مختارات اقتصادية

الشيطان يكمُن في التفاصيل .. كيف تكشف تلاعب الشركة ببياناتها المالية؟

«البيانات المالية للشركة تحكي قصة، وهذه القصة يجب أن تكون منطقية، لأنها إن لم تكن كذلك، فعلى الأغلب هي قصة مزيفة». هكذا يقول «دبليو ستيف ألبيرشت» الأستاذ بجامعة بريجام يونج الأمريكية والرئيس السابق لجمعية المحاسبة الأمريكية.
الغرض الأساسي من البيانات المالية هو تقديم معلومات صحيحة حول المركز المالي والأداء التشغيلي والتدفقات النقدية للشركة، وذلك لأن المستثمرين والدائنين والمؤسسات الحكومية جميعهم يتخذون قراراتهم المتعلقة بالشركة على أساس المعلومات المقدمة من قبلها في بياناتها المالية. تحديد مواطن الخلل الموجودة في البيانات المالية الخاصة بأي شركة والتي تثير شبهة الاحتيال تتطلب قدرة كبيرة على الملاحظة والتحليل. لكنك يجب أن تنظر أولاً إلى البيانات، لأنك إن لم تفعل سيكون مستحيلا كشف الاحتيال.
لكن لنفترض أنك نظرت إلى البيانات ودققت فيها، هل أنت كمستثمر أو كمحلل متأكد من تعرفك على أعراض الاحتيال؟ من الوارد جداً ألا تتمكن من ذلك، وخصوصاً إذا تم إخفاء آثار الجريمة ببراعة. لكن رغم ذلك، نجد أن أغلب حالات الاحتيال والتلاعب بالبيانات المالية الشهيرة ظهرت عليها أعراض مريبة كان من الممكن ملاحظتها بسهولة، لكنّ المحللين وشركات المراجعة والمستثمرين فشلوا ببساطة في التعرف على مواطن الشبهات الواضحة في تلك البيانات. واحدة من هذه الحالات، هي حادثة شركة «ذي بيست» الأمريكية التي كانت تنشط بمجال تنظيف السجاد والترميم، والتي سنرى كيف أنه على الرغم من أن بياناتها المالية تفضحها إلا أنها تمكنت من دخول البورصة الأمريكية وجمع ملايين الدولارات من المساهمين الذين خسروا كل أموالهم تقريباً، وكيف أن هذا حدث تحت سمع وبصر المراجعين والهيئات التنظيمية.
المحتال الصغير .. كيف خدع الجميع؟:- في التاسع عشر من مايو/أيار 1987 ذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال» أن شركة تدعى «ذي بيست» تتخذ من ولاية كاليفورنيا مقراً وقّعت عقد ترميم بقيمة 13.8 مليون دولار. وكان هذا أحدث مشاريع الشركة التي أسسها «باري مينكو» البالغ من العمر 16 عاماً في خريف 1982 كشركة تنظيف صغيرة. حققت «ذي بيست» نمواً هائلاً في الأرباح والإيرادات في سنواتها الأولى، ففي خلال السنوات الثلاث الممتدة بين عامي 1984 و1987 ارتفع صافي دخل الشركة من دون 200 ألف دولار إلى أكثر من 5 ملايين دولار عن عائدات قدرها 50 مليون دولار.
منذ اللحظة الأولى التي أسس فيها الشركة ويقوم «مينكو» بارتكاب عملية احتيال وراء أخرى، وكلما يجد نفسه محصوراً في الزاوية يتفنن في الحصول على تمويل خارجي. ففي البداية، كان يقترض الأموال على أساس البيانات المالية المضخمة للشركة. وعندما يستحق ذلك القرض، يذهب إلى بنك آخر ويقترض بنفس الطريقة، واستمر على هذه الحال، إلى أن نفذ تمويله المصرفي. وحينها خطرت على باله فكرة طرح الشركة إلى الاكتتاب العام.
الوضع المالي الحقيقي للشركة كان كارثياً، ولكنّ «مينكو» ومساعديه قاموا بإنشاء جبل من الوثائق الزائفة لخداع المدققين، وتركزت أنشطة التلاعب بالبيانات في بندي المبيعات والمشتريات والتي كانت معظمها وهمية.
تمكنت «ذي بيست» من تجاوز عملية التدقيق، ونجح «مينكو» في جمع ملايين الدولارات من المستثمرين في الاكتتاب العام مكنته من تغطية ديونه من عمليات الاحتيال السابقة، وأصبح «مينكو» والعديد من شركائه فجأة من المليونيرات. بحلول أواخر ربيع عام 1987، تجاوزت القيمة السوقية للمتداول من أسهم «ذي بيست» حوالي 100 مليون دولار، في حين بلغت القيمة السوقية الإجمالية للشركة نحو 200 مليون دولار.
من بين الأسباب التي زادت من ثقة المستثمرين في «ذي بيست» هو ترويج وسائل الإعلام الأمريكية لـ»مينكو» باعتباره مثالاً لما يمكن أن يحققه شباب أمريكا. ففي أثناء ظهوره مع المذيعة الأمريكية الشهيرة «أوبرا وينفري» في أبريل/نيسان 1987 دعا «مينكو» أقرانه من الشباب إلى «التفكير بشكل كبير» وشجعهم على تبني شعاره «السماء هي الحد».
لسوء حظ «مينكو» قام أحد الصحفيين بقسم التحقيقات بصحيفة «لوس أنجلوس تايمز» بالتحري عن نشاط الشركة ومؤسسيها، وقامت الصحيفة بنشر تحقيق تناولت فيه ماضي «مينكو» المشبوه، وبعدها بفترة وجيزة تم تعليق التداول على سهم «ذي بيست»، وانكشف أمر «مينكو» وشركته. بعد أقل من عامين من ظهوره مع «أوبرا» حُكِم على «مينكو» بالسجن 25 عاماً عقب إدانته في 57 تهمة تتعلق بتزوير البيانات المالية، وأشارت هيئة الادعاء إلى أن «مينكو» كلف مستثمري الشركة خسائر تقترب قيمتها من 100 مليون دولار. خلافاً لمعظم عمليات الاحتيال المالي المعروفة، وقعت حادثة «ذي بيست» تحت أعين لجنة الأوراق المالية والبورصات (SEC)، كما فشلت شركة محاماة كبيرة كانت تتمتع بسمعة في السوق – تم تغريمها لاحقاً ملايين الدولارات – في كشف خطة «مينكو» التي كانت غاية في الجرأة. انتبه للأرقام واقرأها بشكل صحيح:- يقول «جوزيف تي ويلز» رئيس جمعية فاحصي الاحتيال المعتمدين الأمريكية (ACFE) في دراسة له تحت عنوان «نسب غير منطقية»: إن التقنيات التحليلية الأساسية (التحليل الرأسي والأفقي وتحليل النسب المالية) ربما تكون قادرة على إعطاء المراجعين والمستثمرين بعض الأدلة حول النشاط المالي المشبوه للشركة. أي مستثمر لديه فهم جيد للنسب المالية ودلالاتها سيكتشف بسهولة أن أغلب الأرقام والنسب السابقة غير منطقية، وخصوصاً النسب التالية: نسبة التداول ونسبة الدين إلى حقوق الملكية والعائد على حقوق المساهمين.
إذا نظرنا مثلاً إلى نسبة التداول – والتي تقيس حجم النقد المتوافر لدى الشركة في الفترة الحالية – سنجد أن الشركة لا تمتلك أي «كاش» تقريباً في عام 1986 رغم إيراداتها القياسية!
سنجد أيضأ أن نسبة الديون إلى حقوق المساهمين ارتفعت فجأة في عام 1986 بنسبة 8600% مقارنة مع العام السابق، في حين أن العائد على حقوق المساهمين انخفض بنسبة تزيد على 75%. هذا من المستحيل أن تكون نسب نشاط تجاري حقيقية. عقب حادثة «ذي بيست» كانت هناك محاولات كثيرة لتطوير تقنيات تحليلية تساعد المدققين والمستثمرين على اكتشاف النشاط الاحتيالي. ومن بين هذه المحاولات ما يسمى «نموذج بينيش» الذي قدمه «مسعود بينيش» الأستاذ بجامعة إنديانا الأمريكية في مقال نشره في عام 1999 تحت عنوان «اكتشاف التلاعب بالأرباح». وفقاً لهذا النموذج، فإن الشركات غير المتلاعبة ببياناتها المالية تبلغ القيمة المتوسطة لمؤشر عدد الأيام التي تحتاجها لتحصيل المبيعات غير المسددة لديها 1.031، في حين أن الشركات المتلاعبة تبلغ القيمة المتوسطة للمؤشر لديها 1.465 وهو ما يمثل زيادة قدرها 42%.
لكن في حالة «ذي بيست» نجد أن قيمة المؤشر غاية في الضخامة والغرابة، حيث بلغت 177,622، وسبب هذا الاختلاف الهائل هو أنه في العام 1985 لم يكن لدى الشركة أي حسابات مستحقة، ولكن في العام 1986 بلغت قيمة ذلك البند لديها حوالي 700 ألف دولار.
ملاحظة: هذا المؤشر وغيره من المؤشرات التي يتضمنها نموذج «بينيش» لن يخبرك ما إذا كانت الشركة متورطة في الاحتيال المالي أو لا، بل هو في الحقيقة مصمم لتنبيهك بأن مخاطر التلاعب بالأرباح تكون أعلى إذا تجاوزت قيمه القيم الموجودة في النموذج.
على سبيل المثال، القفزة الهائلة التي شهدتها الحسابات المستحقة الخاصة بـ»ذي بيست» قد لا تكون ناجمة عن تلاعب مادي بهذا البند، ومن الممكن أن يكون سببها تساهل سياسات الائتمان لدى الشركة في العام الثاني مقارنة مع العام الأول. ووفقاً لـ»بينيش» نفسه، تعمل هذه المؤشرات كصافرات إنذار فيما يتراوح ما بين نصف إلى ثلاثة أرباع حالات الاحتيال.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى