مقالات اقتصادية

جيه بي مورجان .. البنك الذي لا يترك أزمة تهدر

كتب أسامة صالح

عندما أعلن المسؤولون الأمريكيون مؤخراً أنهم وجدوا مشتريا لبنك فيرست ريببليك، ثاني أكبر إفلاس مصرفي في التاريخ الأمريكي، كانت هوية مقدم العرض الناجح بالنسبة إلى كثيرين في مجال التمويل أمرا متوقعا سلفا.

رغم أن أكثر من عشر مؤسسات نظرت في أصول بنك فيرست ريببليك، وأن أربعة بنوك قدمت عروضا وأعادت تقديم عروضها مرارا وتكرارا في نهاية الأسبوع الماضي، كان الفائز في النهاية بنك جيه بي مورجان تشيس.

خلال الأزمة المالية 2008، كان أكبر بنك في أمريكا هو المنقذ المختار لبنك الاستثمار المفلس، بير ستيرنز، ولمقرض الرهن العقاري المفلس، واشنطن ميوتشوال، أكبر إفلاس مصرفي على الإطلاق.

وقد حصل الشيء نفسه هذه المرة. بالنسبة إلى صانعي السياسات الذين يحاولون تحقيق الاستقرار في قطاع مصرفي إقليمي مترنح منذ انهيار سيليكون فالي بنك في 10 آذار(مارس)، سيكون من الصعب تخيل يد عون أكثر أمانا من جيه بي مورجان. فجيمي ديمون الرئيس التنفيذي، ليس فقط رئيس البنك الكبير الأطول خدمة فحسب، بل ينظر إليه أيضا على أنه محترف في دمج عمليات الاستحواذ.

يقول ستيفن كيلي، الذي يبحث في مجال الاستقرار المالي في كلية ييل للإدارة “بشكل عام، فإن دمج بنك يفقد قيمة امتيازه مع بنك كبير مثل جيه بي مورجان هو أفضل حل ممكن في وقت الأزمات. البنوك الكبرى كانت شريكة للحكومة ولعبت دور الفارس المنقذ”.

لكن بينما قدم ديمون عملية الاستحواذ كشكل من أشكال الخدمة العامة، هناك كثير من النقاد الذين يصرون على أن النتيجة دليل إضافي على أن النظام مبني لمصلحة البنوك العملاقة بشكل عام، وبنك جيه بي مورجان بشكل خاص.

قالت السناتور إليزابيث وارن، المعروفة بانتقادها تجاوزات وول ستريت منذ وقت طويل “ما كان ينبغي السماح لجيمي ديمون بالاستيلاء على بنك مفلس، لأن بنك جيه بي مورجان أكبر من أن يفلس بالفعل”.

يتعجب المراقبون ويتذمرون من كيف أنه، عندما تضرب المشكلات القطاع المصرفي في الولايات المتحدة، يبدو أن كل الطرق تؤدي دائما إلى بنك جيه بي مورجان.

يشكو ممول مقرب من إدارة بايدن من أن الألقاب المتعددة التي ارتداها ديمون خلال الاضطرابات الأخيرة قد منحته نفوذا أكبر مما ينبغي. يقول الشخص “مستشار، مدير، منسق، الأمر برمته غير منطقي. دائما، (كان) صاحب القرار. دائما”.

صنع قوة طاغية

إن بنك جيه بي مورجان اليوم، بأصول تبلغ 3.7 تريليون دولار و250 ألف موظف، نتيجة عملية دمج استمرت لقرون. ويشمل تراثه شركة أنشأها الأب المؤسس للولايات المتحدة، ألكسندر هاملتون، البنك الاستثماري الذي يديره الممول الأسطوري، جون بيربونت مورجان، إضافة إلى المقرضين الذين مولوا مشاريع قناة إيري، وجسر بروكلين والقوات المسلحة البريطانية والفرنسية في الحرب العالمية الأولى.

حتى عهد قريب في 1991، كان لدى بنك التجزئة الذي سيصبح في النهاية قوة مصرفية عالمية ضخمة ودائع بقيمة 37 مليار دولار فقط. ولدى المجموعة الآن نحو 2.5 تريليون دولار ونمت حصته السوقية عشر مرات، من 1.5 في المائة إلى 14.4 في المائة.

قال كريس كوتوفسكي، المحلل المصرفي في بنك أوبنهايمر “لقد أخذوا مجموعة كاملة من الشركات التي كانت عبارة عن بنوك إقليمية وأنشأوا بالفعل امتيازات وطنية من خلالها”.

لكن في ظل إدارة ديمون، الذي انضم إلى البنك في 2004 عندما استحوذ على بنك وان في شيكاغو، تقدمت المجموعة بالفعل. يعد بنك جيه بي مورجان الآن أكبر بنك في الولايات المتحدة من حيث الأصول، والودائع والقيمة السوقية، مع وجود فروع تشيس المصرفية في 48 ولاية. كما أنه يكسب من رسوم الخدمات المصرفية الاستثمارية أكثر من أي بنك آخر في وول ستريت، متفوقا باستمرار على بنك جولدمان ساكس، وبنك مورجان ستانلي وبنك أوف أمريكا.

كما هي الحال مع الاضطرابات المصرفية الإقليمية اليوم، أتت أزمة 2008 بفرصة خاصة لبنك جيه بي مورجان. ونظرا لأنه يسيطر على أكثر من 10 في المائة من الودائع الأمريكية، يحظر عليه شراء بنوك أخرى إلا في حالة الطوارئ. إن صفقات بنك بير ستيرنز وبنك ووا مو ومسار بنك جيه بي مورجان السليم نسبيا خلال الأزمة المالية أكسبت ديمون احتراما دائما. وقد وصف الرئيس السابق، باراك أوباما، رجل نيويورك ذا الشعر الفضي عام 2012 بأنه “واحد من أذكى المصرفيين لدينا”.

لكن سجل البنك في عهد ديمون لم يخل من الشوائب. حيث بلغت تكلفة فضيحة التداول مع لندن ويل في 2012 ستة مليارات دولار، وتم رفع دعوى قضائية ضد البنك بسبب عمله مع جيفري إبستين، المدان بجرائم جنسية. إضافة إلى ذلك، أدت العقوبات التنظيمية من أعمال بنكي بير ستيرنز ووا مو القديمة إلى أن يخبر ديمون المساهمين في 2015 بأن الصفقات كانت “دروسا باهظة الثمن لن أنساها (…) لن نفعل أمرا مشابها لصفقة بنك بير ستيرنز مرة أخرى”.

مع ذلك، كان ديمون أول شخص يتم اللجوء إليه عندما كانت جانيت يلين وزيرة الخزانة، تبحث عن النجدة في 14 مارس في موضوع بنك فيرست ريببليك. في ذلك الوقت، كان ترتيب البنك الـ14 في الولايات المتحدة من حيث الحجم، لكن كان لديه كثير من نقاط الضعف نفسها التي قوضت سيليكون فالي بانك، بما في ذلك الاعتماد على الودائع غير المؤمن عليها، والعلاقات الوثيقة بصناعة التكنولوجيا والخسائر على الأوراق على الأصول طويلة الأمد. كان يعاني مما سيصبح عملية تدافع كبرى لسحب الودائع بقيمة 100 مليار دولار وانخفاض أسهمه 75 في المائة في أقل من أسبوعين.

كان مصرفيو بنك جيه بي مورجان يقدمون بالفعل المشورة لبنك فيرست ريببليك بشأن خياراته، التي تضمنت استفسارات مبكرة من بنك كندي حول عملية شراء محتملة، كما يقول الأشخاص المطلعون على الوضع. لكن المخاوف كانت تتزايد من أن انهيارا سريعا آخر من شأنه زعزعة استقرار النظام المصرفي بأكمله.

على مدار اليومين التاليين، حشد ديمون رؤساء تنفيذيين لعشرة بنوك كبرى أخرى وفي 16 مارس وافقوا بشكل جماعي على تسليم بنك فيرست ريببليك ودائع بقيمة 30 مليار دولار. كان الهدف شراء الوقت للمقرض الأصغر لإيجاد حل من جانب القطاع الخاص.

شجعت شخصيات بارزة في الحكومة الأمريكية بعض البنوك على التفكير في عملية استحواذ، لكنهم لم يدفعوا من أجل حدوث ذلك، كما يقول أشخاص مطلعون على العملية. ترك ذلك بنك فيرست ريببليك في مهب الريح مع انخفاض سعر سهمه، وابتعد البائعون على المكشوف وفر المودعون.

سارع جيم هربرت مؤسس بنك فيرست ريببليك، ومستشاروه، بيتر أورسزاج من بنك لازارد وشركة سوليفان آند كرومويل للمحاماة، للحفاظ على استقلال البنك. وقد حاولوا تجميع حزمة من ثلاثة أجزاء تتضمن جمع أموال الأسهم الخاصة، وجعل بنوك أخرى تشتري بعض الأصول بأسعار أعلى من أسعار السوق مقابل جزء من الأسهم، إضافة إلى بعض الدعم الحكومي.

لكن مؤسسة تأمين الودائع الفيدرالية، التي نصحها جيم ميلستين المصرفي الاستثماري المخضرم والمسؤول السابق في إدارة أوباما، شعرت بالإحباط. إذ كانت تعتقد أن الهندسة المالية ستتطلب مساعدة حكومية ستتعارض مع روح قانون إصلاح دود-فرانك الذي صدر بعد الأزمة المالية، حسب الأشخاص المطلعين على المناقشات.

ازداد الضغط على البنك يوم الإثنين 24 نيسان (أبريل)، عندما كشف بنك فيرست ريببليك عن حجم عملية التدافع الكبرى لسحب الأموال من قبل العملاء، وأثار مايكل روفلر الرئيس التنفيذي، مخاوف المستثمرين برفضه الرد على أسئلة حول مكالمة للأرباح.

بحلول صباح الخميس 27 نيسان (أبريل)، كانت مؤسسة تأمين الودائع الفيدرالية تخبر مقدمي العروض المحتملين بأن بنك فيرست ريببليك على بعد أسابيع من عملية استحواذ من قبل السلطات. تم تسريع الجدول الزمني فجأة وطلب من عشرات المؤسسات المالية الكبرى تقديم عروض استرشادية بحلول اليوم التالي.

منحت تلك المؤسسات التي استمرت حتى الجولة الثانية وصولا رقميا إلى البيانات المتعلقة بمطلوبات وأصول بنك فيرست ريببليك التي يتم تجميعها في الوقت الفعلي من قبل مصرفيي بنك جوجنهايم بارتنرز الذين كانوا يقدمون المشورة لمؤسسة تأمين الودائع الفيدرالية.

رفض بعض المقرضين الكبار، بما في ذلك بنك أوف أمريكا، المشاركة لكن في النهاية ظهر أربعة من أكبر 20 بنكا أمريكيا من حيث الأصول كمقدمي العروض الرائدين: بي إن سي، وستزين بنك، وفيفث ثيرد وجيه بي مورجان، الذي تخلى عن دوره كمستشار لبنك فيرست ريببليك للانضمام إلى المزاد.

عملت فرق الصفقات الضخمة للبنوك على مدار الساعة خلال عطلة نهاية الأسبوع لتجميع عروضها قبل الموعد النهائي بعد ظهر يوم الأحد. لكن وسط النشاط المحموم، كان الإحباط يتنامى بسبب طلبات مؤسسة تأمين الودائع الفيدرالية.

لاحظ أحد المشاركين قائلا “إنها تضع قواعد تقديم العروض بطريقة تحابي بشدة بنكا عالميا ذا رأس مال كبير”. لم يكن ذلك عن قصد لكن “هذا ما كانت تفعله”.

بموجب قانون 1992، يجب على مؤسسة تأمين الودائع الفيدرالية أن تختار الحل الذي يفرض “أقل تكلفة” على صندوق تأمين الودائع. لا يزال كثير من الموظفين هناك يتذكرون أن أزمة 2008، التي أدت إلى إغلاق أكثر من 150 بنكا، تركت صندوق تأمين الودائع برصيد سلبي.

يقول موظف سابق في مؤسسة تأمين الودائع الفيدرالية “إذا كنت موظفا مهنيا هناك، فكل ما يهمك هو، “كيف يمكنني توفير المال؟”، وتفكر، “ماذا لو حدث (انهيار بنك) آخر غدا؟”.

يقول المشاركون “إن مؤسسة تأمين الودائع الفيدرالية وجدت صعوبة في مقارنة العروض المعقدة”. حيث أصبحت المهمة أكثر صعوبة بسبب حقيقة أن بعض العروض على الأقل انخرطت فيها عدة أطراف. فقد اقترح بنك بي إن سي، على سبيل المثال، بيع أجزاء من دفتر قروض بنك فيرست ريببليك لصندوق بلاك روك أو أوبولو في محاولة لجعل العرض أكثر جاذبية.

بعد تقديم العروض النهائية في الساعة 7 مساء الأحد، أثبت عرض بنك جيه بي مورجان أنه أبسط وأرخص، مع خسارة لصندوق الإيداع تقدر بـ13 مليار دولار. بحلول الساعة الواحدة صباح الإثنين، سمع البنك أنه قد فاز، وتم الإعلان عن النتائج بعد الساعة الثالثة صباحا بقليل.

يقول سايمون جونسون، أستاذ الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وكبير الاقتصاديين السابق في صندوق النقد الدولي “لعب جيمي ديمون أوراقه بشكل جيد للغاية. عندما تم تصميم حل أقل تكلفة، لم يكن لدينا مثل هذه البنوك الكبيرة ولم يكن لدينا مثل هذا الميل تجاه البنوك الكبيرة للغاية. هذا الحجم الكبير هو في مصلحة بنك واحد تحديدا”.

«الوطنية المربحة»

رفض جيريمي بارنوم المدير المالي لبنك جيه بي مورجان، في وقت سابق من هذا الأسبوع أي إشارات إلى تضارب مصالح، قائلا “إن فرقا منفصلة قدمت المشورة لبنك فيرست ريببليك وعملت في وقت لاحق على الاستحواذ”.

ووصف ديمون الصفقة بأنها خدمة عامة، قائلا “إن الحكومة دعت البنك للتدخل، وقد فعلنا ذلك”.

أشار آخرون إلى أن الصفقة ستضيف نحو 500 مليون دولار من الدخل السنوي إلى أرباح البنك.

يقول ريتشارد سيلا، أستاذ الاقتصاد الفخري في كلية ستيرن لإدارة الأعمال في جامعة نيويورك “هناك عبارة يستخدمها الناس تسمى الوطنية المربحة. وهذا ما قد يكون عليه الأمر”.

رغم تعهد بايدن باتخاذ موقف أكثر صرامة بشأن عمليات اندماج البنوك منذ توليه المنصب، فقد خلصت الإدارة إلى أنه في حالات معينة قد يكون وجود بنك كبير يستحوذ على بنك أصغر مفلس هو الحل الأقل فوضوية. وقال بايدن “إنه مسرور بشأن نتيجة بنك فيرست ريببليك”، مضيفا “ستضمن هذه الإجراءات أمن النظام المصرفي وسلامته”.

في غضون ذلك، أشاد الجمهوريون بالصفقة لتجنب ضمان شامل للودائع الحكومية للحسابات الكبيرة جدا، كما حدث مع سيليكون فالي بنك.

وصفها بعض الديمقراطيين بأنها أفضل حل متاح في ظل الظروف الحالية. يوجد في صندوق التأمين لمؤسسة تأمين الودائع الفيدرالية حاليا 90 مليار دولار للتعامل مع التداعيات الناجمة عن نظام مصرفي يوجد فيه ودائع تزيد على 17 تريليون دولار.

قال براد شيرمان، ديمقراطي في مجلس النواب “بنوكنا الكبيرة أكبر مما ينبغي، لكن في الوقت الحالي يتعلق الأمر بتقليل التكلفة. من بين جميع الأمور التي ستؤدي إلى التعزيز، تعد هذه خطوة صغيرة”.

أبدى جاي بأول رئيس الاحتياطي الفيدرالي، وجهة نظر مشابهة في مؤتمر صحافي الأربعاء، قائلا “أعتقد أنها نتيجة جيدة حقا للنظام المصرفي. كما كان من الممكن أن تكون نتيجة جيدة للنظام المصرفي لو اشترى أحد البنوك الإقليمية هذه الشركة (…) لكن القانون، ينص على أن تتم الترسية على العرض الأقل تكلفة”.

البعض الآخر أقل تفاؤلا بكثير. حيث جادلت وارن بأن مكتب المراقب المالي للعملة، الذي كان يجب أن يوقع على الصفقة لأنه المنظم الأساسي لبنك جيه بي مورجان، كان ينبغي عليه رفض القيام بذلك.

قالت “إننا بحاجة إلى شرح كامل من مايكل هسو القائم بأعمال مدير مكتب المراقب المالي للعملة (…) حول سبب موافقته على هذا الاندماج البنكي العملاق وتجاهل العروض الأخرى التي تشكل خطرا أقل على الاقتصاد”. قال مكتب المراقب المالي للعملة “إن الموافقة على هذه الصفقة خففت من مزيد من فقدان الثقة بالنظام المصرفي عن طريق الحد من حالة عدم اليقين”.

يقول بيل إسحاق رئيس مؤسسة تأمين الودائع الفيدرالية السابق، “إنه بينما كان ينسب الفضل إلى بنك جيه بي مورجان لقيامه بخدمة عامة رائعة، عبر شراء سلسلة من البنوك المفلسة، فإنني فقط أتساءل عما إذا كانت هذه هي النتيجة التي ينبغي أن نرغب فيها كمسألة سياسة عامة (…) إنك تسمح للبنوك الكبرى بأن تصبح أكبر وأكبر وتصبح لديك خيارات أقل في المستقبل”.

بالنسبة إلى بعض المشاركين في العملية، كان الأمر برمته نتيجة متوقعة مسبقا.

يقول ممول مقرب من إدارة بايدن “كان من الواضح أن الأمر سينتهي بالطريقة التي انتهى بها. جيمي أعد كل شيء. وحصل على صفقة عظيمة. لذا أحييه، إذا كان هذا ما تريده”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى