منوعات اقتصادية

هل تغير شيء في علاقة البورصة بالاقتصاد؟

قبل أكثر من 400 عام ظهرت لأول مرة فكرة إقامة سوق للأسهم، وكانت في مدينة “أمستردام” الهولندية، وعرفت لاحقًا باسم سوق “التيوليب”، حيث ظهرت حينها الفكرة في تجزئة رأسمال الشركات إلى حصص صغيرة يمكن تداولها بسهولة بين الناس دون الحاجة لإجراءات معقدة مثل الشراكة التقليدية، وبدون الحاجة لإجراءات قانونية كثيرة.

ويٌمكن القول إن الغرض الرئيس من هذا السوق كان الوصول إلى 3 أهداف:

تمويل المشاريع الكبرى: كانت المشاريع الضخمة مثل بناء السفن أو استكشاف الأراضي الجديدة تتطلب مبالغ طائلة تتجاوز قدرة فرد واحد أو حتى مجموعة صغيرة، لذا كان الحل تجميع الأموال من مجموعة من المستثمرين.

توزيع المخاطر: بتقسيم ملكية المشروع على العديد من الأشخاص، يتم توزيع المخاطر المرتبطة به حال الخسارة.

زيادة السيولة: قبل ظهور سوق الأسهم كان تداول الحصص في الشركات أمرا شديد التعقيد، فضلًا عن احتياجه لإجراءات كثيرة ورأس مال كبير، ومع إقرار سوق الأسهم انتهت تلك العقبات.

تطور ولكن

وتطورت سوق الأسهم لاحقًا لتشمل أهدافًا مثل الشفافية والحوكمة، حيث إن الشركات المدرجة تكون ملزمة بقدر أكبر من الإفصاح عن بياناتها وأوضاعها عن تلك العاملة خارج السوق.

ولكن عمليًا بدأت المزايا التي تم حصدها من سوق الأسهم تتراجع، حيث كشفت الدراسات أن أكثر من 40% من الشركات المدرجة في السوق تتلاعب في بياناتها المالية، وأن نسبًا أخرى تنشئ مستندات مزورة، وتعدل في مستندات قائمة، وتتستر على جرائم محاسبية، بل وتقوم بعضها بالتلاعب في حسابات النفقات والاستثمارات، ليتم تحويل بعض النفقات إلى استثمارات بحيث يرتفع رأس المال وتنخفض النفقات وبالتالي ترتفع الأرباح- على الورق فحسب.

والأزمة هنا أن ثلاثة أرباع عمليات التلاعب في بيانات الشركات المدرجة في سوق الأسهم تمر بلا أي رصد أو عقاب، بل وصل الأمر إلى حد اعتبار ممارسات مثل تخفيض النفقات ورفع رأس المال بمثابة “خطأ محاسبي” وليس تجاوزا أو جريمة، بما يجعلها ممارسة شائعة ومنتشرة، بما يؤدي إلى انكشاف أزمات بعض الشركات بشكل مفاجئ وبالتالي انخفاض قيمتها السوقية وخسارة البعض لرؤوس أموالهم بشكل غير عادل.

وعلى الرغم من كل هذا فلا بد من الاعتراف بأن درجة الشفافية والمحاسبة في الشركات المدرجة بالبورصات أعلى منها في تلك القائمة خارجها، ولكن الواقع يشير إلى أن هذا الأمر يتراجع تدريجيًا وبوضوح لأسباب عديدة أبرزها شيوع ممارسات التلاعب المحاسبي ومحاولات مجالس إدارات الشركات باستمرار تحسين نتائج أعمالها أمام الجمعيات العمومية.

نماذج غير مرغوبة

ولا يقتصر الأمر على وجود عمليات التلاعب فحسب، فسوق الأسهم أبرزت نماذج لم تكن منتظرة في أول الأمر، ومن ضمنها “مايكل باري” الذي ربح لنفسه ولمستثمريه أكثر من 700 مليون دولار بسبب خيارات البيع على المكشوف للأسهم وتوقعه للأزمة المالية العالمية، واستمر في خياراته عالية المخاطرة والتي بدأها إبان فقاعة دوت كوم واستمر عليها ليتحول لأيقونة من أيقونات الاستثمار في البورصة الأمريكية.

وعلى الرغم من النجاح المادي الذي حققه “باري” فإن أسلوبه هذا يعتمد بالأساس على نقل الثروات من آخرين إليه، وليس على الاستثمار طويل المدى، فالـ700 مليون دولار التي ربحها من رهاناته على وقوع الأزمة المالية العالمية خسرها غيره، -وأكثر بالطبع- وعلى الرغم مما ينطوي عليه هذا من مهارة في الدراسة والتحليل من جانب “باري” فإنه يشبه “الرهان” بين طرفين، وهو ما لم يكن بالحسبان لدى إنشاء سوق الأسهم.

تحولت السوق من مكان لجمع رؤوس الأموال لإقامة المشروعات الكبيرة إلى ما يمكن أن يحتسب بمثابة “فضاء عام” لنقل الثروات من هؤلاء قليلي الخبرة إلى أصحاب الخبرات الكبيرة، ومن أولئك قليلي الثروات والذين لا يحصلون على نفس القدر من المعلومات التي يحصل عليها غيرهم في السوق إلى أصحاب الثروات الكبيرة والمعلومات الحصرية.

والشاهد أنه مثلما أفرزت السوق بعد “تغيرها” نماذج تبدو ناجحة بالمخاطرة مثل “باري” قدمت نماذج مثل المستثمر الكوري “بيل هوانج” الذي خسر 20 مليار دولار في يومين فقط في مارس 2021 لرهانه على هبوط أسهم، ثم ارتفعت الأخيرة على أرض الواقع، بما يشير إلى خطورة خيارات البيع والشراء على المكشوف وغيرها من الرهانات التي تزيد من “الأموال الموضوعة على المحك”.

واللافت أن “هوانج” يبدو متكيفًا مع الخسارة في أسواق المال، ففي 2013 خسر “هوانج” أكثر من 400 مليون دولار في رهان على انخفاض أسهم أيضا، وذلك بعد أن كان موضوعًا باستمرار على لائحة البنوك الأمريكية  السوداء منذ 2008، وهو العام الذي شهد خسارته لكامل ثروته أيضًا بسبب رهانه على انخفاض أسهم “فولكس فاجن” التي ارتفعت لتكبده خسائر ضخمة مع تبنيه لمنهج البيع على المكشوف.

والشاهد أن طمع “هوانج” زاد بعد أن تمكن من تنمية ثروة تقدر بـ200 مليون دولار في نهاية 2015 إلى 30 مليار دولار تقريبًا في بداية عام 2021، بأسلوب البيع على المكشوف، بما يجعله يقامر بأمواله كلها على سهمين فقط، وتأثر هذان السهمان بتداعي شركة “أرجيوس كابيتال” واضطرار بنكي “مورغان ستانلي” و”دويتشه بنك” لبيع أسهم، أي أن “هوانج” راهن على أشياء خارج إطار قدرته على التحليل أو التوقع حتى.

ضرر بالاقتصاد

وحتى مع عدم وجود خيار البيع على المكشوف، ومن ذلك الأسواق العربية، فإن نسبة تقدر بـ40-50% وفق الدراسات المختلفة تدخل إلى سوق الأسهم بعقلية لا تسعى للتنمية والاستقرار ولكن إلى الشراء والبيع السريع للحصول على المكاسب الكبيرة، بما يتسبب في انتشار المضاربات بين هؤلاء بما يتبعه من احتمالات كبيرة لخسارة أموالهم والتسبب في حالة من عدم الاستقرار للسوق.

وعلى الرغم من أن مثل هذه الممارسات، المتعلقة بالمضاربات عالية المخاطرة، تشكل حقًا لأصحابها ولكن هذا لا ينفي أضرارها على الاقتصاد بشكل عام، حيث إن انهيارات مثل “دوت كوم” والأزمة المالية العالمية -التي بدأت بسبب العقار لكنها تفاقمت بسبب تأثير سوق الأسهم- لا تقتصر آثارها على سوق الأسهم فحسب بل تمتد لتؤثر سلبًا على معدلات النمو والتوظيف وتنعكس سلبًا على اقتصادات دول أخرى.

وتشير دراسة عن تأثير تركيز رأس المال في مختلف دول العالم في سوق الأسهم، إلى أن الميزة الرئيسية لهذا الأمر هو كفاءة تخصيص الموارد والاستفادة برؤوس الأموال الصغيرة، ولكن هذا الأمر في المقابل ساهم في ظهور كيانات عملاقة، مثل شركات التكنولوجيا الأمريكية، تحول دون ظهور كيانات أخرى صغيرة، أي أن الأمر يضر بالمنافسة على المدى الطويل.

ولإيضاح ذلك يكفي الإشارة إلى أن شركة مثل “ألفابت” تقوم بضم شركة صغيرة بمعدل مرة كل أسبوعين إلى 3 أسابيع، وتخصص لذلك مليارات، وذلك للحفاظ على وضعها الاحتكاري في مجال البحث ولتطوير أنشطتها الأخرى، وتنفق في سبيل ذلك مليارات الدولارات سنويًا، والأمر نفسه ينطبق بدرجة أقل على العديد من الشركات العملاقة، التي تضم شركات قائمة لتصبح الأخيرة قسمًا داخلها أو تقوم بحلها نهائيًا.

كما أثرت سوق الأسهم تأثيراً عكسياً في موضوع توزيع الثروة، فبدلًا من العمل على  نشرها على نطاق أوسع، أدت لتركيزها بصورة أكبر، ويكفي النظر لقائمة أغنى أغنياء العالم للتأكد من امتلاكهم لحصص كبيرة في شركات عملاقة في سوق الأسهم، بينما تشير الدراسات الأمريكية إلى أن أغنى 10% من الأمريكيين يمتلكون 89% من الأسهم الأمريكية، وأن أغنى 1% يمتلكون نصف الأسهم ويتوزع الباقي على بقية الأمريكيين.

وكشفت دراسة عن تأثير تركيز رأس المال أجريت في 47 دولة في الفترة بين عامي 1989 إلى 2016 عن أن زيادة تركيز رأس المال في عام ما يضر بالاقتصاد وبالنمو في الدولة لمدة 5-10 سنوات بنسبة تتراوح بين 0.3% إلى 1% وفقًا لدرجة تركيز رأس المال ولتأثير ذلك على حالة المنافسة والتوظيف في البلاد، فضلًا عن تأثيرها السلبي على حرية الابتكار.

وباستعراض ما سبق فإنه لا شك أن الأسباب التي قامت من أجلها سوق الأسهم لا تزال هامة وحيوية للاقتصاد، ويبدو وجودها وتطورها أيضا مطلوبًا، ولكن مع ضرورة تلافي الآثار السلبية المرتبطة بها من تأثير سلبي على المنافسة واحتكارات وإخلال بتوزيع الثروة، فضلا عن العودة الكاملة لقواعد الشفافية والحوكمة التي تطورت سوق الأسهم لتراعيها، بما يضمن تحقيق الاقتصاد للمنفعة القصوى من رؤوس الأموال.

المصادر: أرقام- دراسة “Why is stock market concentration bad for the economy?”- إيكونوميست- فوربس- تشارلز شواب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى