عملات رقمية

العملات الرقمية الرسمية .. هل بدأت بالفعل نهاية النقد بشكله المعروف؟

تثير العملات الرقمية للبنوك المركزية اهتماما عالميا خاصة في ظل انتشار المدفوعات الرقمية والعملات المشفرة مما يشكل دافعا رئيسيا للدول كي تطور عملاتها الرقمية الرسمية.
وتشير بيانات من مصادر عدة إلى أن العالم يخطو بالفعل وبقوة صوب الابتعاد عن النقد التقليدي خاصة في ظل التطورات السريعة للتكنولوجيا مما يعطي دفعة لأنظمة المدفوعات الرقمية ويقلص بالفعل الاستخدام المادي للأموال في التعاملات اليومية.
بيانات وأرقام
يقول «المجلس الأطلسي» إن 11 دولة أطلقت بالفعل عملاتها الرقمية للبنوك المركزية، بينما تعكف دول أخرى بما في ذلك الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا على تطوير العملات الرقمية الرسمية الخاصة بها.
في الوقت ذاته يشير خبراء إلى أن ما يقرب من 90% من البنوك المركزية حول العالم في مرحلة ما من عملية إنشاء عملاتها الرقمية الخاصة، وإن 62% من البنوك المركزية في مرحلة أكثر تطورا تسمى «إثبات المفهوم»، كما تضاعفت الدول التي تطور عملات رقمية أو تدير برنامج اختبار لها من 14% إلى 26% في الفترة بين عامي 2020 و2021.
ومن المثير للاهتمام أن 76% من الدول التي تعكف على تطوير عملات رقمية للمستهلكين الأفراد تستكشف إمكانية التشغيل البيني لها مع أنظمة الدفع الحالية.
ومن شأن تلك الخطوة التي تسمح بتكامل أنظمة الدفع العادية مع الرقمية على التعايش بين أموال البنوك المركزية والبنوك التجارية وتسريع تبني عملات البنوك المركزية الرقمية على نحو واسع. ومن المرجح أن تقوم البنوك المركزية في دول تمثل نحو 20% من سكان العالم بإصدار عملات رقمية للأغراض العامة في العامين المقبلين.
بالطبع لا يحبذ الكل فكرة العملة الرقمية المركزية، ويعمل عدد قليل من الدول على تشريعات تحد من نطاقها. تريد سويسرا مثلا، التي يحوز مواطنوها أكبر قدر من الأوراق النقدية للفرد في العالم، تكريس توافر أوراق النقد في دستورها. وثمة محاولات من جانب مشرعين أمريكيين لمنع بنك الاحتياطي الاتحادي من إصدار دولار رقمي.
ويقول الخبراء إن تلك العملات ستكون مصدرا رئيسيا للابتكار مع ميزات ووظائف جديدة للمدفوعات والأموال.
يشير العلماء إلى أن جائحة فيروس كورونا والحرب في أوكرانيا تسببتا في اضطراب الاستقرار المالي المستمر منذ سنوات. وتسعى الحكومات عبر سياسات نقدية متسارعة إلى تحسين المنافسة والرقمنة في القطاع المصرفي. ويرى المسؤولون في العديد من الدول أن العملات الرقمية قد تشكل أداة لمكافحة الاحتيال والإقصاء المالي. وبالطبع أدى ظهور العملات المشفرة، التي تتحدد قيمتها حسب العرض والطلب في السوق، إلى دفع الدول لإطلاق عملاتها الرقمية.
تقول «جوليا ديميدوفا» من شركة «إف.آي.إس» للتكنولوجيا المالية «لقد رأينا الحكومات والبنوك المركزية والمؤسسات الأخرى تتطلع إلى تنظيم الأصول الرقمية غير الخاضعة للتنظيم بشكل استباقي».
وتوضح أن العملات الرقمية للبنوك المركزية ليست عملات مشفرة بل هي شكل رقمي للنقد يصدره البنك المركزي ويمثل التزاما عليه.
وتشير إلى أنه ستكون هناك أشكال مختلفة من العملات الرقمية المركزية حول العالم.
وقالت «ديميدوفا» إن الدول تعمل على تسريع عملية تطوير العملات الرقمية، فضلا عن أن الوصول إلى تلك العملات يمكن توسعته، مما يعني أن الشركات متعددة الجنسيات، والأفراد غير المقيمين داخل الدولة أو حتى الحكومات الأجنبية بإمكانها حيازة العملات الرقمية للدول.
وضربت مثلا بالصين التي وسعت نطاق محافظ اليوان الرقمي (e-CNY) لتصل إلى نحو 360 مليون مستخدم، وفي نفس الوقت تدرس بقية البنوك المركزية تسريع جهودها لإطلاق عملات رقمية. ويقول مراقبون إن العملات الرقمية للبنوك المركزية ستتسم بخصائص موحدة في أنها ستشكل التزاما على البنك المركزي، وأن تكون قابلة للاستبدال بالكامل، ويتم تبادلها على قدم المساواة مع أشكال أخرى من النقد الإلزامي والأموال البنكية.
سلاسل الكتل:- تتطلع البنوك المركزية في أنحاء العالم إلى تكنولوجيا سلاسل الكتل لتمهيد الطريق من أجل نشوء العملات الرقمية. وستنمو إيرادات سلاسل الكتل العالمية من 4 مليارات دولار في 2020 إلى 199 مليار دولار في 2030 وفقا لتقرير «الابتكار في المدفوعات: سلاسل الكتل» الصادر عن «جلوبال داتا» والمنشور في العام الماضي.
تعمل تقنية سلاسل الكتل على تحسين شفافية البيانات ومراقبتها، مما يشجع المطورين على المساهمة في القطاع.
ويقول الخبراء إنه بخلاف أنظمة المدفوعات الأخرى، يمكن تصميم نظام العملات الرقمية للبنوك المركزية بشكل يسمح برؤية كاملة للمدفوعات لكل من البنك المركزي والهيئات التنظيمية والسلطات ذات الصلة.
ومع ذلك يشير تقرير «جلوبال داتا» إلى أن شفافية البيانات تعزز خطر الهجمات الإلكترونية. إذ يمكن للقراصنة الإلكترونيين (الهاكرز) الحصول على نظرة متعمقة حول كيفية عمل الشبكات وتحديد ثغرات النظام التي يمكن استغلالها.
يشير الخبراء أيضا إلى أهمية أن تقدم المؤسسات المالية ضمانات مناسبة لعدم المساس بخصوصية المستخدم النهائي للعملات وتأمين البيانات مستقبلا.
السويد مثالا
السويد، وهي بالفعل واحدة من أكثر الدول غير النقدية في العالم، قد تكون على وشك طرح كرونة رقمية وربما تستغني تماما عن النقد قريبا. فالحكومة السويدية أطلقت في عام 2012 نظام الدفع عبر الجوال «سويش» بالتعاون مع البنك المركزي.
كانت الحكومة استحدثت قانون تسجيل النقد في عام 2010، والذي بموجبه يتعين على أي شخص يقبل مدفوعات نقدية أن يستخدم سجلا نقديا معتمدا وأن يقدم إيصالا للمشتري. وفي عامي 2013 و2016 أجرى البنك تعديلا متعدد المراحل على الأوراق والعملات المعدنية.
كان تأثير تلك المساعي على النقد المتداول كبيرا. فمنذ عام 2007، انخفض استخدام أوراق النقد على نحو مطرد في السويد. ويمثل النقد المتداول 1.1% فقط من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022، انخفاضا من 2.6% في 2012. ووفقا لمسح أجراه البنك المركزي في عام 2020، فإنه من عام 2010 إلى 2020 انخفضت نسبة الأشخاص الذين استخدموا أوراق النقد في السويد من حوالي 40% إلى أقل من 10%.
أدى وباء كورونا إلى تسريع الاتجاه صوب رقمنه السويد للأموال. خلصت دراسة استقصائية أجرتها مجموعة «أورجيو وبايمنت انفستيجيشن» أن 8% فقط من السويديين يستخدمون النقد في أحدث معاملات للشراء، في المقابل استخدم 77% من السويديين بطاقات مصرفية. في الوقت ذاته، شهد عام 2022 ارتفاعا في حدود السداد اللاتلامسي من 200 كرونة سويدية إلى 400 كرونة سويدية.
البرازيل والصين من بين مجموعة قليلة من الدول التي انضمت إلى السويد في هذا الاتجاه. على سبيل المثال في الصين انخفضت أوراق النقد المتداولة مما يعادل 11% من الناتج المحلي الإجمالي في 2012 إلى ما يزيد قليلا على 8.2% في عام 2022.
والصين هي أكبر سوق للدفع عبر الجوال في العالم ويستخدم أكثر من ثلاثة أرباع الصينيين المدفوعات الرقمية بدلا من السداد النقدي وفقا لأبحاث «دويتشه بنك». كما دعمت التطبيقات الواسعة الاستخدام مثل «علي باي» و»وي تشات باي» عمليات الدفع الرقمي.
وحتى في الولايات المتحدة، تكشف بيانات أن نحو 40% من الأمريكيين لم يستخدموا أي أوراق نقدية في عام 2022، مقارنة مع عام 2015 حين كان ما يقل عن 25% لا يستخدمون النقد وفقا لمسوحات أجرتها مؤسسة «Pew» مما يشير إلى طفرة فعلية في استخدام أنظمة الدفع الرقمية. وفي استطلاع منفصل، قال 60% من المستهلكين لمؤسسة «جالوب» إنهم استخدموا أوراق النقد في مناسبات بعينها فقط في 2022، وهو ما يزيد على ضعفي الرقم المسجل في استطلاعات المؤسسة قبل خمس سنوات.
أسعار الفائدة المرتفعة
يرى محللون أن معدلات الفائدة المرتفعة تحفز المستهلكين على إيداع الأموال أو ادخارها في البنوك. وكان «دويتشه بنك» قام بتحليل لدورات رفع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بين عامي 1960 و1983، حيث وجد ارتباطا سلبيا قويا بين مستويات أسعار الفائدة التي تحددها البنوك المركزية والنقد المتداول.
وبالفعل، انخفض النقد المتداول في الولايات المتحدة من 10.4 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2021 إلى 8.6% في عام 2022. وفي منطقة اليورو، انخفض من 10.1% من الناتج المحلي الإجمالي في 2021 إلى 9.8% في 2022. النهاية ليست سريعة:- على الجانب الآخر يقول البعض إن نهاية النقد لا تزال بعيدة المنال وإنه سيظل يستخدم كمخزن للقيمة. فعلى سبيل المثال يتزايد استخدام النقد كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي في منطقة اليورو والولايات المتحدة واليابان.
ويقول الخبراء إن النقد هو الأساس عندما تكون هناك أزمة مثل الصدمات المالية والأوبئة. على سبيل المثال، في منطقة اليورو زاد استخدام أوراق النقد خلال الأشهر الثلاثة التي أعقبت انهيار بنك «ليمان براذرز» في أواخر عام 2008 ليصل لأعلى مستوياته على الإطلاق.
كوسيلة للدفع، ما زال البعض ينظر إلى النقد باعتباره ضرورة في ظل عوامل من بينها أن 1.4 مليار شخص، أي أكثر من 20% من سكان العالم، لا يملكون حسابات مصرفية. كما أن هناك فئات معينة شديدة الاعتماد على النقد وخاصة كبار السن وأولئك الذين يستخدمون النقود في عمليات دفع صغيرة، كما تظل هناك حاجة لاستخدام النقد أثناء وقوع الكوارث الطبيعية لأن الوصول عبر الإنترنت إلى العملات الرقمية قد لا يكون متاحا، هذا فضلا عن المخاوف التقليدية من تعرض أنظمة الدفع الرقمية للاختراق والهجمات الإلكترونية.
فضلا عن ذلك فإن النقد ما زال أداة رائجة بين المستهلكين. فوفقا لمسح أجراه «دويتشه بنك» شمل 3600 شخص في أنحاء المملكة المتحدة والولايات المتحدة والصين وألمانيا وفرنسا وإيطاليا في ديسمبر 2022، فإن 21% من الأمريكيين و28% من الأوروبيين يصنفون النقد باعتباره طريقة الدفع المفضلة لديهم. علاوة على ذلك، يعتقد أكثر من نصف سكان الدول المتقدمة أن النقد سيكون موجودا على الدوام، وهي وجهة نظر ظلت ثابتة قبل وبعد جائحة كوفيد-19.
المصادر: أرقام- موقع (Retail Bank International)- موقع المنتدى الاقتصادي العالمي- ياهو فاينانس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى