع العقاري على مدار عقود من الزمن أحد المحركات الرئيسية للاقتصاد الصيني، وكان له مساهمة كبيرة في الطفرة الاقتصادية التي شهدتها الدولة المكتظة بالسكان، وتحسن مستوى معيشتهم.
لكن السوق الرائدة واجهت ظروفاً غير مواتية أدت إلى تعثرها على مدار ما يقارب 4 سنوات حتى الآن، وحاولت بكين مرات عدة إعادة إنعاشها عبر اتخاذ تدابير جديدة سواء على مستوى القطاع، أو السياسات الاقتصادية الكلية بشقيها المالي والنقدي.
تباينت آثار هذه التدابير على السوق، لكن الشاهد أن القطاع لا يزال متعثراً حتى الآن، ما اضطر الحكومة إلى إعلان حزمة جديدة من تدابير إنعاشه في الآونة الأخيرة.
إذ أعلن محافظ بنك الشعب الصيني “بان جونج شينج” نهاية سبتمبر الماضي إجراءات لخفض أسعار الفائدة على عمليات إعادة تمويل قروض الرهن العقاري القائمة، وخفض نسب الدفعات المقدمة على هذه القروض.
فضلاً عن خفض سعر الفائدة المرجعي لقروض الرهن العقاري الجديدة، في حين وجه الحزب الشيوعي الحاكم عبر مجلس الدولة، واللجنة المركزية للتخطيط بزيادة الدعم المالي المقدم للحكومات المحلية من أجل شراء مخزون العقارات غير المبيعة لدى المطورين.
هذا بالإضافة إلى توسعة نطاق ما يُعرف بـ “القائمة البيضاء” للمشروعات السكنية غير المكتملة التي بحاجة للتمويل من أجل استكمال الإنشاءات أو التشطيبات.
أثارت هذه التدابير وغيرها عدة تساؤلات حول ما إذا كانت تستطيع إنهاء أزمة القطاع العقاري الصيني، أو على الأقل وقف نزيفه المستمر، لكن قبل الحكم على مدى فاعلية هذه التدابير وتوقعات نجاحها أو فشلها، يجب أولاً فهم طبيعة السوق، والأسباب المؤدية للأزمة الحالية.
تاريخ السوق العقارية الصينية ودورها في تنمية الاقتصاد
اعتمدت مسيرة التنمية الصينية في العصر الحديث على تحقيق نمو سريع في الناتج المحلي الإجمالي من خلال التركيز على قطاعات تقليدية مثل التجارة الخارجية، والصناعة، والاستثمار العقاري.
كان النمو السكاني للصين المحرك الأساسي للقطاع العقاري، فمن ناحية، ساعد نمو الكتلة السكانية، وخاصة الطبقة المتوسطة تزامناً مع تحسن مستويات المعيشة؛ على زيادة الطلب على المنازل بصفة مستمرة.
ومن ناحية أخرى كان القطاع العقاري متداخلاً مع السوق المالية، إذ يتمتع الصينيون بثقافة الادخار في العقارات باعتبارها مخزنًا للقيمة، في حين اعتمدت الحكومات المحلية في إدارة شؤونها على الإيرادات المُحصلة من بيع الأراضي.
ورد في تقرير أعدته وحدة البحوث في مصرف “كايشا بنك – CaixaBank” الإسباني مطلع عام 2022، أن نشاط البناء في الصين كان يُعادل 7% من الناتج المحلي الإجمالي في 2015، ولا يعد هذا أعلى كثيراً مقارنة بدول أخرى مثل أمريكا واليابان وألمانيا وفرنسا وبريطانيا.
وعند أخذ أنشطة القطاع العقاري في الاعتبار، يصبح الوزن الكلي للقطاعين في الناتج المحلي الإجمالي 13%، مقارنة بـ 17% في كل من إسبانيا وأمريكا واليابان، و18% في ألمانيا، و20% في المملكة المتحدة.
يرجع هذا الانخفاض النسبي لمساهمة القطاع العقاري في الاقتصاد الصيني إلى أن السوق كانت لا تزال في مرحلة التطور، والدليل على ذلك هو المساهمة الأكبر لأنشطة البناء.
وحسب تقديرات الجمعية الوطنية الأمريكية لبناة المنازل، يتراوح متوسط مساهمة قطاع الإسكان في الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة بين 15% و18%، في حين وصلت النسبة في الصين في بعض الأعوام الأخيرة إلى 25% و29% وفق مجلة “ذا دبلومات”.
أسباب الأزمة الراهنة للقطاع
أصبحت تركيبة السكان سبباً في الأزمة الراهنة بالسوق العقارية الصينية بعدما كانت داعمة للسوق في السابق، إذ تغيرت تركيبة النمو السكاني للبلاد في الآونة الأخيرة بعد عقود من تطبيق ما يُعرف بـ “سياسة الطفل الواحد”.
ومع تطور مستويات معيشة المواطنين نتيجة الطفرة الاقتصادية، تأثرت ثقافة الإنجاب في المجتمع الصيني سلباً، ما ترتب عليه تباطؤ النمو السكاني، وبالتالي تقلص الطلب على الإسكان.
جاءت أزمة وباء “كوفيد-19” مطلع عام 2020 لتعصف بالاقتصاد العالمي، بما في ذلك الصين التي فرضت قيوداً صحية مُشددة، وحظرت حركة السفر، والأنشطة الاقتصادية، والتجوال.
أدت تبعات أزمة الوباء إلى الحد من إنفاق المستهلكين الصينيين، وتراجع الطلب على شراء المنازل، ما أدى إلى تعثر شركات التطوير العقاري على غرار “إيفرجراند”، و”كانتري جاردن”، وتخلفها عن سداد ديونها، بل وعجزها عن إعادة هيكلة الديون الخارجية -المقومة بالدولار- ومن ثم باتت تواجه دعاوى قضائية للتصفية.
كما تسبب تراجع الطلب في انخفاض أسعار العقارات، وبالتالي تآكل مدخرات المواطنين التي استثمروها في القطاع.
هل تنجح تدابير الدعم الجديدة في إنعاش القطاع؟
خفّض صندوق النقد الدولي توقعاته للنمو الاقتصادي للصين عام 2024 بمقدار 0.2% إلى 4.8%، وحذّر في تقرير صدر اليوم من تفاقم أزمة القطاع العقاري، قائلاً إن تقديراته تأخذ في الاعتبار تدابير الدعم الجديدة التي كشفت عنها الحكومة مؤخراً.
من أبرز الإجراءات التي أعلنها المركزي الصيني مؤخراً لإنعاش القطاع العقاري، كان إطلاق برنامج إعادة تمويل بقيمة 300 مليار يوان (41.5 مليار دولار) في مايو الماضي، بهدف توفير قروض وسيولة للحكومات المحلية كي تستطيع شراء فائض المعروض من المنازل غير المبيعة.
وقالت حينها “تاو لينج” نائبة محافظ المركزي الصيني إن القيمة الأولية لبرنامج إعادة التمويل قادرة على توليد ما قيمته 500 مليار يوان (69 مليار دولار) من القروض المصرفية الموجهة لدعم عمليات الشراء.
ومن جانبه، علّق “تينج لو” كبير الاقتصاديين الصينيين لدى “نومورا”على هذا الإجراء قائلاً: حجم التمويل المطلوب لإكمال أعمال بناء المنازل المبيعة مسبقاً يبلغ 3.2 تريليون يوان (442 مليار دولار) على الأقل، وإن تقديراته تشير إلى أن عدد المنازل المبيعة غير المكتملة يناهز 20 مليوناً في الوقت الراهن.
وكشفت وزارة الإسكان الأسبوع الماضي عن خطة جديدة لزيادة التمويل الحكومي لمشروعات “القائمة البيضاء”، وإتاحة 4 تريليونات يوان (550 مليار دولار) من القروض بحلول نهاية العام الجاري
كان رد فعل متعاملي السوق على هذا الإجراء ضعيفاً لأن حجم التمويلات كان دون المتوقع، وقال بعض المحللين إن هذا الإجراء يشبه تدابير سابقة اتخذتها بكين كما حدث عام 2015.
أوضحت “زيرلينا زينج” رئيسة قسم استراتيجيات الائتمان في آسيا لدى “كريدت سايتس”، أن توسعة نطاق تمويلات مشروعات “القائمة البيضاء” يبدو أمراً إيجابياً، لكنه لن يساهم في إنعاش معنويات مُشتري المنازل بدرجة كبيرة.
وقالت “إيريكا تاي” المحللة الاقتصادية لدى مجموعة “ماي بنك” للاستثمار المصرفي، إن الإجراءات الأخيرة تحظى بفرصة للنجاح في دعم جانب العرض وشركات التطوير العقاري إذا طُبقت على نحو صحيح، لكن التحكم في جانب الطلب يعد أكثر صعوبة.
أشار ” ليشينج وانج” الخبير الاقتصادي في مصرف “جولدمان ساكس” في مذكرة، إلى أن تدابير الدعم المالي للتخلص من فائض المعروض من المنازل ليست واضحة، ولا يوجد تفاصيل كافية حول إجراءات التمويل وتنفيذ الخطة.
المصادر: نيويورك تايمز – فاينانشيال تايمز – كايشا بنك – مورننج ستار – ذا دبلومات – سي إن إن