اقتصاد دولي

مراكز المال في آسيا تجتذب المستثمرين من الغرب

تعيش الأسواق المالية في حركة مستمرة، إذ تتطلع الصناديق المؤسسية والمستثمرون من القطاع الخاص إلى إعادة توازن محافظهم الاستثمارية والبحث عن فرص جديدة في القطاعات الناشئة، لكن وسط التداولات اليومية التي تنعكس في صعود وهبوط المؤشرات الفردية، هناك أيضاً اتجاهات أوسع في العمل، في حين أن جميع هذه العوامل مدفوعة بالعوامل الجيوسياسية والحقائق الاقتصادية والبحث المستمر عن الشعور بالأمن المقترن بالعائدات الموثوقة.

وعلى مدى العقد الماضي، شهد ذلك تحولاً في جاذبية الأنشطة المالية العالمية، والابتعاد عن المراكز التقليدية في أميركا الشمالية وأوروبا نحو آسيا، في حين يشير معظم العلامات إلى أن عملية إعادة الترتيب هذه مضبوطة على زيادة السرعة.

وينعكس هذا التحول في الإصدار الأخير من مؤشر المراكز المالية العالمية نصف السنوي، الذي تم إنتاجه بشكل مشترك من قبل معهد التنمية الصيني في شينزين ومركز الأبحاث “زد/ ين بارتنرز”، ومقره لندن، والذي صنف سنغافورة وهونغ كونغ بين المراكز المالية الأربعة الأولى في العالم، بعد نيويورك ولندن.

الترتيب الذي صدر في سبتمبر (أيلول) من العام الماضي يضع أيضاً ثلاث مدن صينية رئيسة، بكين وشنغهاي وشنتشن، في المراكز الـ10 الأولى، مما يؤكد أن التحول نحو آسيا استمر على رغم تأثير وباء “كوفيد-19” وتداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية.

ثلاثة اعتبارات رئيسة 

تكشف نظرة فاحصة إلى أسباب هذا التحول عن أن المستثمرين لديهم ثلاثة اعتبارات رئيسة عند تحديد مكان نقل الأموال أو استكشاف البدائل، ويكمن الاعتبار الأول في الاتصال، كونه يوفر وصولاً سهلاً ويسمح للمقيمين وغير المقيمين بنقل الاستثمارات من وإلى المراكز المالية الأخرى من دون تأخير، والثاني في القدرة على التنبؤ، عبر وجود مدونة قانونية موثوقة، ونظام تحكيم محترم وبيئة اجتماعية – سياسية ليست عرضة للتغيير غير المتوقع، والثالث في حيوية المكان الذي ينتج من وجود اقتصاد مفتوح ودعم للصناعات القائمة والشركات الناشئة في المراحل المبكرة والفرص الدولية، وكلها توفر آفاقاً جيدة للنمو.

ويقول البروفيسور سوميت أغاروال، أستاذ العلوم المالية والاقتصاد في جامعة سنغافورة الوطنية لـ”ساثو تشاينا مورننغ بوست”، “من الواضح أن مركز النمو الاقتصادي العالمي يقع الآن في آسيا”. ويضيف “هناك كثير من النشاط الإنتاجي والطلب على الخدمات المالية، كما أن الاقتراض والإقراض والاستثمار ضخم أيضاً في آسيا”.

وتابع أغاروال “دول من الصين والهند إلى فيتنام وتايلاند وإندونيسيا، مع عدد سكانها الكبير، تنفتح وتحقق مستويات أعلى من الشمولية المالية، ففي الهند وحدها تم فتح 500 مليون حساب مصرفي جديد في السنوات القليلة الماضية، وهذا خلق عدداً كبيراً من المستثمرين المحتملين”.

وكان إدخال التكنولوجيا المالية، أو “فينتش”، مدعوماً بالسرعة المتزايدة وقوة الإنترنت، كما ابتكر المبتكرون حلولاً تجعل الخدمات المصرفية في متناول الجميع، من الأفراد أصحاب الثروات العالية في المدينة (HNWIs) إلى أصحاب الحسابات الجدد في المناطق الريفية، في حين لا توفر المعاملات عبر الإنترنت سهولة الاستخدام وزيادة الكفاءة فحسب، بل يمكن إجراؤها أيضاً بكلفة أقل.

3.4 تريليون دولار أصولاً مدارة في سنغافورة 

كما تظهر الأبحاث أن النشاط الاستثماري عبر الوصول إلى الإنترنت بالمدن الصغيرة في الصين والهند ينمو بسرعة، ومن غير المرجح أن يبلغ ذروته في أي وقت قريب، إضافة إلى ذلك شهد عام 2021 رقماً قياسياً بقيمة 296 مليار دولار في استثمارات الأسهم الخاصة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.

وتعني هذه التطورات أن البنوك الكبرى في آسيا، والتي تتمتع بمكانة دولية جيدة وعروض رقمية قوية في وضع جيد للاستفادة من الفرص المتزايدة، ففي سنغافورة، على سبيل المثال، وهي موطن لبعض البنوك الأكثر ثقة على نطاق واسع، من بينها بنك “دي بي أس” والذي ظل منذ عام 2009 البنك الآسيوي الأعلى تصنيفاً في قائمة البنوك الأكثر أماناً في العالم السنوية التي تصدرها مجلة “غلوبال فاينانس” التي تتخذ من نيويورك مقراً لها، وتضم التصنيفات أكبر 500 بنك في جميع أنحاء العالم من حيث حجم الأصول، وتستند إلى تصنيفات العملات الأجنبية طويلة الأجل الصادرة عن مؤسسة فيتش للتصنيفات الائتمانية، و”ستاندرد أند بورز”، و”موديز إنفيستورز سيرفيس”.

وبصفته أكبر بنك في سنغافورة، ينظر إلى” دي بي أس” على أنه رائد في تبني التكنولوجيا، حيث يتم تمكين 99 في المئة من تطبيقاته السحابية، وفقاً لستيفن أونج، العضو المنتدب ورئيس “دي بي أس تريجيريز سنغافورة”.

ويستفيد البنك من الذكاء الاصطناعي (AI) والتعلم الآلي (ML) لقياس تنبيهات الاستثمار ذات صلة بكل عميل، مما يوفر فقط ما هو منطقي للفرد بناءً على التحليل.

ويشرح أونج قائلاً، “لقد أنشأنا سوق بيانات داخلية تضم 15000 نقطة بيانات للعميل تجمع معاً الملف الشخصي للعميل – الصفحات التي تمت زيارتها، والمحتوى محل الاهتمام، وتكرار الزيارات والمبالغ التي يتم إنفاقها على فئات مختلفة، من بين أمور أخرى”.

وأضاف “نقوم بعد ذلك بتحويل البيانات إلى رؤى شخصية قابلة للتنفيذ، ما نسميه (التنبيهات) التي يتم تخصيصها للعميل، لتوجيه العميل في المعاملات أو قرارات الاستثمار”.

ويوفر المقر الرئيس في سنغافورة ميزة لـ”دي بي أس”، حيث أصبحت العاصمة سنغافورة مركزاً عالمياً لإدارة الثروات للمستثمرين ومديري الصناديق، ووفقاً لتقرير سبتمبر (أيلول) 2022 الصادر عن شركة المحاسبة “باريس ووتر هاوس كوبرز”. وأظهرت بياناتها أن الأصول الخاضعة للإدارة في العاصمة وصلت إلى مستوى قياسي بلغ 4.7 تريليون دولار سنغافوري (3.4 تريليون دولار أميركي) في نهاية عام 2020، بزيادة قدرها 17 في المئة على أساس سنوي.

ومن إجمالي هذه الأصول تم الحصول على 78 في المئة من مصادر خارج سنغافورة، ويأتي أكثر من نصفها من منطقة آسيا والمحيط الهادئ.

وشهدت سنغافورة على مر السنين نمواً سريعاً في عدد مكاتب الأسرة الواحدة (SFOs)، وهي الأصول لصالح عائلة واحدة فقط أو بالنيابة عنها ويمتلكها أو يتحكم فيه بالكامل أفراد من العائلة نفسها، في حين قدرت سلطة النقد في سنغافورة (MAS) أن هناك 700 منظمة لمكاتب الأسرة الواحدة (SFO) في دولة اعتباراً من نهاية عام 2021، ارتفاعاً من 400 في العام السابق، في حين تقدر تقارير الصناعة الحديثة أن الرقم قد ارتفع على الأرجح إلى أكثر من 1000، وربما يصل إلى 1500.

كما وضعت سياسات لجعل سنغافورة مكاناً جذاباً للمنظمات غير الحكومية لإنشاء عمليات، بما في ذلك خطط الحوافز الضريبية لأولئك الذين يخصصون ما لا يقل عن 10 في المئة أو 10 ملايين دولار سنغافوري (6.2 ملايين دولار أميركي) من أصولهم للاستثمارات المحلية.

ويقول أغاروال “هذه الأموال ليست في سنغافورة فحسب، حيث تذهب إلى محافظ استثمارية نشطة”. أضاف “ربما يقوم هؤلاء الأشخاص المتميزون بتحويل أموالهم إلى سنغافورة بسبب الاستقرار السياسي، أو للاستفادة من نظام الضرائب المواتي من دون مكاسب رأس المال أو ضريبة الميراث، لكننا نلاحظ أيضاً “تأثير الأقران”. على سبيل المثال، إذا حقق شخص ما عائداً من 5000 دولار سنغافوري (3.1 ألف دولار أميركي) إلى 10000 دولار سنغافوري (6.2 ألف دولار أميركي) على استثمار، فإن الأشخاص الذين يعيشون في المبنى نفسه يسمعون عنه ويحاولون عمل الشيء ذاته، وهذا يحدث على جميع مستويات المجتمع”.

لا ضرائب

كما لا يوجد في سنغافورة أي ضرائب على الميراث أو العقارات أو أرباح رأس المال أو ضرائب الثروة الصافية، على رغم وجود معدلات ضرائب تصاعدية على الممتلكات العقارية وضرائب عالية مرتبطة بملكية السيارات.

وعلى رغم الميزات الاستثمارية التي تمنحها سنغافورة، فإن الأداء البيئي والاجتماعي والحوكمة (ESG) في البلاد يتخذ عليه لعبه دوراً صغيراً في زيادة شهية الجمهور للتمويل المستدام، فوفقاً لمسح أجرته شركة الاستشارات العالمية “أكسينتشر”، العام الماضي، شمل 3200 مستثمر ثري في ثمانية أسواق آسيوية، قال 32 في المئة فقط إنهم يستثمرون على طول خطوط الأداء البيئي والاجتماعي والحوكمة (ESG)، والتي تخلفت عن الاتجاه العالمي.

ومع ذلك، أشارت الردود أيضاً إلى الفرص الهائلة للاستفادة من الطلب المتزايد على منتجات الاستثمار المتماشية مع البيئة والاجتماع والحوكمة.

ويدعم بنك “دي بي أس” المبادرات الخضراء مثل الطاقة الحرارية الأرضية في إندونيسيا والطاقة الشمسية في الصين، وفي أغسطس (آب) 2022، أفاد البنك بأن محفظة التمويل المستدام الخاصة به قد نمت إلى 52.7 مليار دولار سنغافوري (32.7 مليار دولار أميركي)، متجاوزة هدفها لعام 2024 البالغ 50 مليار دولار سنغافوري (31 مليار دولار أميركي) قبل الموعد المحدد بوقت طويل.

ويقول أغاروال “تدفع سلطة النقد في سنغافورة البنوك إلى المشاركة بشكل أكبر في التمويل الأخضر، مع بحث المستثمرين عن ذلك، وكل شيء موجود إذا كنت تريد ذلك”.

ومع استمرار نمو اقتصادات آسيا، يلتزم المستثمرون إبقاء أعينهم على المنطقة كمكان مُواتٍ لتجنيد أموالهم، ومن المتوقع أن يؤدي هذا بدوره إلى زيادة الطلب على الخبرات والخدمات في مجال إدارة الثروات، في حين ستكون المؤسسات التي لديها سجلات إنجازات مثبتة قادرة على جني الفوائد التي يجنيها هذا النمو.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى