هل سوق الأسهم للأثرياء فقط؟
تعد سوق الأسهم من أهم الفضاءات التي تمكن المستثمرين من تنمية رؤوس أموالهم، نظرًا لأنها لا تتطلب منهم العمل بشكل مباشر، ولكن التحليل والرصد والمتابعة، بما يجعلها تقع تحت بند ما يُعرف بالدخل السلبي، أي الذي يحققه صاحبه دون عمل يومي مستمر أو حتى عمل عن بعد -ولا ينفي هذا الجهد في الرصد والتتبع والفهم- أي أنها أموال تنمو دون تدخل، أو كما يقال: “أموال تعمل لدى صاحبها وتنمو بينما هو مستيقظ أو نائم”.
وكشفت أحدث إحصائية لتوزيع الملكية في سوق الأسهم الأمريكية عن تركيز استثنائي هو الأعلى للتاريخ للأسهم في يد الأثرياء، حيث حاز أغنى 1% من الأمريكيين على 93% من الأسهم بنهاية عام 2023، بينما لا تتعدى حيازة أفقر 50% من الأمريكيين 1% من الأسهم، وهو ما يعكس ميلًا واضحًا لتركيز الملكية، حيث كانت حيازة أغنى 1% أقل من 70% في بداية الألفية الثالثة، مع ملاحظة أن 58% من البيوت الأمريكية تحوي مالكًا واحدًا للأسهم أي أن قاعدة ملكية الأسهم واسعة للغاية ولكنها مركزة في يد البعض.
تركيز للأسهم
ويرجع السبب وراء تركيز الملكية في يد الأثرياء على حساب تراجعها في يد الفئات الأفقر وذلك في ظل ما تحققه الفئة الأولى من نجاحات في مقابل ما تعانيه الفئة الثانية من إخفاقات بما يشجع الأولى على اقتناء الأسهم، ويبعد الفئة الثانية منها، حتى أن تقديرات تشير إلى أكثر من 50% من الأمريكيين الفقراء الذين يقتنون الأسهم يحتفظون بها لأسباب “عاطفية” سواء لحبهم للشركة التي يحوزون الأسهم بها، أو لأنهم يرغبون نفسيًا في الاحتفاظ ولو بسهم واحد في شركة كبرى.
وكشفت الإحصائيات أن المستثمرين الأغنياء أو المؤسسات الاستثمارية عادة ما تحقق أرباحًا تفوق أكثر من 10 أضعاف المستثمرين الأفقر، حيث وضعت دراسة أمريكية دخل 250 ألف دولار سنويًا بمثابة الفاصل بين الفئات الأغنى وتلك الأفقر، بحيث تعتبر الأسرة التي تحصل على أكثر من هذا الحد غنية والأقل منها فقيرة، ووجدت أن الأسر الغنية تحقق أرباحًا تفوق 12% بينما لا يحصد الفئات الأفقر أكثر من 1.1% كأرباح ويتكبد الغالبية الخسائر.
معلومات أكثر واستخدام أفضل لها
لعل السبب الرئيسي الذي يزيد من قدرة الأثرياء على حصد المزيد من الأموال، سواء خارج سوق الأسهم أو فيه، هو شبكة العلاقات التي يتمتعون بها، بما يمنحهم القدرة على الحصول على المعلومات بشكل شرعي، عبر لقاءات واتصالات معلنة مع قيادات الشركات، أو عبر وسائل أخرى مثل الجلسات التي تجمعهم في الحفلات مع المدراء ومسؤولي الكيانات الاستثمارية المختلفة أو حتى عبر تسريبات لهم خصيصًا.
ويصعب حصر تلك التسريبات أو المعلومات الخاصة نظرًا لطبيعتها التي تتطلب الكتمان، ولكن هناك عامل آخر يتعلق حتى بالمعلومات المتاحة ولكن بمقابل، ويرتبط باستخدام التقارير المالية والتحليلات التي تجريها المؤسسات المالية وشركات إدارة الاستثمارات، حيث يحصل المستثمرون الأغنى بنسبة 100% على تلك التقارير، المكلفة، نظرًا لأن نسبة التكلفة عليهم أقل كثيرًا من المستثمرين الأفقر الذين عادة ما يعتمدون على تقارير الصحف أو المواقع غير المتخصصة المجانية بغض النظر عن دقتها.
التراكم في مواجهة تجنب المخاطرة
والشاهد أن من أسباب نأي الفقراء وتركيز الأغنياء على الأسهم، هو عدم قدرة الفئة الأولى على تحمل المخاطرة مقارنة بالفئة الثانية، فعلى سبيل المثال يستحوذ أفقر 50% من الأمريكيين على ثروة عقارية تقدر بـ4.8 تريليون دولار بينما لا يتعدى مجموع ملكياتهم في سوق الأسهم 0.3 تريليون دولار بما يعكس إقبالا كبيرًا على العقارات التي تعد في نظرهم أكثر أمنًا من الأسهم -فضلًا عن الاستفادة منها بشكل مباشر كمحل سكن.
وهنا يلخص المستثمر الأمريكي الشهير “جون بوغل” نجاحه في السوق بما يعرفه بالتراكم، فهو على سبيل المثال يحقق نموا سنويا لثروته في سوق الأسهم يقدر بـ10% وأحيانا يزيد، وهو ما يجعل ثروته تتضاعف خلال أعوام قليلة فضلًا عن تأثير هذا الأمر التراكمي على مدى عقود، ولا تنمو الثروة العقارية بنسب مقاربة بطبيعة الحال، أي أن “المغامرة” النسبية في سوق السهم تؤتي أوكلها بالنسبة له على حساب اقتناء أصل شديد البطء في التغير في الأسعار مثل العقارات.
الوقت
وهنا يلاحظ “الرفاهية” التي يملكها الأغنياء بـ”الانتظار” أو ما يعرف بـ”رفاهية الوقت”، حيث إن بوسعه أن يضع 10-20% من رأسماله في استثمار طويل المدى، لا ينتظر منه عائدًا أو لن يقربه قبل بضع سنوات أو حتى قبل عقد أو أكثر من الزمن، بينما المستثمر الأفقر يبحث بصورة مستمرة عن استثمار ذي عائد سريع، نظرًا لأنه غالبًا ما يخصص جزءا أكبر من رأس ماله -المحدود- لكل استثمار يقوم به، ولأنه قد يكون مضطرًا لاستخدام العائدات من الاستثمار بشكل مستمر ولا يملك رفاهية “التراكم”.
الاحتراق وإهدار الوقت والجهد
ويعتبر المؤلف الشهير في المجال المالي “روبرت كيوساكي” مؤلف كتاب “الأب غني.. الأب فقير” أن هناك أمراً متعلقا باختلاف العقلية يجعل الأغنياء أكثر قدرة على الاستفادة من سوق الأسهم، حيث إن الفئات الأفقر كثيرًا ما تقع في فخ محاولة توقيت السوق، وهو ما يدفعهم نحو المضاربة التي يخفق 98-99% من ممارسيها في تحقيق الربح على حساب الاستثمار لفترات تضمن نمو رأس المال.
ويشير “كيوساكي” إلى أن 72% من الأمريكيين الأفقر الذين يستثمرون أوقاتهم وأموالهم يقعون في فخ “الاحتراق” أي ببذل جهد ووقت طويل أكثر مما ينبغي في متابعة استثماراتهم، بما يجعلهم يصابون بالإرهاق، ويندفع الكثير منهم نحو “حدسه الأول” نتيجة للإجهاد، أو نتيجة لغياب التخطيط المُسبق قبل الدخول في السوق، بما يجعله يخطئ مستويات البيع أو الشراء الصحيحة وبالتالي يتكبد الخسائر أو في أفضل الأحوال يحقق أرباحًا أقل ممن يلتزمون خطة واضحة بهدوء أعصاب.
سوق لـ”الأثرياء فقط”؟
واتفقت دراسة أمريكية أجريت في ثمانينيات القرن الماضي على أن نمو سوق الأسهم الكبير في هذا الوقت أدى لتراجع مؤشر المساواة في الأجور والثروة بنسبة 2%، نظرًا لأن الأغنياء كانوا أكثر استفادة من الانتعاش في السوق بينما كان الفقراء إما يتخلفون خارج السوق المنتعش أو يحاولون اللحاق به ويفشلون في ذلك لقلة رؤوس الأموال والمعارف على حد سواء.
هل يعني ما سبق أن سوق الأسهم ليس بها مكان إلا للأثرياء؟ يقول “كيوساكي”: إن بوسع الفئات الأفقر النجاح في السوق، ولكن شريطة “أن يتصرفوا كالأغنياء”، بمعنى أن يحاولوا الاشتراك في خدمات مدفوعة منتقاة ومحدودة لتحليل الأسهم ومستقبل الصناعات، وأن يستثمروا في أنفسهم بالدراسة والقراءة، والأهم أن يدركوا أن الاستثمار في الأسهم مرتبط بالوقت والصبر والانتظار.
ويقول “كيوساكي” إن “الأب الغني” لا يكتفي بقضاء الأوقات في العمل، لكنه يقوم بالاستثمار في التعليم والتثقيف المالي، فهذا كفيل بأن يمنحه الأرباح، مثلما تقوم الأسهم بالضبط بحصد الأرباح وتوزيعها على المساهمين.
المصادر: أرقام- كتاب “rich dad poor dad“- فوربس- سي إن إن- برايس ووتر هاوس كوبرز- ياهو فاينانس