منوعات اقتصادية

شيرمان والبارون اللص .. شبح يهدد إمبراطورية جوجل وآخر يؤرق العم سام

واجهت الولايات المتحدة فترة خطرة للغاية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي بينما كانت تستعد للاحتفال بمئوية تأسيسها في أواخر القرن التاسع عشر، إذ تزايدت الممارسات التجارية غير القانونية والتكتلات الاحتكارية ونما الاحتقان الشعبي.

 

حتى إن الكاتب “مارك توين” وصف الفترة بين سبعينيات ونهاية القرن التاسع عشر باسم “العصر المذهب”، في إشارة إلى إخفاء المشاكل الاجتماعية الحرجة تحت قشرة “ذهبية” من التوسع الاقتصادي القوي.

 

في هذه الفترة، انتشرت الفضائح السياسية وعُرف مصطلح “البارون اللص” لأول مرة، والمقصود به رجال الأعمال فاحشو الثراء وأصحاب السلطة، الذين لا يتقيدون بأي قيود أخلاقية، ما دفع الكونجرس إلى سلسلة من التشريعات الحاسمة في تاريخ البلاد.

 

*الصورة من إنتاج الذكاء الاصطناعي

 

وخلال هذه الحقبة ازدهرت شركات صناعية مثل “كارنيجي ستيل” للصلب و”أويل ستاندرد” للنفط، لرائدي الأعمال “أندرو كارنيجي” و”جون روكفلر”، واللذين هيمنا بشكل كبير على المجالين، تمامًا كما هو الحال مع شركات التكنولوجيا الآن مثل “آبل” و”ألفابت” و”ميتا”.

 

لوضع ذلك في منظوره الصحيح، تُقدر ثروة “روكلفر” بحسابات اليوم -المعدلة وفقًا لتأثير التضخم- بنحو 400 مليار دولار، و375 مليار دولار لـ “كارنيجي”، أي أنهما أغنى من “إيلون ماسك” الآن، وإذا استُبعدت الشخصيات التاريخية من العصور الوسطى وما قبل الميلاد، سيكونان الأغنى في التاريخ.

 

عند الذروة، هيمنت “ستاندرد أويل” على نحو 90% من إنتاج النفط في البلاد، واستحوذت “كارنيجي ستيل” على نحو 75% من إمدادات الصلب، ونفذت الشركتان عمليات دمج واستحواذ ضخمة للغاية، أنهت تقريبًا على فرص المنافسة، لكنها أيضًا وضعت حدًا غير متوقع لمسيرتيهما.

 

الآن، وبعد أكثر من 100 سنة، يبدو أن الدروس المستفادة لم تستوعب تمامًا لا من قبل إدارات الشركات، والحكومة الأمريكية التي يُعتقد أنها تتساهل أحيانًا مع الشركات لحين ميلاد كيان احتكاري جديد يصعب التعامل معه، حيث يعاد إنتاج سيناريو مشابه مع “جوجل”، لكن هل ستكون العواقب واحدة؟

 

شيرمان: سلاح الدولة العتيق

 

– على عكس “كارنيجي” و”أويل ستاندرد”، فإن شركات مثل “جوجل” و”آبل” لا يهيمن على ملكيتها شخصًا بعينه أو حتى بضعة أفراد، لكن السياق التاريخي يشير إلى أن الحجم الضخم للأعمال يشكل مصدر قلق رئيسيًا عندما يتعلق الأمر بالاحتكار.

 

– عندما بيعت “كارنيجي” لـ “جيه بي مورجان” في بداية القرن العشرين مقابل 480 مليون دولار، كان ذلك يعادل 2.1% من اقتصاد أمريكا، علمًا بأن “أندرو” امتلك نصفها تقريبًا، فيما بلغت ثروة “روكفلر” في ثلاثينيات القرن العشرين – دون تعديلها للتضخم – 1.4 مليار دولار، وهو ما يعادل 1.5% من حجم اقتصاد أمريكا.

 

– في عام 1906، رفعت الحكومة الأمريكية دعوى قضائية ضد “ستاندرد أويل”، التي كانت يومًا إحدى أقوى شركات العالم، وفي عام 1911، أُمرت الشركة ببيع حيازاتها الرئيسية البالغة 33 شركة في المجموع، وبعد سلسلة من عمليات الدمج اللاحقة قامت شركتا “إكسون موبيل” و”شيفرون” على أنقاضها.

 

 

– بالنسبة لشركة “كارنيجي”، ربما كان بيعها هو ما هدأ الحكومة قليلًا، أما التحرك ضد “ستاندرد أويل”، جاء بعد سلسلة من التحقيقات الصحفية التي فضحت ممارسات الشركة غير المنصفة ضد منافسيها وشركات السكك الحديدية، واستند في المقام الأول لتشريع “شيرمان” لمكافحة الاحتكار الصادر عام 1890.

 

– كان هذا القانون بمثابة استجابة لظاهرة “الاتحادات الاحتكارية”، والتي يتم من خلالها ربط الشركات الكبيرة معًا من خلال العقود وتبادل الملكيات، مثل حال “ستاندرد أويل”، ونص التشريع على حظر أي قيود تجارية تحد من المنافسة، وأي تركز لقوة السوق تقيد التجارة بين الولايات.

 

– في عام 2020، استدعت الحكومة الأمريكية، مرة أخرى، هذا السلاح الخاص لمواجهة الكيانات التجارية العملاقة والمتشعبة في أعماق الاقتصاد، عندما رفعت دعوى قضائية ضد “ألفابت” بسبب أعمال محركات البحث.

 

كيف وقعت جوجل في دائرة الاحتكار؟

 

– في الأسبوع الماضي، دعت وزارة العدل الأمريكية في مذكرة للقضاء، شركة “جوجل” إلى بيع أعمال التصفح “كروم”، وذلك بعد صدور حكم في أغسطس يفيد بأن الشركة تحتكر سوق البحث عبر الإنترنت.

 

– قالت الوزارة إن بيع وحدة “كروم” من شأنه خلق مجال أكثر مساواة للمنافسين، مضيفة أن هذا الإجراء يوقف بشكل دائم سيطرة “جوجل” على نقطة الوصول البحثية الحرجة هذه ويسمح لمحركات البحث المنافسة بالوصول إلى المتصفح الذي يعتبر بالنسبة للعديد من المستخدمين “بوابة إلى الإنترنت”.

 

– كما دعت إلى منع “جوجل” من الدخول في “اتفاقيات استبعاد” مع أطراف ثالثة مثل “آبل” و”سامسونج”، ومنعها من إعطاء خدمة البحث الخاصة بها الأفضلية ضمن منتجاتها الأخرى، وكذلك التأكد من أنها لا تقضي على التهديدات التنافسية الناشئة عبر عمليات الاستحواذ والاستثمار.

 

تطور الحصة السوقية العالمية لأبرز تطبيقات التصفح خلال آخر 15 عامًا (مقربة)

المتصفح

الحصة في عام 2009 (%)

الحصة في عام 2024 (%)

إنترنت إكسبلورر

63.6

أقل من 1

فايرفوكس

28.0

2.60

كروم

1.50

66.8

سفاري

2.90

18.3

– بلغت عائدات الإعلانات على محركات البحث 49.4 مليار دولار في الربع الثالث للشركة الأم “ألفابت”، وهو ما يمثل ثلاثة أرباع إجمالي مبيعات الإعلانات لها في تلك الفترة.

 

– يمثل طلب وزارة العدل المحاولة الأكثر صرامة من قبل الحكومة الأمريكية لتفكيك شركة تكنولوجيا منذ قضيتها في مكافحة الاحتكار ضد مايكروسوفت، والتي انتهت في عام 2001.

 

– بالإضافة إلى بيع “كروم”، طالبت الوزارة بإجبار الشركة على بيع أعمال نظام التشغيل “أندرويد”، وقالت إن ذلك من شأنه أيضًا أن يساعد في استعادة المنافسة، رغم إقرارها بأن هذا الإجراء قد يثير اعتراضات كبيرة من “جوجل” أو المشاركين الآخرين في السوق.

 

تطور الحصة السوقية العالمية لأنظمة تشغيل الجوال آخر 15 عامًا (مقربة)

نظام التشغيل

الحصة في عام 2009 (%)

الحصة في عام 2024 (%)

سيمبيان

37.0

0

أندرويد

1.70

71.6

آي أو إس

37.5

27.6

أخرى

17.2

0.20

– يزعم مهندسون سابقون في الشركة، أن “جوجل” منعت تقديم ميزات سهلة الاستخدام لأنها كانت ستضر بإيرادات الإعلانات، والتي تعتمد على الأشخاص الذين ينقرون على الإعلانات في نتائج البحث الخاصة بهم.

 

هل ينهي البيع مخاوف الاحتكار؟

 

– قالت وزارة العدل ومسؤولو مكافحة الاحتكار، إن سلوك “جوجل” غير القانوني حرم المنافسين ليس فقط من “قنوات التوزيع” المهمة، ولكن أيضًا من شركاء التوزيع الذين باستطاعتهم تمكين المنافسين من الدخول إلى الأسواق بطرق جديدة ومبتكرة.

 

– ذكر ممثلو الادعاء أمام القضاء، هذا الأسبوع، أن “جوجل” تحتكر أسواق خوادم إعلانات الناشرين وشبكات إعلانات المعلنين وتحاول الهيمنة على سوق الإعلانات بين المشترين والبائعين، وطلبوا من المحكمة محاسبة الشركة على “سلوكها الضار بالمنافسة وإفسادها قواعد العمل”.

 

– في حين قالت الشركة إن الادعاء يستغل القانون لإجبارها على تقبل خدمات المنافسين، شهد بعض الناشرين بأنهم لم يتمكنوا من الابتعاد عن “جوجل” حتى عندما قدمت خدمات لا تعجبهم، لأنه لا توجد طريقة أخرى لتلبية الطلب الإعلاني.

 

– رغم أن قرار المحكمة يلوح في الأفق، لا يزال أمام “جوجل” فرصة للاستئناف ما يؤخر تنفيذ أمر القاضي لسنوات، وهو أمر متوقع بعدما وصفت “جوجل” طلبات الحكومة بأنها “مذهلة” و”متطرفة” و”أجندة تدخل جذرية وواسعة النطاق بشكل كبير”.

 

– يقول “جييرمو راوخ”، الرئيس التنفيذي لـ “فيرسيل”، وهي شركة تطور أدوات لمواقع الويب، والتي تعتمد على حركة البحث وعائدات الإعلانات التي تسيطر عليها “جوجل”: “أستطيع أن أرى فوائد قوية في إعادة ’كروم‘ إلى أيدي المجتمع، هذا سيكون أمرًا صحيًا”.

 

– فيما قال “غابرييل وينبرغ”، الرئيس التنفيذي لمحرك البحث المنافس “DuckDuckGo”، إن الحلول التي اقترحتها الحكومة “ستحرر سوق البحث من قبضة ’جوجل‘ غير القانونية وتطلق العنان لعصر جديد من الإبداع والاستثمار والمنافسة”.

 

– لكن المحللين الماليين والقانونيين أعربوا عن شكوكهم حول مدى فاعلية مقترحات الحكومة، فيما حذر مسؤولون سابقون في “جوجل” من أن المستخدمين في النهاية سيذهبون إلى أفضل منتج، والذي يعتقدون أنه سيكون أداة شبيهة بـ “شات جي بي تي”.

 

 

ماذا يعني إجبارها على البيع؟

 

– قال “مانديب سينغ”، محلل “بلومبرج إنتليجنس”، إنه في حال إقرار المحكمة لقرار البيع، فإن أعمال “كروم” ستصل قيمتها إلى ما بين 15 و20 مليار دولار، نظرًا لأن التطبيق لديه أكثر من 3 مليارات مستخدم نشط شهريًا، وهذا يعني أن المشترين المحتملين ليسوا كُثر.

 

– بالنسبة للمستخدمين، فقد يستمتعون بوصول أسهل لخدمات مثل “جي ميل” في حال بيع “كروم”، ويمكن أن يغير ذلك سياسة تعقب التصفح عبر الويب وطريقة جمع التطبيق للبيانات التي تشكل شريان حياة لأعماله.

 

– يمكن للمالك الجديد أيضًا تغيير مجموعة من ميزات المنتج، بداية من مظهر المتصفح إلى طريقة عرض النتائج أو الطريقة التي تعلن بها الشركات عليه، وبالنسبة للمعلنين، فإن القدرة على رؤية أكبر قدر ممكن من التفاصيل حول اهتمامات المستخدم ستتأثر بفصل “كروم” عن “جوجل”.

 

– إذا تم بيعه في النهاية لشركة صغيرة نسبيًا، سيثير ذلك تساؤلًا حول ما إذا كان المالكون الجدد سيكون لديهم الموارد لمواصلة الاستثمار في المنتج وما إذا كانت تجربة المستخدم قد تتدهور أو تتفوق عليها الشركات المنافسة، وإذا بيع لشركة كبيرة، فليس من الواضح كيف ستضمن الحكومة ألا يتحول لأداة احتكار مرة أخرى.

 

– يقوم تطبيق “كروم” بالكامل تقريبًا على “كروميوم”، وهو برنامج التصفح المجاني مفتوح المصدر والمتاح للترخيص لصالح الشركات الأخرى، وتعتمد عليه متصفحات أخرى مثل “مايكروسوفت إيدج” ومتصفح “أمازون سيلك” و”أوبرا” و”يانديكس” و”كيو كيو”، وغيرها.

 

– يعد مشروع “كروميوم” عملية تعاونية غير ربحية، لكنه يدار ويمول من قبل “جوجل”، وخسارة الشركة لأعمال “كروم” تعني على الأرجح سحب مواردها من المشروع، إما بغلقه أو جعله مسؤولية غير رسمية لمشتر جديد.

 

 

هل حقًا أمريكا ضد شركاتها الاحتكارية؟

 

– رغم أن الحكومة الأمريكية تحركت بعد عقود لإنهاء ظاهرة الاحتكار عبر سلسلة من التشريعات وإجراءات مثل تأسيس لجنة التجارة الفيدرالية، فإن ذلك لم يحد من التفاوت في بناء الثروات، وهذا ما يتضح من نموذجي “كارنيجي” و”روكفلر”، واللذين حصدا ثروة طائلة رغم كل شيء.

 

– يرى بعض المؤرخين، أن الولايات المتحدة تعيش بالفعل في “العصر المذهب الثاني” الآن، نظرًا للتفاوت الشديد في الدخل الذي كان سمة المجتمع الأمريكي في أواخر القرن التاسع عشر.

 

– رغم أن المحللين القانونيين يقولون إن قواعد “شيرمان” يمكن تطبيقها في أي زمن على أي صناعة، يبدو أن استجابة الحكومة الأمريكية نفسها، لم تعد بنفس القسوة التي تعاملت بها مع “ستاندرد أويل”.

 

– في عام 2001، وبعد سنوات من الاحتقان مع الإدارة الأمريكية، صدر قرار قضائي بتقسيم أعمال “مايكروسوفت” إلى شركتين (في قضية كانت مرتبطة أيضًا بالمتصفح ونظام التشغيل)، لكن بعد استئناف الحكم صدر قرار نهائي بعقوبة مخففة سمحت بالتوصل إلى تسوية مع الحكومة.

 

– قد يكون هذا هو الواقع الجديد في مواجهة عمالقة التكنولوجيا، والذين تتعامل معهم الحكومة الأمريكية بحذر شديد، خشية أن يتسبب المساس بهم في خسارة الولايات المتحدة لهيمنتها في هذا القطاع الحيوي، خاصة في ظل التنافسية الشديدة مع الشركات الأجنبية عامة والصينية خاصة.

 

– قديمًا، تطلب الأمر عقود لشركات النفط والسكك الحديدية من أجل بناء قواعد احتكارية، لكن الآن، تتطور التكنولوجيا بشكل فائق السرعة، ويمكن لابتكار واحد الآن أن يضع شركة ما في محور اهتمام العالم، مثلما هو الحال مع “أوبن إيه آي” أو حتى “إنفيديا”.

 

 

– إلى جانب “جوجل”، تخوض الحكومة الأمريكية معارك مفتوحة ضد “آبل” و”ميتا” و”مايكروسوفت” و”أمازون”، هذا يعني أن الشركات الكبرى التي تشكل تقريبًا ثلث حجم الأسهم الأمريكية وتعادل قيمتها السوقية أكثر من نصف قيمة الاقتصاد (16.5 تريليون دولار)، مهددة بخطر قد يترتب عليه فوضى عارمة بالأسواق.

 

– في حين كان تاريخ الولايات المتحدة شاهدًا على عمليات تفكيك قاسية للشركات، تواجه الحكومة الآن معضلة يصعب التعامل معها، ففي حين تستعين بنفس الأدوات التي طورتها قبل قرن، لا يمكنها إعادة تطبيق نفس الحلول الجذرية، وإلا وضعت ريادتها العالمية لصناعة العصر واستقرارها الاقتصادي على المحك.

 

– هذا يترك واشنطن أمام خيار وحيد، وهو التوصل إلى تسوية على طريقة “مايكروسوفت” قبل عقدين، ما يعني بطبيعة الحال استمرار نفس السلوك وبقاء الوضع المهيمن لهذه الشركات في السوق العالمي وإعادة إنتاج نفس السيناريوهات.. فماذا ستختار في ظل الإدارة الشعبوية القادمة المكونة من رجال الأعمال؟

 

المصادر: أرقام- إنفستوبيديا- بريتانيكا- ياهو فايننس- لوف موني- كلية هارفارد للأعمال- مكتبة الكونجرس- هيستوري سنترال- معهد السوق المفتوح- سي إن بي سي- ستيت كونتر- ستاتيستا- رويترز- وايرد- بلومبرج- آي نيوز- مجلة إنتلجينسر- آد إكستشنجر- شات جي بي تي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى