مختارات اقتصادية

​شبكات التواصل الاجتماعي تقتحم عصر الخدمات المدفوعة .. نهاية للابتكار أم بداية حقبة جديدة

تتجه شركات التواصل الاجتماعي إلى تقديم نماذج مدفوعة لخدماتها تباعا. وكانت شركة “ميتا” المالكة لموقع “فيسبوك” الأحدث بين الشركات التي تعلن عن نسخة مدفوعة من منتجاتها لتنضم بذلك إلى مثيلاتها اللاتي سبقنها إلى نماذج مشابهة مثل “إنستجرام” و”تويتر” مما يثير الكثير من اللغط حول ما إذا كان ذلك ضرورة تمليها التطورات أم أن الشركات خلت جعبتها من الابتكار مما جعلها ترغب في التحول من تقديم تقنيات جديدة إلى استغلال مالي للخدمات المستقرة بالفعل.

يرى بعض الخبراء أن الدافع وراء ذلك التحول أن نموذج وسائل التواصل الاجتماعي المدعومة بالإعلان يتعرض لضغوط. فشركات التواصل الاجتماعي لا يمكنها ربح الكثير من الأموال من مستخدميها المجانيين كما اعتادت، بسبب عوامل من بينها الضعف الذي يعتري سوق الإعلانات وقيود الخصوصية التي تفرضها شركات مثل أبل مما يجعل من الصعب تتبع نشاط المستخدمين والتعرف على تفضيلاتهم، كما أن التهديد المستمر من جانب جهات التشريع يجعل قيام تطبيقات التواصل الاجتماعي ببيع الإعلانات أكثر صعوبة.

بدايات حقبة جديدة

تربح جميع شركات وسائل التواصل الاجتماعي معظم أموالها تقريبا من الإعلانات وكما شهدنا على مدى السنوات الثلاث الماضية، فإن عوامل مثل الأوبئة والحروب والتضخم المرتفع أثرت على قوى الاقتصاد العالمي مما يجعل الإعلان عبر الإنترنت نشاطا يتسم بالتقلب. لذلك لم يكن مفاجئا أن تسعى الشركات إلى تأمين مصادر دخل جديدة أكثر استقراراً للتكامل مع الإعلان.

هذا هو السبب في أننا نشهد بدايات ما قد يشكل حقبة جديدة من وسائل التواصل الاجتماعي وهي حقبة الدفع من أجل الاستخدام.

وسيقوم كل من “فيسبوك” و”إنستجرام” بفرض رسوم على المستخدمين تصل إلى 12 دولارا شهريا مقابل شارة التوثيق الزرقاء ومزيد من الحماية ضد عمليات انتحال شخصية مالك الحساب والاحتيال، وإتاحة الوصول إلى “شخص فعلي” في دعم العملاء للمساعدة في حل المشكلات العامة للحسابات، والأهم “زيادة الانتشار والوصول”.

ويعني ذلك أن المستخدمين الذين سيقومون بالاشتراك في الخدمة المدفوعة سيظهر المحتوى الذي يقومون بنشره بشكل أكبر خلال عمليات البحث والتعليقات والتوصيات. وتقوم الشركة باختبار الميزة في أستراليا ونيوزيلندا، وقالت إنه سيتم طرحها في الولايات المتحدة ودول أخرى.

يأتي قرار “ميتا” بعد أشهر قليلة من إصدار تويتر برنامجها للتوثيق المدفوع بقيمة 8 دولارات كجزء من منتج “تويتر بلو” الذي أطلقه إيلون ماسك. وفي حين أن “ميتا” تشتهر بتقليد خطوات منافسيها، فإن تحركها هو جزء من اتجاه واسع النطاق في القطاع.

وفي السنوات الأخيرة، قامت “سناب شات”، و”يوتيوب”، و”ديسكورد” بإطلاق أو التوسع في الخدمات المدفوعة التي تتضمن دفع اشتراكات مقابل حصول المستخدمين على امتيازات خاصة.

يتيح “سناب” للمشتركين وصولا مبكرا إلى الخصائص الجديدة، بينما يقدم “يوتيوب” خدماته، ولكن بقدر أقل من الإعلانات، فيما يوفر “ديسكورد” المزيد من خيارات التخصيص لقنوات الدردشة.

الآن، تقوم ميتا، التي تمتلك أكبر تطبيقات للتواصل الاجتماعي في العالم، بتجربة اتجاه لنظام مستخدمين من مستويين في وسائل التواصل الاجتماعي. وتقول “ميتا” إنها لا تزال تقدم مستوى من الدعم الأساسي للمستخدمين المجانيين لكن بعد ذلك يجب أن تحصل على مقابل لتغطية التكاليف.

بالطبع فإن جزءا من الخدمات التي ستوفرها الحزمة المدفوعة تفيد الشركة أيضا، حيث إن التحقق من هويات المستخدمين على سبيل المثال يساعد الشبكات الاجتماعية في مكافحة الرسائل العشوائية وضبط منتحلي الشخصيات وحتى تعزيز أنشطة الإعلان الحالية لأن المسوقين سيتأكدون أن رسائلهم الترويجية تصل إلى أناس حقيقيين.

يقول مراقبون إن قرار “ميتا” بتقديم دعم أكبر للعملاء المشتركين في خدماتها المدفوعة قد يكون أكثر منطقية إذا كانت الشركة تقدم مستوى أساسيا من دعم العملاء للجميع وهو ما لم يحدث بعد ما يقرب من 20 عاما على تأسيسها. بالطبع تبرر الشركة ذلك بأن القيام بذلك لن يكون سهلا أو قليل التكلفة، إذ تضم منصاتها ما يزيد على 3 مليارات مستخدم في أنحاء العالم، لكن في الوقت ذاته فإن افتقار “ميتا” إلى خدمة العملاء يمثل مشكلة للشركات الصغيرة أيضا.

وصول المحتوى حجر الزاوية

لكن الجزء الأكثر أهمية في خطة “ميتا” الجديدة يتمثل في اتساع نطاق وصول وبروز المحتوى بشكل أكبر على “فيسبوك” و”إنستجرام”.

في الماضي ومن الناحية النظرية، كان أمام الجميع الفرصة نفسها كي يصل محتواهم إلى جميع المستخدمين على وسائل التواصل الاجتماعي.

لكن الآن، إذا كنت تدفع 12 دولارا شهريا، فستكون لديك احتمالات أفضل لوصول محتواك إلى أشخاص آخرين، لأن تطبيقات ميتا ستعمل على إبراز المحتوى مانحة إياه أولوية على محتوى المستخدمين الآخرين المجانيين.

يذكرنا هذا بأن الشركات تطورت بعيدا عن الفرضية الأصلية لكونها مساحة لمشاهدة مشاركات معظمها من “الأصدقاء والعائلة” لكن بدلا من ذلك فإنها باتت تركز على جذب نمط معين من الأشخاص هم صانعو المحتوى. ومن الناحية التاريخية، فإن صانعي المحتوى المحترفين الذين يبحثون عن المزيد من المشاهدين أو القراء كان عليهم أن يدفعوا مقابل الإعلانات.

بالطبع هذا النظام قد يجده أصحاب الأعمال المحترفون على “فيسبوك” و”إنستجرام” جذابا لكنه أيضا قد يعرض للخطر جودة تجربة المستخدمين إذا لم يتم تنفيذه بعناية فائقة.

ويقول الخبراء إنه عبر برنامجها الجديد، تعمل “ميتا” بشكل فعال على طمس الخط الفاصل بين الإعلانات والمحتوى الذاتي أكثر من أي وقت مضى. وفي ظل شكوى العديد من المستخدمين بالفعل من أن “إنستجرام” تحول إلى مركز تسوق افتراضي مليء بصانعي المحتوى الذين ينشرون محتواهم ومنتجاتهم، من الصعب تخيل أن الناس سيستمتعون بتجربة أكثر تجارية.

لا نعرف حتى الآن التأثير الكامل لما سيكون عليه “ميتا فيرفايد” على نظام “فيسبوك”، لكن من الواضح أنه إذا أردت أن تكون منشوراتك أكثر انتشارا وأن تتمتع بالموثوقية والاهتمام على “فيسبوك” و”إنستجرام” و”تويتر” ومنصات أخرى تقدم خدمة مميزة، فعليك أن تدفع المقابل.

من المفهوم طبعا مطالبة بعض المستخدمين بأن تكون خدمات أساسية مثل دعم العملاء وتأمين الحسابات مجانية.

وعلق أحد المستخدمين على صفحة “مارك زوكربيرج” مؤسس “فيسبوك” بعد الإعلان عن برنامج “ميتا” الجديد قائلا “يجب أن يكون هذا جزءا من المنتج الأساسي، لا يجب على المستخدم أن يدفع مقابلا لهذا”، ورد “زوكربيرج” قائلا إن “فيسبوك” سيظل يقدم بعض الدعم الأساسي للجميع، لكن التحقيق من الهوايات الحكومية للمستخدمين من أجل التأكد من شخصياتهم وتقديم خدمات الاتصالات المباشرة لخدمة العملاء أمران مكلفان، و”ميتا” بحاجة إلى فرض رسوم لتغطية التكلفة.

الأنشطة التجارية مهتمة

بالنسبة لمستخدم عادي، فقد لا يرغب في دفع 24 دولارا شهريا للحصول على “شارة زرقاء” على “فيسبوك” و”إنستجرام”، ولكن إذا كنت تدير نشاطا تجاريا على هذه التطبيقات، فهذه مسألة مختلفة.

تؤيد ذلك “ماي كاروفسكي” الرئيسة التنفيذية لشركة التسويق للمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي “أوبفيسلي” وتقول إنها يمكن أن ترى بسهولة “العديد من الأشخاص الذين يديرون إمبراطوريات اقتصادية” على وسائل التواصل الاجتماعي يشتركون في حزمة “ميتا فيرفايد” باعتبارها “الخطوة المنطقية القادمة، لأنها قد تجلب لهم المزيد من الأعمال.

وتشير تقديرات إلى أن صناعة التأثير على وسائل التواصل الاجتماعي تبلغ قيمتها حوالي 16 مليار دولار في 2022، وعلى الرغم من النمو الضخم الذي حققه تطبيق “تيك توك”، ما زال “إنستجرام” أشهر منصة للتسويق المؤثر للعلامات التجارية.

ويتمتع “فيسبوك” و”إنستجرام” أيضا بشعبية خاصة لدى أصحاب الشركات، حيث توجد أكثر من 200 شركة نشطة على “فيسبوك” وحده. وتدير الكثير منها أعمالها على الشبكة.

وتقول “كاروفسكي” إن الشارة الزرقاء ستكون مهمة لصانعي المحتوى وأصحاب الأعمال لأنه من الضروري أن يتمتع أولئك الأشخاص بتلك المصداقية أو النسخة المتصورة منها.

قبل إعلان “ميتا” عن هذه الخدمة المدفوعة، قالت “كاروفسكي” إن الكثير من العملاء كانوا يطلبون منها المساعدة في نيل التوثيق على “إنستجرام”. يمكنك توثيق حسابك على “إنستجرام” إذا أثبت أنك شخصية عامة بارزة. لكن نظرا لأن الكثير من الأشخاص يتقدمون بطلبات، قد يستغرق الأمر وقتا طويلا للموافقة على طلبك.

إعلانات غير مباشرة

في السابق، إذا كنت ترغب في أن تعزز وصول منشوراتك أو حسابك على فيسبوك لبقية المستخدمين على “فيسبوك” و”إنستجرام”، كان يتعين عليك أن تنشرها كإعلان يتم تصنيفه بوضوح للمستخدمين إما أنه إعلان أو رعاية أو “محتوى مدفوع”. أما الآن، فإن “فيسبوك” و”إنستجرام” سيسمحان بالفعل بتعزيز وصول منشوراتك للآخرين دون تصنيف هذا الترويج على أنه إعلان.

يقول “جيسون جولدمان” نائب الرئيس السابق للمنتجات لدى تويتر في الفترة من 2007 إلى 2010 “فكرة أنك ستدفع رسوم اشتراك ما لتظهر بشكل بارز في الخوارزميات، لذلك وصف أنه إعلان… ما يفعلونه الآن طريقة مختلفة لتسعيره”.

مخاطرة

وفي حين أن هذه الاشتراكات قد تساعد “إنستجرام” و”فيسبوك” في جني المزيد من الأموال في وقت تعاني فيه شركات الإعلان التقليدية، إلا أنها قد تعرض للخطر مكانتها لدى المستخدمين الذين لا يرغبون في مشاهدة المزيد من المحتوى الترويجي.

يقول الخبراء إن تلك الخطوات قد تدفع المستخدمين نحو منصة “تيك توك” بشكل أكبر. واجتذبت المنصة بالفعل مستخدمين من التطبيقات الأقدم مثل “إنستجرام” لأنهم يقولون إن من السهل الانتشار على المنصة، حتى لو كنت مجرد هاو تنشئ ما يطلقون عليه “محتوى ذاتيا”. ولا يحتوي تطبيق “تيك توك” حاليا على نظام اشتراك مدفوع لكنه يوسع نشاطه الإعلاني بنجاح في وقت يتباطأ فيه عمل الشركات المنافسة مثل “ميتا” و”سناب”.

بالطبع لا نزال في المراحل الأولى من نموذج وسائل التواصل الاجتماعي المدفوعة، لكن مما نعرفه في الوقت الحالي، فقد تكون شريحة صغيرة من المستخدمين فقط على استعداد للدفع. فشركة “تويتر” على سبيل المثال قالت إن 0.2% فقط من إجمالي قاعدة مستخدميها اشتركوا في نظام الشارة الزرقاء حتى منتصف يناير مع ملاحظة أن الخدمة انطلقت في نوفمبر.

قد يكون لدى “ميتا” فرصة أفضل للعثور على مزيد من العملاء بسبب حجمها الهائل، إذ يبلغ عدد المستخدمين لديها ما يزيد على عشرة أضعاف مستخدمي “تويتر”، كما أن لديها العديد من المؤثرين الذين يديرون أعمالهم على الموقع.

اختلافات

يقول الخبراء إن طرح “تويتر” لخدمات التوثيق المدفوع أكثر منطقية من الخطوة التي اتخذتها “ميتا” و”إنستجرام” لأسباب منها أن وجود مصادر موثوقة تم التحقق من صدقها أمر بالغ الأهمية لعمل “تويتر” حتى لا تنتشر الأخبار المزيفة بشكل عشوائي نظرا لأن المشتركين في تويتر يرغبون في الغالب في التعرف على الأحداث الجارية.

كما أن الكثيرين على تويتر يرغبون في متابعة شخصيات بعينها جرى التأكد من كونها حقيقية، في الوقت نفسه كانت الهيئات الحكومية والسياسيون أكثر اهتماما بتوثيق حساباتهم بمجرد أن بدأوا في استخدام المنصة لتوصيل رسائلهم للناس.

في الوقت ذاته، لا يحتاج “فيسبوك” و”إنستجرام” إلى التوثيق لأنه لا يتم التعامل معهم كمصادر للأخبار. على الأقل فإن عددا أقل بكثير من المستخدمين يستغلون “فيسبوك “وإنستجرام” لمعرفة الأخبار الأحدث، فيما تستخدمهم الغالبية العظمي للاطلاع على أحدث أخبار الأقارب والأصدقاء وزملاء العمل.

ويقول الخبراء إن امتلاك حساب موثق يروج للمنشورات أمر غير مهم لنحو 99% من قاعدة المستخدمين، إذ إن معظم المشتركين لا يهتمون بالأشخاص الذين ينشئون حسابات مزيفة بأسمائهم ولا يهتمون بترويج المنشورات لأنهم يضعون منشوراتهم فقط للأشخاص المقربين منهم على أي حال.

ويضيفون أنه لو كان “فيسبوك” فرض سداد اشتراك شهري حينما بدأ كتجربة في إحدى مدارس بوسطن الأمريكية، لم يكن ليتطور إلى ذلك العملاق اليوم. ويرى الخبراء أن المستخدمين باتوا أكثر قبولا للاشتراك في خدمات البث مثل “نتفليكس” و”ديزني” و”آبل تي في” وغيرهم، لكنهم ما زالوا يحتاجون إلى عرض قوي للقيمة لدفع رسوم شهرية في “فيسبوك” مثلا.

نهاية النمو السريع

يقول البعض إن التحول نحو الأنظمة المدفوعة ربما يشير إلى نهاية النمو السريع لوسائل التواصل الاجتماعي وابتكاراتها.

ويرى محللون أن الخدمات المدفوعة من “فيسبوك” و”إنستجرام” ما هي إلا محاولة من منصات التواصل الاجتماعي للحصول على أكبر قدر ممكن من المال مع انتقالها من التقنيات المبتكرة النامية إلى الخدمات المستقرة.

ويقولون إن الاتجاه صوب الخدمات المدفوعة قد يلحق الضرر بقاعدة المستخدمين، وإن “ميتا” عليها مواصلة التركيز على الإعلان كمصدر أساسي للإيرادات وتقديم خدمات مدفوعة على “يوتيوب” الذي يقدم أشكالا مختلفة من المحتوى وربما إعلانات أقل مقابل رسوم شهرية ومخفضة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى