اقتصاد دولي

كيف غيرت صدمات سلسلة التوريد وجه التجارة العالمية؟

كتب أسامة صالح

في خريف عام 2021 كانت صفوف من الحاويات مكدسة بلا حراك داخل ميناء فيليكسستو في سوفولك، إذ أدت قلة عدد سائقي الشاحنات إلى عدم تمكن البضائع من مغادرة أكبر ميناء حاويات في بريطانيا بالسرعة الكافية.

وأثارت هذه الأزمة آنذاك مخاوف في بريطانيا من أن الألعاب ومنتجات التجميل وغيرها من الهدايا لن تصل خلال الوقت المناسب قبل عيد الميلاد.

لكن سلسلة التوريد تكيفت مع الوضع وحولت شركات الشحن مسار السفن إلى موانئ أخرى، بما في ذلك ميناء فيلهلمسهافن في ألمانيا، ومن هناك نقلت سفن أصغر البضائع إلى موانئ أخرى في بريطانيا لتوزيع الحاويات بصورة أكثر توازناً عبر البلاد، وهكذا تم إنقاذ عيد الميلاد.

هذه الأزمة إلى جانب الزيادة في الإنفاق على السلع خلال الجائحة، وانسداد قناة السويس بسبب جنوح السفينة “إيفر غيفن”، والهجمات الأخيرة لمتمردي الحوثي في البحر الأحمر، سلطت الضوء على الترابط في شبكة الشحن العالمية.

فمنذ التسعينيات، كان إنتاج السلع القابلة للتداول مشروعاً عالمياً يعتمد على مرونة سلاسل التوريد، إذ يتم نقل نحو 80 في المئة من السلع المتداولة دولياً بواسطة سفن الحاويات، ومع ذلك تباطأ تقدم العولمة خلال الأعوام الأخيرة.

وقد جعلت سلسلة من الصدمات التي ضربت تدفق التجارة العالمية الشركات تدرك بصورة أكبر الأخطار المرتبطة بإنشاء سلاسل توريد تكون منتشرة جغرافياً ومعتمدة على نظام “في الوقت المناسب” للإنتاج.

لذا بدأت الدول والشركات في التوجه نحو الداخل، إذ تقوم الشركات بإعادة سلاسل التوريد إلى أقرب المواقع، وتقليل اعتمادها على الدول التي تعدها تهديدات سياسية أو عسكرية، مما يعيد تشكيل أنماط تخزين المنتجات لضمان توافرها خلال فترات الطلب الشديد.

وكانت جائحة كورونا من بين أكبر الصدمات التي ضربت سلاسل التوريد، فقد أغلقت الموانئ بصورة دورية لاحتواء تفشي الجائحة وتسببت حادثة انسداد قناة السويس بواسطة السفينة “إيفر غيفن” خلال عام 2021 بارتفاع حاد في كلف الشحن.

في حين أن التوترات الأخيرة في الشرق الأوسط جعلت المرور الآمن عبر البحر الأحمر شبه مستحيل، مما أجبر السفن على الالتفاف حول رأس الرجاء الصالح في جنوب أفريقيا، مما أدى إلى زيادة كبيرة في أوقات العبور.

ووفقاً لشركة “بروغيكت 44” وهي شركة بحثية تراقب تدفقات الشحن العالمية، زادت أوقات عبور الحاويات التي تسافر من الصين وجنوب شرقي آسيا إلى أوروبا والساحل الشرقي للولايات المتحدة بنحو 10 أيام في المتوسط منذ بدء هجمات الحوثيين في البحر الأحمر خلال شتاء عام 2023.

واستجابة لهذا الضغط المتزايد على شبكة الشحن الدولية يسعى تجار التجزئة إلى الحصول على المخزون في وقت مبكر.

تحول استراتيجي نحو التخزين الاستباقي

وقال المدير العام والشريك في مجموعة “بوسطن” الاستشارية بيتر جيمسون إلى الـ”تايمز” إن هناك “تحولاً استراتيجياً نحو التخزين الاستباقي واتخاذ نهج استباقي استجابة للدروس المستفادة من الاضطرابات السابقة، إذ أثرت التأخيرات والنقص بشدة على الربحية خلال مواسم الذروة”.

وأضاف جيمسون “هناك أيضاً ضرورة استراتيجية لإعادة التوريد في وقت مبكر، ففي ظل البيئة غير المستقرة اليوم فإن الشركات التي لا تخطط مسبقاً من خلال تأمين المخزون مبكراً تخاطر بمواجهة نقص في البضائع، وهذا صحيح بصورة خاصة خلال موسم العطلات الحرج”.

هذا الاندفاع المفاجئ من تجار التجزئة لشراء البضائع يمكن أن يتسبب واقعياً في حدوث الشيء الذي يحاولون تجنبه وهو النقص في المخزون.

ومن جانبه حذر الرئيس التنفيذي لشركة الشحن البحري الثانية على مستوى العالم أخيراً من أن الطلبات العالية لفترة الأعياد قد تزيد من تفاقم التأخيرات والازدحام في سلسلة التوريد العالمية، إذ قال الرئيس التنفيذي لشركة “إيه بي مولير  ميرسك” فنسنت كليرك، إلى الـ”فايننشال تايمز” في هذه المرحلة، الشيء الذي يمكن أن يزيد الأمور سوءاً في سلسلة التوريد العالمية هو هذا الاندفاع الكبير، إذ يبدأ الجميع في طلب كميات أكبر مما يحتاجون، مما يؤدي إلى تأثير السوط العكسي”.

وقال الرئيس التنفيذي لشركة “سي سولت” بول هايز وهي علامة تجارية للملابس تعمل في بريطانيا والولايات المتحدة، إن “الشركة طلبت المخزون مبكراً هذا العام لعيد الميلاد لتلبية توقعات العملاء عبر قنواتنا خلال فترة التحضير للموسم، نظراً إلى الوضع مع التأخيرات في البحر الأحمر في وقت سابق من هذا العام، وتوقعاً لمزيد من الاضطرابات عالمياً لبقية عام 2024”.

وأضاف أن “العلامة التجارية البريطانية لديها مستويات قياسية من المخزون في مراكز توزيعها استعداداً لفترة الذروة التجارية”.

وأشار هايز إلى أن الاضطرابات السياسية داخل بنغلاديش، التي تعد نقطة محورية في صناعة الملابس العالمية، قد تسبب في تأخر توصيل الملابس، مضيفاً “ستسهم مستويات المخزون المرتفعة لدينا أيضاً في تقليل الأخطار المحتملة على أعمالنا بسبب الاضطرابات المتوقعة في البلاد”.

في حين قال الرئيس التنفيذي لإحدى شركات الأزياء الكبيرة في بريطانيا فضل حجب هويته إن توزيع الشحن أصبح حالياً أصبح غير متوقع بصورة أكبر من أي وقت مضى، مضيفاً “لقد أضافت الاضطرابات الواسعة النطاق 10 أيام إلى أوقاتنا القيادية، وعلى ذلك تزايد عدم الموثوقية في تأكيد وصول المخزون على السفينة المحجوزة، والأهم من ذلك على الطريق المحجوز”. وتابع “إذا غيرت سفينتك مسارها فقد يضيف ذلك أسبوعاً آخر، لذا فالشركات التي تعمل قرب الموسم مثل الموضة السريعة ستشعر بلا شك بالأثر”.

الاعتماد المفرط على عدد محدود من الممرات المائية

وكان قد شهد اثنان من أكثر الممرات المائية ازدحاماً في العالم وهما قناتا بنما والسويس اضطرابات شديدة خلال الأعوام القليلة الماضية.

وعانت قناة بنما من مستويات مياه منخفضة تاريخياً بسبب الجفاف، مما يبرز الأخطار التي يشكلها تغير المناخ على نظام الشحن الدولي، وتعطلت قناة السويس بسبب السفينة العالقة “إيفر غيفن” خلال عام 2021، وهي الآن تستخدم بصورة أقل بسبب الهجمات الحوثية.

وتسلط هذه الاضطرابات الضوء على الأخطار الناتجة من الاعتماد المفرط على عدد محدود من الممرات المائية.

وقالت كبيرة محللي البيانات في “بروغيكت 44” جينا سلاغل “ما يجب أن نتذكره هو أنه بينما توفر هذه القنوات توفيراً كبيراً للوقت حتى من دونها يمكن للشركات أن تتكيف وتواصل تسليم البضائع”.

وأضافت “التغيير الأكبر سيكون في زمن النقل، وعلى رغم أن ذلك له تأثير فإن التكنولوجيا المحسنة في سلاسل التوريد تمكن الشركات من تعديل استراتيجيات الطلب، إما بالاعتماد بصورة أكبر على الموانئ على الساحل الغربي أو أخذ زمن النقل الإضافي في الاعتبار”.

الحمائية التجارية ورفع أسعار السلع

وخلال الأعوام الأخيرة، استخدمت السياسات التجارية الحمائية بصورة متكررة وكانت الصين غالباً ضحية لهذه السياسات، فقد فرضت الولايات المتحدة أخيراً تعريفة بنسبة 100 في المئة على السيارات الكهربائية الصينية، وتبنى الاتحاد الأوروبي نهجاً مشابهاً وإن كان أقل قسوة، وردت بكين على هذه الإجراءات.

وعلى رغم أن دونالد ترمب فقد أخيراً الصدارة في استطلاعات الرأي للرئاسة الأميركية لمصلحة كامالا هاريس المرشحة الديمقراطية، فإنه أصر على تعزيز الحمائية في استراتيجية التجارة الأميركية.

وفي تجمع حديث دعا ترمب إلى فرض “تعريفات بنسبة 10 إلى 20 في المئة على البلدان الأجنبية التي استغلتنا لأعوام”.

ويمكن أن توفر الحواجز التجارية حماية للصناعات والعمال المعرضين للمنافسة من الخارج وتسهيل مرحلة التطوير الأولية للقطاعات الناشئة على الحدود التكنولوجية.

ومع ذلك، يمكن أن تضعف هذه الحواجز الطلب من خلال رفع أسعار السلع، مما يؤدي إلى تقليص حجم التجارة بصورة عامة، في حين يمكن للشاحنين التكيف مع الضرائب المرتفعة من خلال تكثيف النشاط في البلدان التي تكون فيها التعريفات أقل.

وقال المدير الأول لأبحاث الحاويات في “دريويري” سايمون هيني وهي شركة أبحاث بحرية، إن “الدرس المستفاد من تعريفات ترمب السابقة خلال عام 2018 هو أن تجارة الحاويات تجد طريقها الأقل مقاومة”، مضيفاً “لم تكن تلك التعريفات قادرة على تقليص التجارة في السلع المحملة بالحاويات بقدر ما قامت بإعادة توجيهها إلى حيث تكون الحواجز أقل مثل فيتنام”.

إعادة تشكيل تفضيلات وسلوكات الشركات

وحتى الآن لم تصل الضغوط على سلاسل التوريد إلى مستويات الأزمة التي شهدناها خلال الوباء عندما أدت الإغلاقات إلى زيادة الإنفاق على السلع، وتظل أسعار الشحن أقل بكثير من القمم التي وصلت إليها خلال عام 2021.

ومع ذلك، فإن تجربة موجات عدة من الاضطرابات خلال فترة زمنية قصيرة أعادت تشكيل تفضيلات وسلوكات الشركات.

في حين قد يؤدي الاتجاه نحو الاقتراب من الأسواق والشكوك المتزايدة في شأن نموذج التوصيل الفوري، وعودة السياسات التجارية الانعزالية إلى تغيير ملحوظ في شبكة الشحن الدولية خلال الأعوام المقبلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى