اقتصاد دولي

أي تأثير لخفض الدينار الليبي في الاقتصاد التونسي؟

لا يزال اقتصادا تونس وليبيا يعانيان صعوبات وإشكاليات عدة أثرت بصورة لافتة في معيشة المواطنين، وأدخلتهم في دوامة لم يغادروها لأكثر من عقد على رغم التداخل المهم والواضح في اقتصاد البلدين وتكاملهما إلى أبعد حد.

تاريخياً تعد ليبيا الشريك الاقتصادي العربي الأول لتونس بحجم تعاملات تجارية وصلت قبل 2011 الى أكثر من ملياري دولار سنوياً قبل أن تتراجع إلى أقل من ذلك بكثير خلال الأعوام الأخيرة.

وعلى رغم أنه ممنوع قانوناً، فإن التهريب بين البلدين صار دارجاً ومسكوتاً عنه من طرف سلطات البلدين اقتناعاً بأن أمن البلدين يقتضي “السماح” أو التغاضي عن تهريب السلع والبترول في الاتجاهين.

ويورد التونسيون عبر المسالك غير القانونية كميات كبيرة من المواد البترولية من ليبيا بأسعار زهيدة تروج في مختلف أرجاء البلاد، إضافة إلى منتوجات أخرى على غرار بعض الأجهزة الإلكترونية والموز، وبدورهم يورد الليبيون المواد الغذائية من تونس والأدوية ومنتوجات أخرى حياتية.

ولكن هذه الحركية على مستوى التهريب أو التعامل القانوني على مستوى التصدير والتوريد بين البلدين، قد تهوي بمستوى التبادل التجاري بينهما بسبب القرار الذي اتخذته السلطات الليبية أخيراً في شأن الحط من قيمة العملة الوطنية.

خلافات حادة

وأعلن رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة الأحد الماضي، رفضه قرار رئيس البرلمان عقيلة صالح خفض قيمة الدينار عبر فرض ضريبة على مشتريات العملات الأجنبية، لتأثيره في معيشة الليبيين.

واعتبر الدبيبة خلال لقائه أخيراً عدداً من أعضاء البرلمان والمجلس الأعلى للدولة أن فرض ضريبة على سعر الصرف ستكون له آثار سلبية يتحمل تبعاتها المواطنون، نافياً الأنباء التي تشير إلى تدهور الوضع الاقتصادي للبلاد وإفلاسها.

والخميس الماضي، أصدر صالح قراراً بفرض رسم على سعر الصرف الرسمي للنقد الأجنبي بقيمة 27 في المئة لكل الأغراض حتى نهاية العام الحالي، بعد اقتراح من محافظ المصرف المركزي الصديق الكبير، لكنه أثار ردود فعل غاضبة وأحدث صداماً سياسياً.

ومن جانب آخر أكد رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي في بيان عبر حسابه بمنصة “إكس” أن الإنفاق المتزايد والتضخم في دعم المحروقات يتطلبان معالجات عاجلة وحازمة، وليس تحميل التبعات للمواطن.

ودعا المنفي كل المؤسسات المعنية بالإنفاق العام إلى المشاركة في اجتماع اللجنة المالية العليا الأسبوع المقبل، مؤكداً عزمه على تشكيل لجان فنية للتحقق من أسباب تضخم نفقات الباب الأول ودعم المحروقات وسبل إنقاذ الاقتصاد الليبي.

ويأتي هذا الخلاف والانقسام في ليبيا في وقت يشهد الاقتصاد المحلي تدهوراً مع انخفاض سعر صرف الدينار أمام العملات الأجنبية وارتفاع الأسعار في الأسواق وشح في السيولة النقدية.

تحديات اقتصادية على ليبيا

وفي تحليله لأبعاد هذا القرار وفي حال تثبيته يقول المتخصص المالي بسام النيفر إن ليبيا تعرف كثيراً من المشكلات من حيث عجز مؤشرات الموازنة في بلد ثروته الوحيدة تقريباً النفط، ومقابل ذلك فإن الشعب الليبي اعتاد على العيش في رفاهية تامة على رغم الظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد.

ويرى أنه في ظل استقرار أسعار النفط التي رجحت تقارير دولية عدة أن يكون معدل سعره في 2024 دون 87 دولاراً للبرميل، يحذر البنك المركزي الليبي منذ أشهر من وضعية كهذه واحتمال تأثيرها في الوضع المالي للبلاد.

وأكد النيفر لـ”اندبندنت عربية” أنه منذ شهرين قررت الحكومة الليبية رفع الدعم نهائياً عن المحروقات، والمرور إلى الأسعار الحقيقية لكن أمام صعوبة تنفيذ القرار وما سينجم عنه من تداعيات جرى إرجاؤه إلى وقت لاحق لحين إقرار الحلول الملائمة.

وأضاف أن هناك تهريباً لافتاً للمحروقات من ليبيا في اتجاه تونس ومصر وبعض دول أفريقيا جنوب الصحراء، مما يكلف موازنة ليبيا خسائر مالية سنوية كبيرة جداً لأن ثمن النفط المهرب زهيد وفي المتناول.

ولمجابهة مصاريف الدولة الليبية الآخذة في الزيادة بدأ محافظ المصرف المركزي الليبي بالتفكير جدياً في إيجاد توازن بين الدينار الليبي والدولار من خلال فرض ضريبة على الأخير.

ويقول النيفر إن “من شأن هذه العملية أن تحدث تضخماً مالياً كبيراً في البلاد، إذ سيمر الدينار الليبي مقارنة بالدولار من 4.8 دينار للدولار الواحد إلى ما فوق ستة دنانير، وإن الأسعار سترتفع بصورة لافتة، مما سيؤدي إلى اضطرابات اجتماعية ربما تكون لها عواقب وخيمة”.

تداعيات كبيرة على تونس

وبالنسبة إلى تداعيات هذا القرار على دول الجوار بخاصة تونس، يؤكد النيفر أنه سيكون له تأثير واضح وستعاني تونس أكثر، مرجحاً استفحال ظاهرة تهريب السلع من تونس باتجاه ليبيا، خصوصاً المواد الأساس والأدوية من منطلق أن الفارق في الأسعار سيتسع.

وأضاف أن هذا القرار وفي حال اعتماده وتطبيقه سيغذي السوق السوداء للعملة بين ليبيا ودول الجوار، وأن الضغوطات ستزيد على تونس وستتأثر بصورة ملحوظة من حيث انفلات السلع، متوقعاً إمكان حصول اضطراب في مسالك التوزيع، الهشة بطبيعتها، تحديداً في المناطق الحدودية مع ليبيا.

وزاد في تحليله للوضعية بالتأكيد على أن القرار سيؤثر في مستوى النفط المهرب باتجاه تونس، مفسراً بأنه عند تسجيل ارتفاع في ثمن النفط في ليبيا لن يكون هناك تهريب إلى تونس.

وشدد النيفر بالنسبة إلى هذه المسألة على أن التهريب ممنوع إلا أن تونس تستفيد منه بصورة غير قانونية ومباشرة، إذ تبرز تقديرات رسمية أن النفط المهرب من ليبيا يبلغ نحو 20 في المئة من الاستهلاك الوطني في تونس، وإذا سجل ارتفاع في ثمن النفط الليبي، فإن هذا القرار سينجم عنه عدم التهريب، وأنه غير مربح للطرف الليبي، لذا ستضطر تونس إلى مضاعفة قيمة وارداتها من النفط بما يرهق الموازنة ويرفع نسبة العجز فيها، علماً أن تونس تبحث إلى الآن عن قروض لاستكمالها.

وقال النيفر إن الحط من قيمة الدينار الليبي سيضاعف التضخم، بما لا يخدم مصلحة تونس من خلال مزيد من تضخم التهريب.

تونس الضحية الأولى

ويعتقد المتخصص المالي بأن تونس ستكون الضحية الأولى لقرار الحط من قيمة العملة الليبية لعوامل أبرزها أن ارتفاع الأسعار المرتقب في ليبيا مقابل مواصلة سياسة دعم المواد الغذائية في تونس، سيعمق تدفق تهريب المواد الأساس المدعمة باتجاه طرابلس، داعياً في هذا الصدد إلى مزيد من مراقبة الحدود البرية بين البلدين، والأمر نفسه ينطبق على قطاع الأدوية الذي يعاني صعوبات كبيرة في تونس، وقد يؤدي ذلك إلى مزيد من تعميق تهريب الأدوية باتجاه ليبيا بحثاً عن الربح الكبير والسريع من طرف عصابات التهريب.

ولاحظ أيضاً أن الحط من قيمة العملة الليبية سيؤثر في القدرة الشرائية لعموم الليبيين، مشيراً إلى أن أكثر من 2.2 مليون ليبي زاروا تونس في العام الماضي، ويحتلون صدارة السياح الأجانب لتونس من حيث نسبة امتلاء الوحدات السياحية، فضلاً عن أنهم ينشطون الحركة التجارية في مدن ساحلية سياحية تونسية خلال فترة الصيف، ومن شأن إضعاف قدرتهم الشرائية والاستهلاكية التأثير حتماً في اقتصادها.

ويرى النيفر أن فرض ضريبة على الدولار والحط من قيمة الدينار الليبي سيؤثران كذلك في جاذبية سوق الشغل في تونس، لا سيما أن مئات آلاف التونسيين والشركات التونسية يعملون في ليبيا، مرجحاً عودة كثير من التونسيين المغتربين لوطنهم بما قد يضاعف نسب البطالة.

خسائر اقتصادية

وأظهرت دراسة للبنك الدولي أنجزت عام 2016 أن تونس تخسر 800 مليون دولار سنوياً نتيجة تأثرها بالوضع الليبي، موصية بأن يعمل البلدان معاً بانسجام تام للتحكم في الأخطار الناتجة من الأوضاع الاقتصادية المتردية فيهما.

وأوضحت في السياق نفسه أن تهريب البنزين من ليبيا نحو تونس أدى الى خسارة 500 مليون ليتر سنوياً، أي ما يعادل 17 في المئة من حاجات تونس، وبذلك عمّق تهريب البنزين خسارة البلدين على مستوى الموازنة في ليبيا وعلى مستوى المداخيل الضريبية لتونس.

وخلصت هذه الدراسة إلى أن البلدين مرتبطين منذ القدم على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وكل ما يحصل في بلد يؤثر لا محالة في الآخر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى