اقتصاد دولي

كيف يتلاعب البعض بسوق الأسهم دون المساس بالقوائم المالية؟

«كثيرون تضرروا بشدة، وخسر بعضهم مئات آلاف الدولارات والبعض الملايين، ولذلك فإن الأمر لا ينبغي أن يقتصر على التعويض المادي ولكن يجب أن تكون عقوبة جنائية أيضًا».. هكذا قال قاض أمريكي حكم على «تريفور ميلتون» مؤسس شركة «نيكولا» للشاحنات الكهربائية بالسجن 4 أعوام في عام 2023 بتهمة التلاعب بالأسواق والتربح من هذا الأمر. وبجانب الحكم بسجنه 4 سنوات للأضرار التي أحدثها، أمر القاضي «ميلتون» بدفع 680 مليون دولار كتعويض لمساهمي الشركة.
ادعاءات كاذبة
«ميلتون» اعتاد التلاعب في الأخبار المتعلقة بشركته، حيث نشر فيديو يظهر قدرتها على القيادة الذاتية في عام 2020، فيما اتضح لاحقا أنه فيديو مزيف وأن الشاحنة كانت فقط تهبط منحدرًا، بما تسبب في انخفاض أسهم الشركة بنسبة 40% خلال أقل من أسبوعين بسبب مخاوف المستثمرين من مصداقية البيانات التي تعلنها الشركة بشكل عام والخشية من إخفاء الشركة للمزيد من الحقائق المتعلقة بإنتاجها.
ولكن المشكلة الحقيقية كانت في الفكرة التي قامت عليها إنجازات الشركة بشكل عام، أو تأكيدها في عام 2016 أنها أول شركة شاحنات في العالم تصدر منتجاتها «صفر انبعاثات» كربونية»، بما جعلها تحصل على تمويل كبير من العديد من الممولين المهتمين بالاستثمار الأخضر، فضلًا عن توقعات السوق بإقبال المستهلكين على شراء شاحناتها في ظل تمتعها بميزة نسبية على منافستها الرئيسية «تسلا». وارتفعت أسهم الشركة من مارس 2020 حتى يونيو 2020 أي خلال 3 أشهر فحسب بنسبة تقترب من 600% بسبب الإعلان الزائف عن السيارات ذاتية القيادة مع إعادة التأكيد على انبعاثات صفرية، لكن بعد كشف زيف الادعاءات وصلت قيمة السهم إلى أقل من دولار في عام 2025 بعد أن بلغت قرابة ألفي دولار في منتصف 2020، في دليل واضح على مدى انحدار قيمة الشركة. وبغض النظر عن إصدار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قرارًا بالعفو عن «ميتلون» يوم 27 مارس 2025، إلا أن ممارسات مؤسس «نيكولا» شكلت أحد أبرز الأمثلة على كيفية التلاعب بالأسواق وبأسعار الأسهم، وذلك دون القيام بأية عمليات تزوير في الدفاتر المحاسبية أو القوائم المالية كما يحدث في حالات كثيرة، ولكن باستخدام أساليب أخرى من أهمها نشر معلومات خاطئة.
ومن بين أبرز الأمثلة على هذا التلاعب ما حدث مع شركة «بري-إكس» الكندية للتعدين، وهي شركة تم تأسيسها عام 1988 وتلاعبت في بيانات حول الاكتشافات المحتملة والمؤكدة لها، ورفعتها من مليوني أوقية إلى 70 مليون أوقية مما أدى لرفع قيمة الشركة إلى قرابة 6 مليارات دولار في غضون 5 سنوات من التأسيس فحسب.
ولكن انكشاف هذا التلاعب بسبب تحقيقات تلت مقتل أحد موظفي الشركة في حادث تحطم طائرة أدى لهبوط حاد في قيمة الشركة، وصل إلى حد إعلان إفلاسها بعدها بعام، وعلى الرغم من مواجهة مسؤولي الشركة لاتهامات قانونية فإن المحققين لم يتمكنوا من إدانة أي منهم.
تلاعب «جمعي»
يمكن اعتبار «نيكولا» و»بري- إكس» حالتي تلاعب داخلي، أما حالة «جيم ستوب» فتعد مثالًا صارخًا على التلاعب الجماعي بالسوق، حيث قفز سعر سهم الشركة 1700% خلال شهر واحد في بداية عام 2021 بسبب ضخامة المضاربة التي أشعل نيرانها أعضاء منتدى «ريديت»، وما يميز هذه الحالة هو أن التلاعب كان علنيًا وصريحًا، على عكس معظم حالات التلاعب الأخرى التي تتم بشكل خفي وبمستويات أقل وضوحًا.
وفي هذا الإطار فإن من أهم حوادث التلاعب الجمعي بالسوق حدثت في الصين في عام 2020، وبالتحديد باستخدام تطبيق الدردشة والتواصل الأكثر شيوعًا في الصين «وي تشات» -يشبه تطبيق «واتس آب» ولكن الأخير محظور رسميًا في الصين- حيث أنشأ مجموعة من المتداولين مئات الحسابات بحيث يقوم كل حساب بالترويج للحسابات الأخرى بوصفه حسابا ذا مصداقية في الحصول على معلومات متعلقة بسوق الأسهم.
ولاحقًا وبعد الحصول على مصداقية وإقامة «شبكة» من الحسابات التي يتم إدارتها بشكل متناسق، بدأت تلك الحسابات في دعم بعض الأسهم عن طريق نشر أخبار كاذبة حول خطط توسع أو أرباح محتملة أو غير ذلك، مما أدى إلى صعود أسعار بعض الأسهم بنسب وصلت إلى 300% خلال يوم واحد فحسب، وترافق ذلك مع عمليات شراء سابقة ثم بيع سريع بشكل أثار انتباه السلطات الرقابية الصينية. وبعد إجراء تحقيقيات في هذا الأمر تم اكتشاف وجود شبكة تنسيق كبيرة تعمل على تضخيم قيمة بعض الأسهم تمهيدًا لبيعها، وقامت بإغلاق أكثر من مائتي حساب على «وي تشات» ووضعت مئات الحسابات الأخرى تحت المراقبة، كما فرضت السلطات غرامات بملايين اليوانات على المتلاعبين، وأطلقت تحذيرات على التطبيق من استخدامه في التلاعب بسوق الأسهم. وحدثت واقعة شبيهة في عام 2022 من خلال إطلاق شائعة على «تيك توك» و»تويتر» بأن «بيل جيتس» في سبيله لبيع كافة أسهمه في «مايكروسوف» بسبب مرض يعاني منه، مما تسبب في انخفاض سعر السهم 3% قبل أن ينفي «جيتس» الخبر، ولم يتم التوصل إلى الجهة المسؤولة عن ترويج تلك الشائعة غير أن متعاملين استفادوا بالشراء بسعر منخفض لا سيما أن السهم استرد قيمته سريعًا بعد نفي الشائعة. وفي تلك الحالات التي يتم التلاعب فيها بشكل «جمعي» تكون هناك صعوبة شديدة في التوصل لمحركي الأحداث، أو من يثيرون الشائعات أول الأمر ثم يدعمونها، في ظل تفشي تلك الشائعات وانتشارها بشكل واسع يجعل رصد مطلقيها أمرا شديد الصعوبة، ولذلك تلجأ السلطات إلى أوامر البيع والشراء بوصفها دليلا على وجود المعلومات المسبقة على الارتفاع والانخفاض، ولكن إثبات هذا الأمر وارتباطه بالشائعات شديد الصعوبة.
تلاعب بين أكثر من مؤسسة
وفي بعض الأحيان يكون التلاعب «عابرا للمؤسسات» ففي كتابه «الكتاب الصغير حول التلاعب في السوق: دليل أساسي»، يشير المؤلف «جروجري دورستن» إلى صعوبة إثبات حالات التلاعب في أسواق الأسهم عالميًا من الناحية القانونية، نظرًا لضرورة توافر أدلة أو شهادات قاطعة، وهو أمر نادر الحدود. ومع ذلك، يؤكد وجود «دلائل مالية» تشير إلى حدوث مثل هذه الممارسات في مناسبات عديدة.
ويستعرض الكتاب، قضية شهيرة اتُهم فيها بنكا «جي بي مورجان تشيز» و»إتش إس بي سي» بالتلاعب بأسعار الفضة عام 2008، حيث قاما بتنفيذ سلسلة من أوامر البيع الآجل مع البيع على المكشوف للمعدن النفيس بشكل ممنهج، مما أدى إلى انهيار قيمته. وفقًا للدعاوى القضائية التب رفعها مستثمرون، انخفض سعر الأوقية من 16 دولارًا في 2007 إلى أقل من 8 دولارات في 2008، مسجلاً خسارة بنسبة 25% خلال ذلك العام، بينما حقق البنكان أرباحًا ضخمة.
وما دعم الشبهات حول التلاعب هو صعوبة تفسير التركيز على الفضة دون غيرها من المعادن النفيسة في عمليات البيع على المكشوف، خاصة أن الذهب — الذي عادةً ما يتحرك في اتجاه مماثل للفضة — أنهى عام 2008 مرتفعًا بسبب المضاربات الناتجة عن الأزمة المالية العالمية، على عكس الانخفاض الحاد الذي شهدته الفضة.
ورغم تقديرات الادعاء بأن البنكين حققا مئات الملايين من الدولارات من هذا التلاعب المزعوم — كما جاء في دعوى قضائية نظرتها المحاكم الأمريكية عام 2010 — إلا أن القضية أُغلقت دون إدانة أي منهما، إذ اقتصرت الأدلة على تحليلات اقتصادية وفنية دون وجود إثباتات قضائية قاطعة.
وفي كثير من الحالات ما يتم التنسيق بين بعض المؤثرين أو حتى بعض الصحافيين لنشر أخبار غير صحيحة حول توسع نشاط إحدى الشركات أو عملية دمج محتملة بين شركتين، بما يؤثر على أسعار الأسهم، لتتمتع بعض الأطراف التي تكون على دراية بالمعلومات الداخلية الحقيقية بميزة كبيرة في مواجهة السوق وبقية المتعاملين.
وخلافًا لحالات التلاعب في الأسواق باستخدام الدفاتر المحاسبية والبيانات المالية، وأبرزها تسجيل بعض النفقات كاستثمارات، بما يرفع من حجم رأس المال نظريا ويزيد الربحية، مثل حالة شركة «وورلدكوم»، فإن التلاعب من خلال المعلومات المضللة والتلاعب الجمعي أو المؤسسي يكون أصعب في الرصد وفي المساءلة بشكل عام، وقد يخدع المتداولين بصورة أشد. والحل الوحيد في مواجهة مثل أشكال التلاعب تلك هي التأكد المستمر من سلامة أساسات الشركة، ومتابعة مدى «منطقية» بعض الإعلانات التي تصدرها واتساقها مع القطاع الذي تعمل به وحجم الشركة وطبيعة المنافسة، فضلًا عن التركيز على الاستثمار طويل المدى الذي يحقق أرباحًا كبيرة -وأكثر استدامة، شريطة إلمام المستثمر بقواعد تحليل السوق والشركات وخبرته في رصد المصادر الموثوقة وتمييزها عن غيرها.

 

المصادر: أرقام- سي.إن.بي.سي- فوربس- ماكينزي- وول ستريت جورنال- نيويورك تايمز- كتاب «The Little Book of Market Manipulation: An Essential Guide to the Law» – «»

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى