سوق الدين بالسعودية.. نمو متسارع ينوع التمويل ويدعم الاقتصاد
كتب أسامة صالح
شهد سوق الدين في المملكة العربية السعودية نمواً لافتاً خلال السنوات الأخيرة، حيث تضاعف حجمه بشكل ملحوظ، ليصبح أحد أهم الأسواق الناشئة في منطقة الشرق الأوسط.
هذا التطور يعكس توجهات استراتيجية من قبل الحكومة السعودية لتعزيز قدرتها المالية وتنويع مصادر تمويلها، تماشياً مع رؤية المملكة 2030 التي تسعى لتحقيق اقتصاد أكثر تنوعاً واستدامة.
وفي ظل بيئة مالية عالمية تشهد تقلبات مستمرة، أصبحت سوق الدين السعودي محور اهتمام المستثمرين المحليين والدوليين، مما يعزز دور المملكة كلاعب رئيسي في الأسواق المالية العالمية.
تضاعف سريع
وحسب بيانات كشف عنها رئيس هيئة السوق المالية السعودية محمد القويز، الأحد 8 سبتمبر الجاري، فإن حجم سوق الدين في السعودية بلغ 800 مليار ريال (213 مليار دولار) في الوقت الحالي، مقارنةً بنحو 400 مليار ريال (106 مليارات دولار) في عام 2019.
وتوقع القويز، خلال جلسة حوارية في منتدى أسواق الدين والمشتقات المالية، الذي عقد في الرياض، أن يتضاعف سوق الدين في المملكة مرة ثانية خلال السنوات الخمس المقبلة حتى يفي بالمتطلبات التمويلية التي تحتاج إليها المملكة.
وذكر أن إطلاق رؤية المملكة 2030 وتسارع المشاريع والمتطلبات فيها أدى إلى تغير وتنامي معدلات الطلب على القروض التي أصبحت أسرع من الطلب على الودائع، ومن ثم أصبح الوقت مواتياً لقيام سوق الدين.
وبين أن سوق الدين في المملكة ما زال يشكل أقل من 20% من حجم الاقتصاد، وتحديداً نحو 18%، مبيناً أنه مقارنة بالدول الأخرى المشابهة للمملكة من المفترض أن يمثل سوق الدين أكثر من 30% من حجم الاقتصاد.
وهذا النمو الكبير في سوق الدين بالمملكة يمكن تقصي معالمه من خطة الاقتراض السنوية للحكومة السعودية.
دور مهم للصندوق السيادي
ففي يناير الماضي، وافقت المملكة على خطة اقتراض سنوية قدرت احتياجات التمويل خلال العام الجاري بنحو 23 مليار دولار، تخصص لسد عجز الموازنة وسداد الديون.
وأصدرت المملكة، العام الماضي، سندات على ثلاث شرائح بقيمة إجمالية بلغت 10 مليارات دولار في يناير، تلاها إصدار صكوك بقيمة 6 مليارات دولار في مايو 2023.
صندوق الاستثمارات العامة السعودي كان له أثر في هذا السوق أيضاً وكانت آخر خطواته في 4 سبتمبر الجاري، عندما طرح أدوات دين للمرة الرابعة هذا العام من أجل تمويل مشاريعه الاستثمارية.
وباع الصندوق السيادي صكوكاً بملياري دولار، بينها 1.5 مليار دولار لأجل 3 سنوات و500 مليون دولار لأجل 6 سنوات.
وجمع الصندوق بالفعل 7 مليارات دولار من بيع سندات دولارية مرتين هذا العام، بالإضافة إلى 650 مليون جنيه إسترليني (850 مليون دولار) من إصدار سندات مقومة بالجنيه الإسترليني في يونيو.
وبعد ذلك، أعاد صندوق الاستثمارات العامة تمويل قرض بقيمة 15 مليار دولار.
والصندوق السيادي السعودي أبرز الجهات الحكومية بالمملكة التي تستخدم أدوات الدين وساهمت في توسيع سوقها.
تسهيلات لتوسيع السوق
وفي 26 يوليو 2024، أفادت صحيفة “إندبندنت” البريطانية في تقرير لها، بأن المملكة تسعى إلى إحداث انتعاشة في سوق الديون من خلال جعله أكثر جاذبية للمستثمرين الأجانب.
وأشارت الصحيفة إلى أن الرياض تحاول أن تكون سوق الصكوك وأدوات الدين فيها مشجعة للاستثمارات الأجنبية من خلال تطوير بيئتها التشريعية والتنظيمية وإتاحة آليات ومنتجات استثمارية حديثة.
وفي تقرير نشرته وكالة “بلومبيرغ” الاقتصادية الأمريكية، في يوليو الماضي، أفادت بأن السعودية حددت سلسلة خطوات لدعم سوق الديون فيها، ومن ضمن ذلك تخفيف محتمل للضرائب، والذي يجعل سندات الشركات السعودية أكثر جاذبية للمستثمرين الأجانب.
وأوضحت الوكالة أن هيئة السوق المالية تدرس إلغاء ضريبة الاستقطاع على إصدارات أدوات دين الشركات المحلية البالغة 5%، إضافة لتبسيط الإجراءات التنظيمية لطروحات الديون لتقليل الكلفة والوقت على الشركات لدى إصدار السندات.
وتواصل هيئة السوق المالية سعيها إلى النهوض بسوق الصكوك وأدوات الدين كأحد أهم البدائل التمويلية التي توفرها السوق المالية لتمويل مشاريع القطاعين العام والخاص.
دور حيوي بتنويع التمويل
وحول التطور السريع في سوق الدين السعودي، يقول الرئيس التنفيذي للأكاديمية المالية في المملكة، مانع بن محمد آل خمسان: إن “سوق الدين والمشتقات المالية في المملكة يشهد تطوراً سريعاً، ومن المتوقع له أن يلعب دوراً حيوياً في تنويع مصادر التمويل وتعزيز السيولة”.
وأضاف آل خمسان، في تصريحات نقلتها صحيفة “أرقام” السعودية، أنه من المتوقع زيادة إصدارات السندات والصكوك خلال السنوات القادمة، لتمويل المشاريع الكبرى، مثل مشاريع البنية التحتية والطاقة المندرجة في خطة 2030.
وحول أهمية سوق الدين، قال الخبير الاقتصادي أحمد الشهري: إن “هذا السوق يسهم بشكل كبير في تعزيز كفاءة استخدام الأموال داخل الاقتصاد السعودي.
استدامة الاستثمارات
ووفقاً لمقال كتبه الشهري في صحيفة الاقتصادية، في سبتمبر الماضي، فإن سوق الدين المتطور يعزز من استدامة الاستثمارات والنمو الاقتصادي، وهو أمر تسعى إليه الدول المتقدمة من خلال تنويع قاعدة المستثمرين في أسواق الدين الأولية والثانوية.
وأوضح الخبير أن الحكومات تستفيد من أسواق الدين في تمويل ميزانياتها الخاصة بالإنفاق على المشاريع الرأسمالية الجديدة، بالإضافة إلى تمويل أنشطة الحكومة المتعددة، وكذلك الحال بالنسبة للشركات، التي تجد في أسواق الدين وسيلة لتمويل عملياتها المختلفة.
وأضاف: “كلما زاد تنوع قاعدة المستثمرين في سوق الدين المحلي، يخفف ذلك من الضغط على المصارف في تمويل الشركات والحكومات. وهذا بدوره يقلل من مزاحمة القطاع العام للقطاع الخاص على التمويل، خاصة في الاقتصادات الخليجية”.
وأشار الخبير الشهري إلى أن الاعتماد على سوق الدين العميقة يقلل من اعتماد الحكومة على عوائد النفط، كما هو الحال في دول الخليج.
وأكد أن وجود سوق دين داخلي فعال يسهم في تخفيف تأثير الصدمات في أسعار النفط على الاقتصاد، مما يتيح للحكومة جدولة وترتيب أولوياتها التنموية بشكل أكثر كفاءة واستدامة.
وبيّن الخبير الاقتصادي السعودي أن “سوق الدين الداخلي يضمن استدامة الإنفاق الحكومي ونمو الاستثمارات بعيداً عن الاعتماد على عوائد النفط المتقلبة”.
وأكد أن المملكة قد نجحت بالفعل في تأسيس سوق دين داخلي قوي، وهو ما أشادت به وكالات التصنيف الائتماني الدولية مثل “إس آند بي”، حيث أظهر السوق السعودي وتيرة تطور تفوق نظيراته في الاقتصادات المتقدمة.
وأضاف: “المملكة تواصل تعزيز هذا الاتجاه، خاصة في سوق الدخل الثابت للشركات المحلية، سواء كانت مملوكة للحكومة أو للقطاع الخاص، مما يعزز من استقرار الاقتصاد على المدى الطويل”.
وفي الإطار نفسه، تحدث كبير محللي السوق في شركة “سنشري فايننشال” للاستشارات والتحليلات، أرون ليزلي جون، حيث قال إن “السعودية تحتل مكانة استراتيجية في أسواق الدين في منطقة الشرق الأوسط في ظل حالة الاستقرار المالي والتنظيمي التي تشهدها، مما أسهم في جذب استثمارات كبرى إلى سوق الصكوك في المنطقة”.
وأضاف جون في تصريحات نقلتها صحيفة “إندبندنت” البريطانية، في يوليو الماضي، أن “تلك الاستثمارات تعكس الاهتمام المتزايد بموقع السعودية إقليمياً في هذا القطاع، ويعزز من ثبات السوق ونموه المستقبلي”.
واعتبر أنه يمكن تعزيز جاذبية سوق الدين السعودي من خلال تبسيط الإجراءات التنظيمية المتعلقة بإصدار الصكوك وأدوات الدين.