الديون الدولية لعنة تطارد الاقتصادات الضعيفة .. التضخم والاضطرابات أبرز تأثيراتها
عند تعرض الدول للانهيار، قد لا تكون الحروب أو الكوارث الطبيعية دائمًا هي السبب، فالأرقام أيضًا قد تسهم في مثل هذا الأمر، إذ إن ثِقل الديون لدى بعض البلدان يضر باقتصاداتها، ويقيد طموحات شعوبها، ويؤدي بها أحيانًا لحافة الهاوية.
وفي عالم تتسارع فيه وتيرة الاقتراض، تتحول الديون الدولية في الكثير من الأحيان إلى سلاح قاتل بدلًا من أن تكون أداة للإنقاذ، وتصبح قيدًا خانقًا يجرّ الاقتصادات الضعيفة نحو التداعي والانهيار.
وأدت الأزمات المتتالية التي يشهدها العالم، فضلًا عن الأداء البطيء وغير المتوازن للاقتصاد الدولي، إلى استمرار نمو الدين العام العالمي بوتيرة سريعة.
ولعل التساؤل المتعلق “كيف يمكن لدولة أن تطمح إلى النمو بينما تعيش تحت رحمة دائنيها؟“ المستوحى من كتاب “اقتصاد الفوضى” للكاتب الاقتصادي “جوزيف ستيغليتز”، يعكس الواقع القاسي الذي تعيشه العديد من الدول النامية.
وتشكل الديون الدولية تحديًا كبيرًا للاقتصادات الضعيفة، إذ تؤدي إلى تأثيرات معقدة ومتعددة الجوانب تطول التنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي والسياسي.
ومع تزايد الاعتماد على القروض الدولية في تمويل المشاريع التنموية وسد العجز المالي، يجب على إدارات الدول التي تسعى للدخول في عقود من هذه النوعية الإدراك الجيد لتداعيات تلك الديون، وكيف يمكن إدارتها لضمان استدامة اقتصادها.
وأشار تقرير البنك الدولي الصادر الأسبوع الماضي إلى أنه عندما ينمو الدين العام بشكل مفرط أو سريع، فإنه يصبح عبئًا ثقيلًا، خاصة بالنسبة للدول النامية، مسلطًا الضوء على الارتفاع المقلق في الدين العام العالمي.
وذكر أن ارتفاع أسعار الفائدة العالمية منذ عام 2022 أدى إلى زيادة الضغط على الميزانيات العامة في الدول النامية، ما جعل نسب نمو الإنفاق على أعباء الديون في نحو ثلث تلك الدول تفوق نسب نمو النفقات العامة الأساسية مثل الصحة والتعليم والعمل المناخي.
حجم الدين العام في العالم منذ عام 2016 |
||
السنة |
|
حجم الدين العام العالمي (بالتريليون دولار) |
2016 |
|
64 |
2017 |
|
67 |
2018 |
|
71 |
2019 |
|
73 |
2020 |
|
84 |
2021 |
|
92 |
2022 |
|
92 |
2023 |
|
97 |
وبحسب تقرير البنك الدولي، فإن الدين العام الذي يتألف من الدين العام المحلي والخارجي للحكومات، ارتفع ليسجل 97 تريليون دولار أمريكي في عام 2023، بزيادة قدرها 5.6 تريليون دولار على العام السابق.
الأسباب وراء استدانة الدول
تلجأ العديد من الدول إلى ما يعرف بالديون الدولية، وهي قروض تحصل عليها من مؤسسات مالية دولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، أو من دول أخرى، أو من الأسواق المالية العالمية.
وتسعى عدة دول للحصول على هذه القروض لأسباب عديدة، في مقدمتها سد عجز الموازنات الحكومية، وتمويل مشاريع البنية التحتية والتنمية الاقتصادية، ودعم القطاعات الحيوية بها مثل الصحة والتعليم.
لكن ارتفاع حجم هذه الديون وتراكمها يؤديان في نهاية المطاف إلى نتيجة عكسية قد تعصف أحيانًا باقتصاد تلك الدول جراء زيادة أعباء خدمة الدين، ما يضع الدول المقترضة أمام تحديات خطيرة.
ويفاقم من هذا الأمر ارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية طويلة الأجل وانخفاض النمو، إذ إن ارتفاع أسعار الفائدة بشكل مستمر يرفع من تكلفة خدمة الديون، ما يزيد من الضغوط المالية ويفرض مخاطر على الاستقرار المالي في الدول النامية.
أعلى الدول مديونية للبنك الدولي (حتى نهاية عام 2022) |
||||
الترتيب |
|
الدولة |
|
حجم الدين (بالمليار دولار أمريكي) |
1 |
|
الهند |
|
38.2 |
2 |
|
إندونيسيا |
|
20.6 |
3 |
|
بنجلاديش |
|
18.2 |
4 |
|
باكستان |
|
18.1 |
5 |
|
الصين |
|
16.1 |
6 |
|
البرازيل |
|
16 |
7 |
|
المكسيك |
|
15.6 |
8 |
|
كولومبيا |
|
15.1 |
9 |
|
فيتنام |
|
15.1 |
10 |
|
نيجيريا |
|
13.9 |
ومن أبرز المخاطر التي تواجهها الدول النامية جراء ارتفاع الديون الدولية تآكل الموارد المالية المتاحة لتمويل البرامج الاجتماعية، والضغط على أسعار صرف العملة المحلية، ما يُضعف قيمتها أمام العملات الدولية الأخرى وعلى رأسها الدولار الأمريكي.
في الوقت نفسه تواجه تلك الدول انخفاض الجاذبية الاستثمارية لديها نتيجة المخاوف من تخلفها عن سداد الديون، وبالتالي تفاقم المشكلات الاقتصادية التي قد تؤدي لفقدان جزئي أو كلي لتلك الاستثمارات.
وفي أكتوبر الماضي حذر صندوق النقد الدولي من أن الدين العام العالمي مرتفع للغاية، ومن المتوقع أن يتجاوز 100 تريليون دولار، أو 93% من إجمالي الناتج المحلي العالمي في نهاية هذا العام، وسيقترب من 100% من إجمالي الناتج المحلي بحلول عام 2030.
وفي عام 2022، بلغ الدين العام في إفريقيا 1.8 تريليون دولار أمريكي، وزاد دين إفريقيا بنسبة 183% منذ عام 2010، وهو معدل أعلى بنحو أربعة أضعاف من معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي بالدولار.
وما يقرب من 40% من هذا الدين مستحَق على بلدان في شمال إفريقيا، التي واجهت العديد منها ارتفاع أسعار المواد الغذائية وانخفاض توافر السلع بسبب الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا.
تأثيرات الديون الدولية على الاقتصادات الضعيفة
تمتد تأثيرات الديون في الدول النامية على مختلف القطاعات الحيوية بها، ولا تقتصر فقط على التأثيرات الاقتصادية.
إذ إنه مع ارتفاع أعباء خدمة الدين، تخصص الدول النامية نسبة كبيرة من إيراداتها لسداد الفوائد وأقساط الديون، ما يحد من قدرتها على الاستثمار في التنمية الاقتصادية.
كما يؤدي ارتفاع معدلات الاقتراض الخارجي إلى زيادة الضغوط على العملات المحلية، ما يؤدي إلى انخفاض قيمتها وارتفاع معدلات التضخم، وبالتالي يواجه مواطنو تلك الدول زيادة كبيرة في أسعار السلع والخدمات.
ومن بين المشكلات التي تواجه الدول النامية المثقلة بالديون، تراجع التصنيف الائتماني من قِبل مؤسسات التصنيف الدولية، ما يزيد من تكلفة الاقتراض ويقلل من قدرتها على جذب الاستثمارات الأجنبية.
تلك التأثيرات الاقتصادية تنتقل إلى جوانب أخرى مثل خفض الإنفاق الاجتماعي، حيث تضطر الحكومات إلى تقليص الإنفاق على الصحة والتعليم والخدمات الأساسية للوفاء بالتزاماتها تجاه الدائنين.
كما يؤدي تقليص الإنفاق الحكومي إلى تراجع مستوى المعيشة وارتفاع معدلات البطالة والفقر.
ونتيجة لهذا كله قد تواجه تلك الدول اضطرابات سياسية نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الناتج عن أعباء الديون، وقد يتسبب أحيانًا في اندلاع احتجاجات شعبية، الأمر الذي يهدد استقرار الحكومات.
وفي حالات العجز عن السداد، قد تضطر الدول إلى تقديم تنازلات سياسية واقتصادية للدائنين أو المؤسسات الدولية، ما يُضعف سيادتها.
فعلى سبيل المثال شهدت سريلانكا أزمة اقتصادية حادة في عام 2022، حيث أعلنت عجزها عن سداد ديونها الخارجية البالغة 51 مليار دولار، وأدى ذلك إلى نقص حاد في الوقود والمواد الغذائية، وأثار احتجاجات واسعة النطاق.
كما واجهت الحكومة ضغوطًا شديدة من الدائنين، بما في ذلك الصين والهند، لإعادة هيكلة ديونها.
زامبيا هي الأخرى واجهت موقفًا مشابهًا عندما أصبحت أول دولة إفريقية تتخلف عن سداد ديونها خلال جائحة كورونا، حيث بلغت ديونها الخارجية أكثر من 12 مليار دولار.
وتسبب ذلك في تدهور الاقتصاد وزيادة معدلات الفقر، وصعوبات في جذب استثمارات جديدة نتيجة تراجع الثقة في الاقتصاد، وتدخل صندوق النقد الدولي لإعادة هيكلة الديون وتقديم المساعدات الطارئة.
وفي عام 2020 واجه لبنان أزمة ديون خانقة بلغت نحو 100 مليار دولار (أكثر من 150% من الناتج المحلي الإجمالي)، ما أدى إلى إعلان الدولة التخلف عن سداد ديونها الخارجية لأول مرة في تاريخها.
انهيار قيمة العملة المحلية وحدوث تضخم مفرط، وتدهور كبير في الخدمات العامة والبنى التحتية، مع ارتفاع معدلات الفقر والبطالة إلى مستويات قياسية.
كما دخلت الأرجنتين في أزمة ديون متكررة، حيث اقترضت أكثر من 57 مليار دولار من صندوق النقد الدولي في 2018، وهو أكبر قرض في تاريخ المؤسسة.
ومع ذلك واجهت البلاد صعوبة في السداد نتيجة ارتفاع التضخم وانخفاض قيمة العملة، كما أثارت السياسات التقشفية غضب السكان، ما أدى إلى احتجاجات واسعة.
باكستان أيضًا عانت أزمة ديون خارجية بلغت نحو 130 مليار دولار في 2023، ما دفعها إلى حافة الإفلاس، وأدت تلك الأزمة لارتفاع مستويات انقطاع الكهرباء ونقص حاد في الوقود والغذاء، فيما انخفضت احتياطيات النقد الأجنبي إلى مستويات حرجة.
الأسباب الجذرية للديون الدولية
ترجع زيادة حجم الديون الدولية في الدول النامية لعدة أسباب، ومن بينها سوء الإدارة الاقتصادية، إذا إن غياب التخطيط السليم والسياسات المالية الفعالة يؤدي إلى اعتماد مفرط على القروض.
كما أن الأزمات العالمية مثل جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا، أدت إلى تفاقم أزمة الديون لدى العديد من الدول جراء ارتفاع أسعار العديد من السلع التي كانت تقوم باستيرادها من الخارج، إضافة إلى تراجع العائدات وارتفاع تكاليف الاقتراض.
أيضًا تسببت الآثار المتعلقة بالتغيرات المناخية في مزيد من المعاناة الاقتصادية للدول النامية، وتعرض العديد منها بالفعل لموجات متطرفة من الكوارث طبيعية مثل الفيضانات والجفاف جراء تلك التغيرات.
وبعكس الدول المتقدمة التي في الغالب لديها ملاءة مالية تمكنها من تخطي آثار مثل تلك الكوارث، تضطر الدول النامية إلى اقتراض أموال إضافية في إطار جهودها للتعافي وإعادة الإعمار.
ورغم معاناة الدول النامية جراء تلك الديون، فإنها تستطيع تجاوز هذا الأمر إذا قدّم الدائنون والمؤسسات المالية الدولية ترتيبات تمكّنها من تقسيط الديون أو تقليص الفوائد المترتبة عليها.
كما يجب أن تسعى الدول الدائنة إلى وضع سياسات تدعم الاقتصادات الضعيفة بدلًا من فرض شروط قاسية، مثل مبادرات خفض الديون أو تأجيل السداد.
ويطالب العديد من الخبراء والمنظمات الدولية بضرورة تحقيق عدالة مالية على مستوى العالم من خلال تقليل الاعتماد على القروض بشروط مرهقة، وزيادة التمويلات الميسرة، وتبني سياسات تعزز التنمية الاقتصادية المستدامة في الدول الضعيفة.
كما يجب على الدول النامية العمل على توجيه القروض نحو مشاريع تنموية تسهم في تعزيز الإنتاجية وزيادة العائدات الحكومية على المدى الطويل، والسعي في الوقت نفسه لتعزيز الإيرادات المحلية بهدف تقليل اعتمادها على القروض الخارجية.
وفي نهاية المطاف تُعَد الديون الدولية سيفًا ذا حدين، وقد تتحول من وسيلة لتمويل المشاريع التنموية إلى عبء يُثقِل كاهل الاقتصادات الضعيفة، ما لم تُدَر بحكمة.
ويكمن الحل في تحقيق توازن بين الاقتراض والتنمية، وتبني سياسات اقتصادية مستدامة تعزز من قدرة هذه الدول على الوفاء بالتزاماتها وتحقيق النمو الاقتصادي المستدام.
المصادر: أرقام- صندوق النقد الدولي- البنك الدولي- أونكتاد- رويترز- سي إن بي سي- وكالة الأنباء الفرنسية