أوروبا في مواجهة ضغوط النمو والاقتراض والتشرذم السياسي
واجهت الحكومات صعوبة في إيجاد أرضية مشتركة حتى في شأن القضايا الأساسية مثل التعامل مع الأعداد المتزايدة من المهاجرين والحرب في أوكرانيا والاقتصادات الراكدة
في مناظرة حديثة، وجه أحد الناخبين الألمان انتقاداً حاداً للمستشار الألماني أولاف شولتز، قائلاً «الحكومة الألمانية غير قادرة على الحكم ووزراؤها يتشاجرون مثل الأطفال.» وبدلاً من الدفاع عن نفسه، اعترف شولتز بهذا الانتقاد، وقال «الحقيقة هي: أنت محق… لكن ما حلك؟ أعني، أنا أسأل من أجل صديق.»
لم يتسبب هذا التبادل في إثارة أي جدل يذكر في أكبر اقتصاد في أوروبا، التي كانت يوماً ما نموذجاً للحكم الجيد.
المكاسب الأخيرة التي حققتها حركة «البديل من أجل ألمانيا» اليمينية المتطرفة في الانتخابات المحلية وجهت ضربة أخرى لحكومة شولتز المتصدعة.
أما فرنسا، التي كانت لعقود محركاً للاتحاد الأوروبي إلى جانب ألمانيا، فوجدت نفسها في حالة مشابهة من الشلل السياسي بعدما أدت الانتخابات في يونيو (حزيران) الماضي، إلى انقسام البرلمان بين مجموعة من الأحزاب.
وشكل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حكومة يمين وسط، على رغم أن ائتلاف الأحزاب اليسارية فاز بأكبر عدد من المقاعد في الجمعية الوطنية، مما يجعل حكومته عرضة للتحديات من حزب مارين لوبن اليميني المتطرف، إذا قررت دعم تصويت بحجب الثقة ضد الحكومة أو رفض دعم موازنتها.
ربطت التجزئة والانقسام السياسي أيدي القادة السياسيين، الذين لا يمكنهم الحكم إلا في ائتلافات غير مريحة بين الأحزاب اليمينية واليسارية، وواجهت الحكومات صعوبة في إيجاد أرضية مشتركة حتى في شأن القضايا الأساسية، ناهيك ببعض من أكثر مشكلاتها حدة، مثل التعامل مع الأعداد المتزايدة من المهاجرين، والحرب في أوكرانيا، والاقتصادات الراكدة.
ارتفاع كلفة الاقتراض والنمو البطيء
وقال المدير الأول في شركة «يوراسيا جروب» الاستشارية والموظف السابق في الاتحاد الأوروبي، مجتبي رحمن، لصحيفة «وول ستريت جورنال»، «القادة ليسوا ولن يكونوا قادرين على بناء غالبية حول توافق لفعل ما هو مطلوب، وغياب الإصلاحات الحاسمة لمعالجة دوافع الزيادة الشعبوية، مثل الاقتصاد الضعيف والهجرة الجماعية، يعزز هذه الدائرة الجهنمية.»
ونتيجة لذلك، فإن حكومات الاتحاد الأوروبي فشلت في الوفاء بالتزاماتها تجاه الناخبين وتعرضت لخطر التأخر عن المنافسين مثل الولايات المتحدة والصين، وفي الوقت نفسه فإن ارتفاع كلفة الاقتراض والنمو البطيء يضعان ضغطاً مالياً حتى على القوى الاقتصادية السابقة مثل ألمانيا.
وتمكنت الحكومة الائتلافية الثلاثية في ألمانيا، التي تضم حزب شولتز الاجتماعي الديمقراطي وحزب الخضر والديمقراطيين الأحرار المؤيدين للأعمال، من الاتفاق على بعض السياسات التي تظهر استطلاعات الرأي أن معظم الناس يرونها أقل إلحاحاً، مثل تقنين الماريجوانا والسماح بالتحول الجنسي الذاتي.
ومع ذلك كان الوصول إلى توافق في شأن مجموعة من القضايا الأخرى أمراً صعباً، إذ عانت الدول الأوروبية صعوبة زيادة إنتاج الأسلحة لتلبية حاجات أوكرانيا أو الاتفاق على سياسات شاملة في شأن الهجرة، كما لم تتمكن حكومة شولتز من الوفاء بالوعود المتعلقة بتخفيف أزمة الإسكان وتقليل الروتين الإداري وتحسين البنية التحتية وتقليص الجريمة والقطارات المعروفة بتأخرها والضرائب على الشركات التي تعد الأعلى بين الدول النظيرة، وتتعرض البنية التحتية للتدهور، إذ انهار جسر في دريسدن الشهر الماضي بسبب تأخر الإصلاحات. وفي الوقت نفسه، وعلى رغم وعود ماكرون بتقليص الإنفاق العام، ارتفع العجز والدين في فرنسا خلال فترات حكمه.
في حين أدى عدم رضا الناخبين عن السياسة السائدة إلى تفكك تدريجي للمجموعات السياسية، إذ إن هناك الآن سبعة أحزاب مهمة، ثلاثة منها على الأطراف السياسية، مما يجعل من الصعب تكوين ائتلاف متماسك، سواء على المستوى الفيدرالي أو في معظم الولايات الـ16 في ألمانيا، وفقاً لما ذكره البروفيسور مانفريد غولنر، مؤسس «فورسا»، واحدة من كبرى شركات استطلاعات الرأي في ألمانيا.
وأصبح حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) اليميني المتطرف الآن ثاني أكبر حزب في استطلاعات الرأي على مستوى البلاد، بينما أصبح في بعض الولايات الشرقية أكبر مجموعة سياسية، مما أجبر المنافسين على الدخول في ائتلافات معقدة تهدف إلى إبقائه خارج السلطة. في الوقت نفسه، تجاوز حزب جديد يساري متطرف يعرف باسم «BSW» – الذي، مثل حزب البديل من أجل ألمانيا، والذي يؤيد روسيا ويعارض الناتو – الأحزاب التقليدية في الانتخابات المحلية.
بالطبع، عانت الحكومة الألمانية لفترة طويلة صعوبة تنفيذ تغييرات كبيرة، حتى في عهد أنجيلا ميركل الذي استمر 16 عاماً، لكن حكوماتها استفادت من النمو الاقتصادي المستدام والبيئة الجيوسياسية المستقرة نسبياً، وفقاً لما قاله رئيس معهد «إيفو» في ميونيخ الذي يقدم المشورة للحكومة، البروفيسور كليمنس فويست. وقال فويست إن الصدمات الداخلية والخارجية كشفت عن عدم قدرة الحكومة على تنفيذ السياسات.
وفي فرنسا صعد ماكرون إلى الرئاسة من خلال إنشاء حزبه السياسي الناشئ، وكان ينظر إليه في السابق على أنه أمل عظيم في قيادة التكامل الأوروبي وتغيير الكتلة وبلاده، وحقق بعض النجاحات، بما في ذلك خفض معدل البطالة وجذب الاستثمارات الأجنبية.
لكن، بعد ولايتين، أصبح ماكرون مثالاً على تراجع فرنسا والاتحاد الأوروبي نحو عدم الفاعلية، وفقاً لما قاله رئيس وزراء فرنسا السابق، مانويل فالس. وأضاف فالس أن الدولة الفرنسية تواجه الآن أزمة شرعية في نظر المواطنين الذين اعتادوا على توقع كل شيء من الحكومة.
وقال فالس «ستتعرض مؤسساتنا وديمقراطيتنا للاختبار. نحن في خطر مواجهة وضع فوضوي في وقت يحتاج فيه البلد إلى توجيه واضح لاستعادة، على سبيل المثال، الحسابات العامة والسلطة».
أوروبا وشعور الكآبة
لا يمكن لأوروبا أن تتجاوز شعور الكآبة حتى في ظل الحرب في أوكرانيا، ففي السنة الثالثة من الحرب فشل الاتحاد الأوروبي في الوفاء بالتزامه تسليم مليون قذيفة إلى كييف، بينما لم تتمكن من مواكبة توسع روسيا في إنتاج الأسلحة، إذ إن المخزونات العسكرية في فرنسا وألمانيا ودول أخرى باتت شبه مستنفدة، ولا توجد إشارات تذكر على الزيادة الموعودة في قدراتها الدفاعية، وفقاً للزميل في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إيفان كراستيف.
وقال كراستيف «ما يحدث في أوروبا من ناحية إنتاج الأسلحة، حتى في وقت ينظر فيه إلى التهديد الوجودي من روسيا، هو مزحة… لا توجد غالبية قادرة على مواجهة التحديات الرئيسة، وأساس شرعية الدولة هو القدرة على القيام بالأشياء، وهو ما يفتقر إليه الوضع حالياً».
في المقابل، فإن بعض الدول في شرق أوروبا استطاعت حكوماتها حشد غالبية كبيرة، وهي تحقق نجاحاً أكبر، إذ نجح رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، الذي كثيراً ما دخل في صراعات مع قادة الاتحاد الأوروبي الآخرين وبنى ما يصفه بـ»الدولة غير الليبرالية»، في جذب استثمارات أجنبية من خلال تقديم حوافز ضريبية والتعاون مع الصين.
وزار شولتز وماكرون في الأشهر الأخيرة الرئيس الصربي ألكسندر فوشيتش، الذي تعرض لانتقادات من قبل الدبلوماسيين ومراقبي الديمقراطية بسبب طبيعته الاستبدادية.