معركة ميدواي .. عندما تتحول التكنولوجيا إلى سلاح يهدد الجميع
خاضت القوات الأمريكية والأسترالية حربًا ضروسًا، في خضم الحرب العالمية الثانية، ضد بحرية الإمبراطورية اليابانية التي عرفت بأنها “منيعة” في منطقة جنوب المحيط الهادئ، فيما كانت تحاول الولايات المتحدة لملمة جراحها بعد الهجوم الكاسح على قواتها في قاعدة بيرل هاربر في ديسمبر من عام 1941.
وبعد 6 أشهر من الهجوم، وتحديدًا في مايو عام 1942، استطاع الخبراء الأمريكيون الذين اتخذوا من أحد القباء المعزولة في قاعدة بيرل هاربر مركزًا لعملياتهم، اعتراض وفك رموز رسائل القوات اليابانية، والتي كشفت عن استعداد طوكيو لهجوم آخر ضخم وربما أكثر ضررًا.
وتمكنت هذه الوحدة من اعتراض وفك رموز رسائل الراديو اليابانية “جيه إن- 25 بي” في خلال ساعات من إرسالها، واستطاعت رصد رسائل الأميرال “إيسوروكو ياماموتو”، العقل المدبر لهجوم بيرل هاربر، والذي كان يخطط للهجوم الجديد باستخدام العديد من القطع البحرية.
خلصت الوحدة إلى أن اليابانيين يريدون الهجوم على القوات الأمريكية في ميدواي، لكن القيادة في واشنطن اختلفت مع الخبراء بشأن الهدف الياباني الذي حُدد بالرمز “AF“، فقرر فريق الخبراء تبديد الشكوك عبر خدعة بسيطة.
أرسل فريق الخبراء رسالة – عبر غواصة – إلى القاعدة الأمريكية في ميدواي يأمرون فيها الموظفين هناك باستخدام الراديو لإخبار القوات في بيرل هاربر بأن أجهزة تبخير المياه المالحة تعطلت لديهم.
وبعد يومين، اعترضوا رسالة يابانية تفيد بأن “AF” نفد منها الماء العذب، وبذلك تأكدوا يقينًا من أن الهدف التالي لطوكيو هو قاعدة ميدواي، وبنهاية مايو، استطاعوا الوصول إلى تفاصيل جديدة حول خطط “ياماموتو” بما في ذلك ترتيب البحرية الإمبراطورية للمعركة بالكامل تقريبًا.
وبفضل هذه المعلومات، تمكن الأمريكيون من وضع استراتيجية فاجأت اليابانيين وألحقت بهم الهزيمة، ورغم أن حرب المحيط الهادئ استمرت ثلاث سنوات أخرى، لكن انتصار الحلفاء في ميدواي كان بمثابة نقطة تحول حاسمة.
لم يكن فك الشفرات وحده سبب الانتصار المذهل للحلفاء في معركة ميدواي التي وقعت بين الرابع والسابع من يونيو عام 1942، ولكن أيضًا عنصر الوقت الذي استند فيه الأمريكيون إلى تقنيات الاتصال الحديثة نسبيًا آنذاك، وكذلك اعتماد العدو على أدوات اتصال مماثلة قابلة للاعتراض.
أي خلل في التواصل أو موثوقية التقنيات كان يمكن أن يؤدي إلى خسائر كارثية، أو فقدان أحد العناصر الجوهرية للاستراتيجية الدفاعية، تخيل مثلًا عطلًا على طريقة التوقف المفاجئ لخدمات منصات التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي والبحث التي تضرب الإنترنت بشكل متكرر هذه الأيام.
في عالمنا الرقمي اليوم، قد يؤدي أي عطل كبير إلى آثار مشابهة لما كان يمكن أن يحدث لو فشلت أمريكا – لأسباب تقنية – في استخدام المعلومات التي حصلت عليها في ميدواي، أو ما حدث بالفعل لليابان بسبب عدم قدرتها على تشغيل تقنياتها بشكل لائق.
عزل المليارات
– مساء الأربعاء الموافق 11 ديسمبر، تعطلت بشكل مفاجئ جميع خدمات منصات التواصل الاجتماعي وتطبيقات المراسلة التابعة لشركة “ميتا”، التي يستخدمها مجتمعة أكثر من 3 مليارات شخص، وشمل ذلك “فيسبوك” و”إنستجرام” و”ثريدز” و”واتساب” و”ماسنجر”.
– كانت الأعطال تعصف بمنصات الشركة في أغلب المناطق من العالم، حيث ظهرت رسالة “خطأ” عندما حاول المستخدمون الدخول إلى حساباتهم، فيما كانت الخدمة بطيئة للغاية في مناطق أخرى، ووفقًا لبيانات “داون ديتكتور” شكا مئات الآلاف من تعطل الخدمات لديهم آنذاك.
– من الساخر في الأمر، أن “ميتا” اضطرت لاستخدام حسابها على موقع “إكس” للإعلان عن وجود “خلل فني يؤثر على قدرة بعض المستخدمين في الوصول إلى تطبيقاتها”، مؤكدة أنها تعمل على إعادة الأمور إلى طبيعتها في أسرع وقت.
– أثار هذا الإعلان سخرية واسعة من قبل مستخدمي “إكس” تجاه “ميتا”، حيث ردوا عليها بصور وعبارات تسخر من ضعف البنية التحتية والخوادم الخاصة بها، وتدعي تفوق “إكس” وغيرها من المنصات مالكة “فيسبوك”، تمامًا مثلما حدث عندما تعطلت منصات الشركة في مارس الماضي.
– بلغ العطل ذروته قرب الساعة التاسعة مساءً بتوقيت مكة المكرمة، واستغرق إجمالًا نحو 5 ساعات تقريبًا حتى أعلنت الشركة في وقت مبكر من صباح الخميس، نجاحها في معالجة “99%” من المشكلة وإجراء فحوصات أخيرة.
– هذا العطل الواسع، جاء بعد آخر مماثل ضرب منصات الشركة في مارس الماضي واستمر ساعتين، لكن الخلل الفني الأكبر كان في أكتوبر عام 2021، عندما اضطر مؤسس “ميتا”، “مارك زوكربيرج”، للاعتذار بعده وهبط سهم الشركة بشكل ملحوظ، بعد توقف شبه تام تقريبًا لمنصة “فيسبوك” وأخواتها، والذي استمر 6 ساعات.
– الأكثر غرابة في الأمر، أنه بعد وقت قليل من هذا العطل، تعرضت خدمات شركة “أوبن إيه آي”، بما في ذلك تطبيق “شات جي بي تي” و”سورا” وواجهة برمجة التطبيقات الخاصة بها، لخلل فني واسع النطاق والذي استمر نحو 6 ساعات تقريبًا.
– “أوبن إيه آي” التي تمثل جوهرة التاج في صناعة الذكاء الاصطناعي الآن، يستخدم تطبيقها “شات جي بي تي” نحو 300 مليون شخص أسبوعيًا، إضافة إلى مئات الآلاف من الشركات والمطورين الذين يستخدمون خدماتها الأخرى.
ماذا حدث؟
– ما حدث مع منصات “ميتا” و”أوبن إيه آي” لم يكن استهدافًا عسكريًا أو مؤامرة محكمة التدبير، وإنما تكرار لأعطال واضطرابات فنية آخذة في التزايد مؤخرًا، ومع ذلك، فإن الخسائر الناجمة عنها قد لا تقل أهمية عن خسائر المعارك الحربية.
– بالنسبة لـ “شات جي بي تي”، كانت المشكلة أقل غموضًا، فإذا حاولت استخدام التطبيق في ذلك الوقت، ستظهر لك رسالة “غير متاح حاليًا.. لقد حددنا المشكلة ونعمل على إصلاحها”، وقال مطورو الشركة لاحقًا، إنهم أجروا تعديلا في الإعدادات تسبب في توقف بعض الخوادم عن العمل.
– كانت “ميتا” أقل تفصيلًا بشأن العطل الذي تعرضت له، والذي شمل منتجاتها التجارية أيضًا، وأثر على خاصية تسجيل الدخول باستخدام “فيسبوك”، والتي تسمح للمستخدمين بتسجيل الدخول إلى مواقع الطرف الثالث باستخدام حساباتهم على منصة التواصل الاجتماعي.
– نظرًا لنطاق الخلل الواسع، يشير هذا إلى أن العطل أصاب شيئًا تعتمد عليه جميع خدمات “ميتا”، والتي بدونها لا يمكن للخدمات أن تعمل، ومثل هذه الأنواع من الأعطال نادرة، وذلك لأن منصات الإنترنت الرئيسية مصممة لتكون موثوقة للغاية.
– شهد عام 2024 العديد من حالات تعطل الخدمات المتصلة بالإنترنت، خاصة تلك ذات الشعبية الواسعة، مثل “ميتا” و”مايكروسوفت”، ولعل العطل الذي أصاب نظام “ويندوز” وتسببت فيه شركة الأمن السيبراني “كراود سترايك” كان دليلًا على كيف يمكن للشبكة العنكبوتية أن تشل العالم بسبب خطأ بسيط.
– في يوليو الماضي، تفاجأ مستخدمو أنظمة “ويندوز” حول العالم بتعطل ملايين الحواسيب والخوادم، ما تسبب في توقف أعمال البنوك والرعاية الصحية وحركة الطيران وشبكات التلفزيون والمتاجر والقطارات والفنادق وغيرها، في “أكبر عطل تقني لأنظمة تكنولوجيا المعلومات في التاريخ”.
– صحيح أن الانهيار التقني لمنصات التواصل الاجتماعي وأدوات الذكاء الاصطناعي والبرمجيات الحيوية مثل أنظمة التشغيل، لا يساوي شيئًا مقارنة بخسارة آلاف الأرواح، لكن الخسائر المادية الناجمة عنه تعد مسألة حياة أو موت بالنسبة للكثيرين ناهيك عن تداعياتها الاقتصادية.
ما خطورة هذه الأعطال؟
– وفقًا لبيانات شركة “بارامتريكس”، فإن العطل الذي تسببت فيه “كراود سترايك” تسبب في خسائر مالية مباشرة لا تقل عن 5.40 مليار دولار لأكبر 500 شركة في قائمة “فورتشن”، باستثناء “مايكروسوفت” نفسها، وهذا تقدير متحفظ لا يضم الكثير من الأفراد والشركات المتضررة.
– قدرت وكالة “فيتش” حجم الخسائر “المؤمن عليها فقط” بما يتراوح بين 5 مليارات و9 مليارات دولار، ومع ذلك، قد تكون الخسائر الفعلية أكبر وأوسع نطاقًا، فعلى سبيل المثال، قالت شركة “دلتا إيرلاينز” إن العطل كلفها وحدها 550 مليون دولار.
– بالنسبة للعطل الذي ضرب “فيسبوك” في عام 2021، وكان سببه تغيير إعدادات الأنظمة الداخلية للشبكة، فقدرت شركة “نت بلوكس” لأمن الشبكات، الخسائر الاقتصادية العالمية بنحو مليار دولار أو 161.4 مليون دولار في الساعة الواحدة.
– أثر ذلك بشكل كبير على 10 ملايين علامة تجارية تستخدم منصات “ميتا” للترويج لمنتجاتها وخدماتها، وتشير تقديرات إلى أن الشركات التي تستخدم خدمات الإعلان الخاصة بـ “ميتا” شهدت انخفاضًا في المبيعات بنسبة تتراوح بين 30% إلى 70%، مقارنة بما كانت عليه قبل أسبوع من العطل.
– الأهم أن مثل هذه الأعطال تفقد المستخدمين الثقة، شيئًا فشيئًا، في نظام الشبكة العنكبوتية، الذي لم يعد يقل أهمية الآن عن النظام المالي العالمي تقريبًا، ويرى خبراء أنها تعكس هشاشة البنية التحتية للإنترنت وبعض الشركات الرئيسية، الأمر الذي يشجع القراصنة على تكثيف هجماتهم.
– أحد الدروس الرئيسية من عطل “كراود سترايك” هو أنه يجب إعادة هندسة برامج الأمان للعمل على ما يعرف بخاصية “عزل الخطأ”، بحيث تتكون الأنظمة كمجموعة من العناصر المنفصلة التي لا يمكن أن يتسبب فشل أحدها في انهيار النظام بأكمله.
– هذا هو السبب في تصميم السفن الحديثة بحيث تحتوي على مقصورات داخلية متعددة، مع آليات لمحاولة جعل كل مقصورة محكمة الغلق، فبهذه الطريقة، إذا اختُرق هيكل السفينة، لا يمكن للمياه أن تغمرها بأكملها.
– أيضًا يقول الخبراء أنه كلما حدث عطل (سواء لوسائل التواصل الاجتماعي أو برامج أخرى يتزايد الاعتماد عليها) فهو تذكير للشركات الصغيرة بأنها بحاجة إلى التأكد من عدم الاعتماد على منصة واحدة وأن لديها خطط طوارئ جاهزة.
– إن عطل “ميتا”، و”أوبن إيه آي”، هو تأكيد في الوقت المناسب بضرورة هندسة الأنظمة الحيوية لتعظيم موثوقيتها، بما في ذلك تقليل احتمالات الفشل المركزية، وتجنب تحويلها إلى سلاح في ظهر الاقتصاد العالمي أو أحد أطرافه.
– كما كانت الأدوات التقنية في معركة ميدواي نقطة تحول حاسمة لمسار الحرب العالمية الثانية، فإن الأعطال الحالية لأدوات الإنترنت تُمثل تهديدًا خطيرًا، قد تكون عواقبه كارثية، فإما أن تطوعه الحكومات والشركات لصالحها كما فعلت أمريكا، أو سيكون عليها تحمل العواقب كما حدث مع اليابان.
المصادر: أرقام- شات جي بي تي- بريتانيكا- هيستوري- سي إن بي سي- يو إس إيه توداي- بي بي سي- ذا كونفرزيشن- تك كرانش- فوربس- إيليت بزنس مجازين- أسوشيتد برس