هل يستجيب “الفيدرالي” لتطلعات السوق بخفض الفائدة الأميركية بقوة؟
كتب أسامة صالح
لم يعد الحديث في السوق أو بين المحللين والاقتصاديين هو التساؤل عما إذا كان مجلس الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي) الأميركي سيخفض الفائدة هذا الشهر للمرة الأولى منذ عام 2022 أم لا، فقناعة الجميع أن احتمال بدء البنك توجه التيسير النقدي وخفض الفائدة في اجتماع لجنة السوق المفتوح منتصف الشهر (يومي 17 – 18) هو الآن بنسبة 100 في المئة.
إنما التساؤل الأهم حالياً وحتى اجتماع البنك بعد أسبوعين هو كم سيخفض سعر الفائدة، وهل سيلجأ إلى بدء التخفيض بربع نقطة مئوية (0.25 في المئة) أم يذهب إلى ما تتطلع إليه الأسواق والمستثمرين بخفض أقوى بنصف نقطة مئوية (0.5 في المئة)؟، بخاصة أن سعر الفائدة في أميركا وصل في يوليو (تموز) من العام الماضي إلى نسبة 5.25 – 5.5 في المئة، وهي الأعلى منذ نحو ربع قرن.
توقف البنك المركزي عن مسار التشديد النقدي (رفع سعر الفائدة والتوقف عن شراء السندات) الذي بدأه قبل ذلك بنحو عامين لكبح جماح ارتفاع معدلات التضخم عقب فتح الاقتصاد بعد إغلاقات أزمة وباء كورونا. وفي الفترة من مارس (آذار) 2022 حتى يوليو 2023 رفع البنك سعر الفائدة 11 مرة من قرب الصفر إلى مستواها الحالي.
عوامل مشجعة
منذ نحو عام تتوقع الأسواق أن يبدأ البنك المركزي في خفض سعر الفائدة، أسوة بما بدأته فعلاً بنوك مركزية في اقتصادات كبرى مثلما فعل بنك إنجلترا (المركزي البريطاني) الشهر الماضي، لكن ثمانية اجتماعات لـ”الاحتياط الفيدرالي” منذ صيف العام الماضي تركت نسبة الفائدة كما هي مرتفعة من دون تغيير، إلى أن جاءت الإشارة الأولى المؤكدة من رئيس “الاحتياط الفيدرالي” جيروم باول الأسبوع الماضي في الاجتماعات السنوية للبنوك المركزية حين قال “لقد حان الوقت” لبدء خفض سعر الفائدة.
وكتب الاقتصادي في بنك “نيشن وايد” مذكرة جاء فيها أن “توجهات الأسعار حالياً تؤكد أن معركة الاحتياط الفيدرالي مع التضخم توشك أن تنتهي… ويمكن لانخفاض معدلات التضخم أكثر أن تعطي الاحتياط مساحة مناورة لخفض الفائدة بمعدلات أكبر في الاجتماعات المقبلة، بخاصة إذا أظهرت سوق العمل مزيداً من التراجع المضطرد”.
كانت بيانات سوق العمل مهمة في تقدير مسار سعر الفائدة، بخاصة مع ارتفاع معدلات البطالة الشهر قبل الماضي إلى نسبة 4.3 في المئة عن يونيو (حزيران) الماضي حين كانت عند نسبة 4.1 في المئة، إلا أن الاقتصاد الأميركي ما زال يوفر الوظائف، وإن بوتيرة أقل، بحسب ما تشير أرقام التوظيف الأسبوعية والشهرية.
ويبقى أن العامل الأهم للبنك المركزي في تحديد السياسة النقدية، وهو معدل التضخم، بدأ يتراجع، إذ سجل في الشهرين الماضيين نسبة 2.5 في المئة، وهي تقترب من النسبة المستهدفة من قبل الاحتياطي الفيدرالي عند اثنين في المئة.
كل ذلك، إلى جانب الهدوء أيضاً في السوق العقارية الأميركية، جعل الأسواق تتوقع أن يخفض البنك المركزي سعر الفائدة بمقدار نقطة مئوية كاملة على الأقل في الاجتماعات الثلاثة المتبقية له هذا العام، لكن الأرجح أن “الاحتياط الفيدرالي” سيكون حذراً هذا الشهر وربما لا يخفض سعر الفائدة بأكثر من ربع نقطة، وقد لا يلجأ إلى تخفيض نصف نقطة مئوية مرة واحدة إلا في اجتماعه الأخير، في ضوء بيانات سوق العمل ومؤشرات الاقتصاد الكلي الأخرى، بخاصة معدلات التضخم.
مخاوف تكرار الخطأ
صحيح أن البنك المركزي، مثله مثل بقية البنوك المركزية في أغلب الاقتصادات، يأخذ في الاعتبار عوامل أخرى غير معدل التضخم عند اتخاذ قرار في شأن السياسة النقدية، بالتالي فإن حركة السوق تعد أيضاً مهمة إلى جانب مؤشرات الاقتصاد الكلي. لكن في السنوات الأخيرة لم يعد “الاحتياط الفيدرالي” يستجيب لحساسية الأسواق بالقدر ذاته كما كان من قبل، وأصبح تركيزه أكثر على جوانب الاقتصاد الحقيقي وتأثرها بقرارات سعر الفائدة، لكن العامل الأهم الذي يجعل البنك المركزي متردداً في الاستجابة السريعة لانخفاض معدلات التضخم بشدة إلى المستوى المستهدف هو الحذر من تكرار أخطاء سابقة، إذ فشلت البنوك المركزية في توقع مدى وعمق موجة التضخم التي أعقبت أزمة وباء كورونا عام 2020، حين قدرت أن موجة التضخم “موقتة وقصيرة الأجل ولن تكون عميقة” باعتبارها رد فعل على انكماش متعمد، أي بفعل فاعل وليس نتيجة عوامل اقتصادية عادية بسبب إغلاق في فترة أزمة الوباء.
وهكذا لم تسارع البنوك المركزية بالاستجابة عن طريق تشديد السياسة النقدية واستمرت أسعار الفائدة منخفضة حول نسبة الصفر، وواصلت معدلات التضخم الارتفاع وتعمقت واستمرت لفترة أطول من المتوقع ما وضع البنوك المركزية في مرمى سهام الانتقاد من الأسواق والاقتصاديين، لهذا لا تريد البنوك المركزية الإسراع في خفض سعر الفائدة بشكل كبير خشية أن يكون تقديرها خاطئاً، وتعود الضغوط التضخمية في الاقتصاد، بخاصة أن الخطط الاقتصادية المعلنة لكلا المرشحين لانتخابات الرئاسة في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، الديموقراطية نائبة الرئيس كامالا هاريس والجمهوري الرئيس السابق دونالد ترمب، يمكن أن تزيد من معدلات التضخم على رغم وعود المرشحين بالعمل على خفض الأسعار، فإجراءات ترمب الحمائية بفرض الرسوم والتعرفة الجمركية على الواردات من الصين وغيرها، وكذلك التصدي للهجرة وترحيل المهاجرين ستؤدي إلى الضغط على سوق العمل وارتفاع الأجور وأيضاً ارتفاع الأسعار نتيجة زيادة كلفة الواردات.
أما خطط هاريس بتقديم الدعم المباشر لشراء المساكن وأيضاً محاولة ضبط ارتفاع أسعار الغذاء فيمكن أن تؤدي إلى زيادة الطلب عن العرض في السوق ما يعني عودة التضخم مرة أخرى، وفي كل الأحوال قد يجد البنك المركزي نفسه في وضع يضطر معه إلى وقف مسار خفض الفائدة، بل وربما حتى العودة إلى رفع سعر الفائدة لوقف ارتفاع التضخم وضبط معادلة العرض والطلب في الاقتصاد التي تحكم أسعار السلع والخدمات.