اقتصاد دولي

كيف يدير بنك إنجلترا السياسة النقدية من دون الإضرار بالنمو الاقتصادي؟

واصل المؤشر القيادي لبورصة لندن “فوتسي 100” الارتفاع في تعاملات آخر أيام الأسبوع ليتجاوز حاجز الـ 7960 نقطة مقترباً من أعلى مستوى وصل إليه في فبراير (شباط) 2023، حينما تخطى المؤشر حاجز ثمانية آلاف نقطة.

إلى ذلك، يتجه مؤشر بورصة لندن لإنهاء ثاني أسبوع من المكاسب بارتفاع بنسبة واحد في المئة أمس، بعدما ارتفع بنسبة اثنين في المئة أمس الخميس عقب بيان بنك إنجلترا (المركزي البريطاني).

وترك البنك البريطاني سعر الفائدة على ما هو عليه عند 5.25 في المئة، لكن مع إشارة محافظ البنك أندرو بايلي إلى أن خفض سعر الفائدة في الطريق، وعلى الفور تراجع سعر صرف الجنيه الاسترليني قليلاً أمام الدولار مع زيادة توقعات بدء بنك إنجلترا سياسة التيسير النقدي.

وكشفت تصريحات بايلي أنه يتفق مع تقديرات السوق بخفض سعر الفائدة ثلاث مرات في ما تبقى من هذا العام، على رغم أنه أضاف أن تصريحاته ليست توقعات مؤكدة.

وأشارت تصريحات محافظ البنك الياباني، إلى بوادر تحسن اقتصادي تأخذه الأسواق في الحسبان، من بيانات التضخم هذا الأسبوع، بعد أن أظهرت تباطؤ ارتفاع معدل التضخم إلى نسبة 3.4 في المئة، هبوطاً من أربعة في المئة بوتيرة فاقت التوقعات، هذا إلى جانب أرقام مبيعات التجزئة لشهر فبراير الماضي التي صدرت قبل يومين، وأشارت إلى احتمال خروج الاقتصاد البريطاني من الركود الذي مني به نهاية العام الماضي.

تفاؤل حذر

في غضون ذلك، يضع المستثمرون خططهم المستقبلية على أساس التوقعات، ومع توقع بدء خفض سعر الفائدة تنخفض كلفة الاقتراض مما يعني زيادة الإنفاق الاستثماري، وينطبق ذلك أيضاً على زيادة الإنفاق الاستهلاكي الذي يمثل النسبة الأكبر من الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصادات المتقدمة.

في ظاهر الأمر، ما حدث، الخميس الماضي، هو أن بنك إنجلترا لم يغير شيئاً ليظل سعر الفائدة في بريطانيا عند أعلى مستوى له في 16 عاماً، لكن الأسواق والاقتصاديين ينظرون إلى ما وراء قرار البنك لبناء نماذج التوقعات، سواء بالنسبة إلى السياسة النقدية في الأشهر المقبلة أو للاقتصاد بصورة عامة.

في تحليل قرار البنك المركزي يلاحظ أن أحداً من بين أعضاء في لجنة السياسة النقدية في البنك لم يصوت لمصلحة رفع سعر الفائدة للمرة الأولى منذ عام 2021. وجاء التصويت ثمانية أعضاء لمصلحة إبقاء سعر الفائدة على ما هو عليه مقابل صوتاً واحداً لمصلحة خفض سعر الفائدة ربع نقطة (0.25 في المئة) إلى خمسة في المئة، بينما في الاجتماع السابق للجنة صوت اثنان من الأعضاء لمصلحة رفع سعر الفائدة، في حين صوت عضو واحد لمصلحة خفض سعر الفائدة، أما بقية الأعضاء فصوتوا للإبقاء على الفائدة كما هي، وهو ما حدث بالفعل.

في كلمته عقب القرار، قال أندرو بايلي إن “الأمور تسير في الاتجاه الصحيح”، موضحاً أن “تشديد السياسة النقدية ربما يكون بالفعل حقق الهدف منه بكبح جماح ارتفاع معدلات التضخم“، مستدركاً “صحيح أن انخفاض معدل التضخم لا يعني أن أسعار السلع ستنخفض، بل تظل الأسعار أعلى مما كانت عليه قبل عام، لكن تراجع ارتفاع التضخم يعني أن الأسعار لم تعد ترتفع بقوة”.

إلا أن البنك المركزي يأخذ في الاعتبار عوامل أخرى، منها على سبيل المثال معدل ارتفاع الأجور الذي لا يزال عالياً ولم يتراجع بالقدر الذي يتراجع به معدل التضخم، وهذا يجعل البنك المركزي حذراً ومتأنياً في خفض أسعار الفائدة كي لا يترك الباب مفتوحاً أمام عودة التضخم للارتفاع.

ومع أن البنك المركزي يتمتع باستقلالية في وضعه للسياسة النقدية، أي أنه لا يتأثر بحالة السوق ولا حتى الاقتصاد، لكن بالتأكيد يأخذ أعضاء لجنة السياسة النقدية في الاعتبار تأثير الفائدة المرتفعة لفترة طويلة في آفاق النمو الاقتصادي.

مخاوف مبررة

في تلك الأثناء، تتوقع الأسواق الآن أن يبدأ البنك المركزي البريطاني خفض سعر الفائدة في يونيو (حزيران) المقبل، إلا أن بعض المتفائلين يتوقع بدء الخفض في مايو (أيار) المقبل، خصوصاً مع تراجع ارتفاع معدل التضخم أكثر في أبريل (نيسان) المقبل، مقترباً من الحد المستهدف من قبل البنك عند نسبة اثنين في المئة، لكن ذلك كله يبقى في إطار التكهنات، وتظل هناك مخاوف من استمرار معدلات الفائدة مرتفعة لأشهر عدة قبل خفضها بنهاية الصيف، بخاصة إذا ظلت سوق العمل في وضع مضغوط كما هي الآن.

من المؤكد أن بنك إنجلترا ليس وحده في هذا الوضع، بل إن الاحتياط الفيدرالي (المركزي الأميركي) والبنك المركزي الأوروبي (يحدد السياسة النقدية لدول منطقة اليورو) قد يبقيان على أسعار الفائدة مرتفعة مع إشارات عن قرب البدء في خفضها هذا العام أكثر من مرة. ويثير ذلك مخاوف لدى بعض المستثمرين والاقتصاديين والمحللين من أن استمرار أسعار الفائدة مرتفعة كما هي الآن لأشهر عدة مقبلة، قد يضر بالأسوق وبآفاق النمو الاقتصادي بصورة عامة.

وتستند تلك المخاوف إلى أن البنوك المركزية في الاقتصادات الكبرى فشلت من قبل في توقع ارتفاع معدلات التضخم بصورة كبيرة واستمرارها لفترة طويلة، وقدرت عقب أزمة وباء كورونا أنه “تضخم انتقالي” سيرتفع بسرعة وينخفض بسرعة، وهكذا تأخرت تلك البنوك في بدء سياسة التشديد النقدي للحد من ارتفاع التضخم.

ويخشى الآن من فشل البنوك المركزية مجدداً في تقدير تأثير التشديد النقدي في كافة مناحي النشاط الاقتصادي وتتأخر في بدء خفض أسعار الفائدة لتنشيط الاقتصاد عبر تقليل كلفة الاقتراض.

ولكن حتى الآن، لا تبدو الأضرار كبيرة نتيجة تردد البنوك المركزية، بما فيها بنك إنجلترا، في بدء خفض أسعار الفائدة، لكن إذا ظلت على موقفها هكذا خلال الصيف، فإن نهاية هذا العام قد تشهد تأثيراً سلبياً كبيراً في الأسواق والاقتصاد بصورة عامة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى