اقتصاد دولي

هل تحمي احتياطات الذهب الدول من العقوبات الأميركية؟

,,
كانت أسعار الذهب وصلت إلى مستوى غير مسبوق الشهر الماضي حين بلغت حاجز 2400 دولار للأوقية للمرة الأولى

 

واصلت أسعار الذهب في السوق الارتفاع الطفيف، أمس الأربعاء، بعدما أضافت، أول من أمس الثلاثاء، أكثر من نقطة مئوية (زيادة بنسبة واحد في المئة).
ووصل سعر الأوقية، أمس، إلى 2368 دولاراً بزيادة بنسبة 0.5 في المئة عن إقفال، أول من أمس الثلاثاء، هذا بالنسبة إلى السعر الفوري، أما سعر العقود الآجلة للذهب فارتفعت أكثر قليلاً إلى 2374 دولاراً للأوقية.
ويشير ذلك إلى توقعات السوق باستمرار ارتفاع أسعار الذهب بغض النظر عن عوامل تؤثر في السوق من أسعار فائدة إلى سعر صرف الدولار.
كانت أسعار الذهب وصلت إلى مستوى غير مسبوق الشهر الماضي حين بلغت حاجز 2400 دولار للأوقية للمرة الأولى، ثم عاد السعر للاستقرار، لكنه ظل مرتفعاً بصورة عامة في ظل زيادة الطلب على شراء الذهب في السوق، سواء من خلال المستثمرين أفراداً ومؤسسات عبر صناديق الذهب المتداولة في البورصة أو شراء المعدن الثمين نفسه في شكله المادي.
القاعدة التقليدية في السوق أنه مع ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي تنخفض أسعار السلع المهمة المقيمة بالدولار، ومنها النفط والذهب، وفي فترات ارتفاع أسعار الفائدة يبتعد المستثمرون عن شراء الذهب، لأنه لا يوفر عائداً مباشر، ويلجأون إلى الاستثمار في السهم والأوراق المالية التي تدر عائداً، إلا أن منحى تحرك أسعار الذهب في العامين الأخيرين كسر تلك القاعدة.
أما قاعدة اللجوء إلى شراء الذهب كمخزن للقيمة وتحوط في فترات الاضطرابات فلم تعد تنطبق تماماً على سوق المعدن الثمين.
أهمية الذهب كمخزن قيمة
حتى مسألة أن الذهب هو أفضل مخزن آمن للقيمة والتحوط في مواجهة ارتفاع معدلات التضخم لم تصمد تماماً، حين ارتفعت معدلات التضخم عام 2022 إلى نسب صاروخية، ففي ذلك الوقت انخفضت أسعار الذهب بشدة، بينما زاد الإقبال على العملات المشفرة في ذلك الوقت باعتبارها بديلاً للذهب كتحوط في مواجهة ارتفاع التضخم.
قبل ربع قرن، قرر وزير الخزانة البريطاني لحكومة حزب العمال في ذلك الوقت غوردون براون بيع نصف احتياط الذهب لدى بريطانيا، متتبعاً خطى دول أخرى مثل أستراليا وغيرها بدأت في بيع قدر كبير من احتياط الذهب لديها مع انخفاض أسعاره، وأدى قرار براون بيع 395 طناً من احتياط الذهب البريطاني في الفترة من 1999 إلى 2002 إلى انخفاض أسعار الذهب العالمية وقتها بنسبة 10 في المئة ليصل سعر الأوقية إلى 253 دولاراً فقط.
استغل حزب المحافظين منذ ذلك الوقت قرار براون في حملاتهم الدعائية كدليل على عدم كفاءة العمال في إدارة اقتصاد البلاد بسبب الخسائر بمليارات الدولارات نتيجة بيع الذهب.
وكتبت مهرين خان مقالاً في صحيفة «التايمز» مستخدمة تلك الواقعة كدلالة على أهمية الذهب ليس للأفراد والمؤسسات فحسب، بل للدول أيضاً حتى رغم نهاية قاعدة ربط العملات بالذهب في ثلاثينيات القرن الماضي. وتذكر أنه مقابل خطأ وزير خزانة حزب العمال، كانت هناك أخطاء لحزب المحافظين لا تقل أهمية. منها قرار جون ميجور بيع المساكن التابعة لوزارة الدفاع وخسارة 4 مليارات جنيه استرليني (5 مليارات دولار) وقرار وزير خزانة حكومة المحافظين فيليب هاموند خصخصة بنك «لويدز» عام 2017 مما أدى إلى خسارة الخزانة العامة 6 مليارات جنيه استرليني (7.6 مليار دولار).
لكن الزيادة الحالية في الطلب على الذهب بالتالي ارتفاع أسعاره لا تتسق مع كل الحكمة التقليدية في السوق. فمثلاً بدأت معدلات التضخم في الانخفاض بصورة واضحة، والطبيعي أن يقل الإقبال على شراء الذهب كمخزن قيمة آمن وتحوط تجاه التضخم، لكن بحسب تقديرات بنك «غولدمان ساكس» الاستثماري اشترت البنوك المركزية حول العالم كميات غير مسبوقة من الذهب في الفترة من 2022 إلى 2023 وصلت إلى 1060 طناً من الذهب، ذلك مقارنة بشراء تلك البنوك 509 أطنان في الفترة من 2016 إلى 2019.
تحوط ضد العقوبات
بحسب تقرير لمجلة الـ»إيكونوميست» الشهر الماضي، فإن الإقبال على شراء الذهب زاد من قبل المستثمرين المؤسساتيين مثل الصناديق وغيرها، وكذلك من قبل الأفراد الذين يشترون المعدن في حالته المادية. مع ذلك، تأتي البنوك المركزية للدول في مقدمة من يشترون الذهب بكثافة ويكنزون المعدن الثمين. فبعد بداية حرب أوكرانيا وفرض العقوبات على موسكو وتجميد الولايات المتحدة الأصول الخارجية الروسية المقيمة بالدولار، بدأت البنوك المركزية حول العالم في تنويع احتياطاتها بالابتعاد عن الدولار وزيادة نصيب الذهب من تلك الاحتياطات.
أما المثال الأوضح على ذلك في الصين، إذ زاد بنك الشعب الصيني (المركزي الصيني) حصة الذهب في احتياطاته من نسبة 3.3 في المئة بنهاية عام 2021 إلى نسبة 4.3 في المئة حالياً. وفي مارس (آذار) الماضي وحده أضاف المركزي الصيني لاحتياطاته 160 ألف أوقية من الذهب بقيمة 384 مليون دولار.
ترى مهرين خان أن إقبال الدول على زيادة احتياطات البنوك المركزية من الذهب بدلاً من الدولار والعملات الأجنبية الأخرى أصبح نهجاً واضحاً بعد حرب أوكرانيا عام 2022 وفرض العقوبات على موسكو وتجميد الولايات المتحدة وأوروبا الأصول الأجنبية الروسية في الخارج. حينئذ لم يعد الذهب مجرد تحوط تجاه الاضطرابات الاقتصادية نتيجة الصراعات أو تجاه التضخم وأسعار الفائدة. إنما أصبح وسيلة للتحوط ضد العقوبات، بخاصة التي تفرضها الولايات المتحدة، لذا قامت البنوك المركزية في دول مثل روسيا وتركيا والصين بزيادة نصيب الذهب من احتياطاتها في 10 أعوام الأخيرة بصورة كبيرة.
وعلق صندوق النقد الدولي، الشهر الماضي، على هذا التوجه في تقرير له بالقول، إن «مشتريات الذهب من قبل بعض البنوك المركزية قد تبدو مدفوعة أساساً بالمخاوف من أخطار العقوبات». وخلص تقرير الصندوق إلى أنه في وقت تزيد فيه احتياطات الذهب لدى الصين وروسيا والدول المماثلة فإن «نصيب الذهب من الاحتياطات الأجنبية في دول الكتلة الأميركية لم يتغير كثيراً».
ذلك لأنه إذا كان من السهل تجميد الأصول الدولارية، أو النقدية الأخرى للدول ضمن العقوبات فإن ذلك صعب بالنسبة إلى الذهب، وأنه ليس بمقدور الولايات المتحدة ودول الغرب مراقبة مخزون الذهب لدى الدول ولا السيطرة عليه في حال فرض عقوبات عليها، لكن هل يمكن فعلاً لاحتياط الذهب أن يقي الدول من أخطار العقوبات؟ يقول الأستاذ المساعد في جامعة «سيراكيوز» بنيويورك دانييل ماكدويل أن الذهب لن يحمي الدول تماماً من أضرار العقوبات «لكنه بالتأكيد يساعد» في تقليل أخطارها.
وضرب مثالاً على ذلك بحالة فنزويلا التي راكمت احتياطات من الذهب قبل أن تفرض إدارة الرئيس باراك أوباما عقوبات عليها عام 2015. ومع العقوبات، جمدت مليارات الدولارات من أصول فنزويلا الخارجية فبدأت في بيع الذهب من الاحتياط لتدفع مقابل شراء طائرات من روسيا ومقابل تعاملات تجارية مع إيران.

لكن إذا لم يكن احتياط الذهب لدى الدولة محفوظاً على أراضيها فإن قدرته على الحماية من العقوبات تتراجع، فقد خسرت حكومة الرئيس نيكولاس مادورو قضية استعادة ذهب من بريطانيا بقيمة 1 مليار دولار، كانت فنزويلا تحتفظ به في خزائن بنك إنجلترا (المركزي البريطاني)، وذلك بعدما رفع زعيم المعارضة الموالي للغرب خوان غوايدو دعوى ملكية للذهب في بريطانيا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى