خارطة طريق جديدة لإصلاح الرعاية الصحية
يعاني قطاع الرعاية الصحية من أزمة اقتصادية متفاقمة، تتمثل أبرز ملامحها في فقدان المرضى السيطرة على نفقاتهم الصحية، وتفاوت كبير في أجور الأطباء، فضلاً عن ممارسات تجارية مشكوك فيها لشركات التأمين والأدوية.
– تثير هذه الأوضاع المعقدة تساؤلات حول مدى التوافق بين مبادئ الاقتصاد وواقع القطاع الصحي.
– في هذا الإطار، يأتي كتاب “اقتصاد الصحة الأفضل” للمؤلفيْـن آل جروس وماتيو نوتويديجدو ليقدما فهماً شاملاً لهذا المجال الحيوي، مستهدفًا جمهورًا واسعًا من القراء، سواء كانوا متخصصين أو مبتدئين في مجال اقتصاديات الصحة.
شراكة أكاديمية وكتاب جديد
– بدأت شراكة “جروس ونوتويديجدو” في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا حيث تعاونا في مجال البحوث المتعلقة باقتصاديات الصحة، واليوم، يعمل جروس في جامعة بوسطن بينما يواصل نوتويديجدو أبحاثه في جامعة شيكاغو.
– يوجه الباحثان في كتابهما الجديد أنظار القراء إلى القضايا الكبرى التي تميز الرعاية الصحية عن بقية القطاعات، ويدعوان إلى زيادة التركيز على هذا المجال لضمان تطوير سياسات فعالة.
تحديات فريدة في اقتصاديات الصحة
يستعرض الكتاب عدة جوانب تميز الرعاية الصحية، منها:
1- غموض في تحديد أجور الأطباء: يظل تحديد الطريقة المثلى لتحفيز الأطباء وتسعير خدماتهم أمرًا محيرًا، حيث تختلف النظم المتبعة باختلاف الدول والأنظمة الصحية.
2- دور شركات التأمين كوسيط: تلعب شركات التأمين دورًا حيويًا في التفاوض على التكاليف والدفع نيابة عن المرضى، مما يخلق ديناميكية معقدة بين الأطراف الثلاثة (المريض، الطبيب، وشركة التأمين).
3- قصور في فهم المرضى: غالبًا ما يفتقر المرضى إلى المعرفة الكافية لاتخاذ قرارات مستنيرة بشأن خياراتهم الصحية، مما يؤدي إلى اتخاذهم قرارات قد تكون غير مناسبة.
4- سوق غير تقليدية: السوق الطبي لا يتبع النموذج التقليدي للأسواق التنافسية، إذ لا يختار المرضى أطباءهم بحرية تامة، كما تتدخل الحكومة أحيانًا لتوفير بعض الخدمات مجانًا أو بأسعار مدعومة.
التأمين الصحي: أداة لإدارة المخاطر
– يركز الكتاب بشكل خاص على دور التأمين الصحي كأداة لحماية الأفراد من التكاليف المالية غير المتوقعة المرتبطة بالرعاية الصحية.
– يشرح الباحثان أن توسيع برامج التأمين الحكومي يمكن أن يقلل من معدلات الإفلاس ويزيد من الاستقرار المالي للأفراد.
– أظهرت الدراسات أن توسيع التغطية التأمينية بنسبة 10% يمكن أن يؤدي إلى خفض معدلات التخلف عن السداد، والديون المتراكمة بنسبة تصل إلى 8%، أي أن زيادة التغطية التأمينية تساهم بشكل عام في تحسين الاستقرار المالي للأفراد والأسر.
الاختيار السلبي
– يتناول المؤلفان مشكلة “الاختيار السلبي”، وهي ظاهرة تحدث عندما يكون الأفراد الأكثر عرضة للمرض هم من يسعون للحصول على التأمين الصحي.
– هذا يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية لشركات التأمين، مما يدفع الأصحاء إلى تجنب الانضمام للتأمين، مما يزيد من العبء المالي.
– يدعو المؤلفان إلى ضرورة تنظيم الأسواق الصحية عبر فرض سياسات إلزامية تشمل الجميع، سواء الأصحاء أو المرضى، لحل هذه المشكلة.
الخطر الأخلاقي والاستهلاك الزائد
– يناقش الكتاب أيضًا قضية “الخطر الأخلاقي”، والتي تشير إلى سلوك الأفراد عندما لا يتحملون التكاليف الكاملة للرعاية الصحية، مما قد يدفعهم إلى استهلاك خدمات أكثر مما يحتاجون فعليًا.
– استشهد الباحثان بدراسة أظهرت أن الأسر التي تتحمل جزءًا من تكاليف الرعاية الصحية تستهلك خدمات أقل مقارنةً بالأسر التي تحصل على الرعاية مجانًا، دون أن يتأثر ذلك سلبًا بصحة الأفراد.
نموذج “التأمين القائم على القيمة”
– يقترح المؤلفان نموذج “التأمين القائم على القيمة”، وهو فكرة مبتكرة تهدف إلى تعديل الأسعار بناءً على الاحتياجات الصحية الفعلية للأفراد، مما يشجع على قرارات أكثر وعيًا.
– ولكن، يواجه هذا النموذج تحديات كبيرة في تحديد القيمة الحقيقية لكل خدمة صحية، وقد يصطدم برفض المستهلكين الذين يفضلون أنظمة أبسط.
نظام أجور الأطباء بين المعايير السوقية والسياسية
– يتطرق الكتاب إلى أحد الموضوعات الشائكة في اقتصاديات الصحة وهو أجور الأطباء. حيث كشفت بيانات المؤلفين أن هناك تفاوتات كبيرة في أجور الأطباء، حيث يحصل الجراحون على رواتب تفوق كثيرًا نظراءهم في الرعاية الأولية.
– يربط المؤلفان هذه التفاوتات بالعوامل السوقية والسياسية، بما في ذلك تأثير النقابات الطبية التي تسعى للحفاظ على حواجز تحول دون دخول ممارسين جدد إلى المهنة، مما يؤثر سلبًا على تكاليف الرعاية الصحية وجودتها.
البحث عن أفضل نظام أجور
– يشير المؤلفان إلى أن نظام “الرسوم مقابل الخدمة” التقليدي الذي يعتمد عليه الكثير من الأطباء قد يشجع على تقديم خدمات غير ضرورية لزيادة الدخل.
– لذا، ظهرت أنظمة بديلة مثل نظام “المكافآت المرتبطة بتحقيق نتائج صحية”، إلا أن هذه الأنظمة تواجه تحدياتها الخاصة، حيث قد يفضل الأطباء الحالات السهلة على المرضى الذين يحتاجون إلى رعاية أكبر.
جودة الرعاية الصحية: معضلة التقييم
– تطرح مسألة جودة الرعاية الصحية تحديًا كبيرًا، حيث إن تقييم الجودة بدقة أمر معقد. يعرض الكتاب أمثلة على المبادرات التي تهدف إلى تحسين جودة الرعاية، مثل التجريب العشوائي في تقييم أداء المستشفيات، لكنه يحذر من العواقب غير المقصودة التي قد تنتج عن القياسات غير الصحيحة.
الخلاصة: ضرورة إحداث توازن بين التدخل الحكومي والأسواق الحرة
– يختتم الكتاب بدعوة إلى تحقيق توازن بين تدخل الحكومة وفهم أعمق للسوق الصحية. ورغم أن المؤلفين يميلان إلى دعم التدخل الحكومي في الرعاية الصحية، إلا أنهما يعترفان بأن الحلول التنظيمية ليست مثالية دائمًا.
– يبقى التحدي الأكبر هو كيفية إيجاد نظام عادل وفعال يحقق التوازن بين الحاجة لتوفير الرعاية الصحية بجودة عالية والتحكم في التكاليف المتزايدة.
– باختصار، يقدم “اقتصاد الصحة الأفضل” تحليلًا دقيقًا وموضوعيًا للتحديات التي تواجه نظام الرعاية الصحية، مع اقتراحات جريئة وحلول مبتكرة لتحسين القطاع وضمان استدامته.
المصدر: معهد كاتو