مختارات اقتصادية

تي إس إم سي .. إلى أي مدى يجب أن يقلق العالم حال غزو الصين تايوان؟

يثير تصاعد التوتر بين الصين وتايوان القلق من مصير شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات (تي.إس.إم.سي)، والتي في حالة نشوب حرب بين البلدين قد تسبب في صدع عالمي في صناعات استهلاكية وإلكترونية رئيسية تعتمد على تدفق أشباه الموصلات من الدولة شبه الجزيرة الأهم في العالم.
ووفقا لتقديرات السوق، تصنع تايوان نحو 60 في المائة من أشباه الموصلات في العالم و90% من أكثرها تقدما والتي تُستخدم في مجالات متنوعة من بينها القطاع الدفاعي.
قرار بافيت:- اتجهت الأنظار نحو الشركة بشدة بعد أن قرر الملياردير الأمريكي «وارن بافيت» بيع معظم حصة شركته «بيركشاير هاثاواي» في الشركة التايوانية العملاقة.
وعلى الرغم من أن «بافيت» وصف «تي.إس.إم.سي» بأنها تتمتع بإدارة جيدة إلا أنه قال إن «بيركشاير» ترى أماكن أخرى أفضل لتستغل رأسمالها.
وأضاف في مقابلة مع وكالة «نيكي» اليابانية أن التوتر الجيوسياسي المتصاعد كان أحد الاعتبارات في قرار البيع.
وفي فبراير، كشفت «بيركشاير» أنها باعت 86% من حصتها في «تي.إس.إم.سي» والتي اشترتها مقابل 4.1 مليار دولار قبل أشهر فقط. قرار البيع السريع في حد ذاته شكل مفاجأة نظرا لأن الملياردير الأمريكي معروف بمراهناته طويلة الأجل. ويشير حجم صفقة الشراء إلى أن العملية تمت على الأرجح من جانب «بافيت» شخصيا وليس أحد مديري محفظته حسبما أفادت وكالة «رويترز».
«درع السيليكون»:- و»تي.إس.إم.سي» أحد الركائز الرئيسية لاقتصاد تايوان وهي أكبر الشركات قيمة في آسيا وتقوم بتوريد أشباه الموصلات لعمالقة التكنولوجيا بما في ذلك «أبل» و»كوالكوم».
وتنتج الشركة أشباه الموصلات الأكثر تقدما في العالم والتي تلعب دورا حيويا في تشغيل كل شيء من الهواتف الذكية إلى السيارات، لذا يُنظر إلى الشركة على أنها ذات قيمة كبيرة للاقتصاد العالمي حتى للصين.
وأدت الأهمية الاستراتيجية لصناعة أشباه الموصلات في تايوان إلى ظهور مفهوم «درع السيليكون» الذي يشير إلى أن دور تايبيه الذي لا غنى عنه في الاقتصاد الرقمي العالمي من شأنه أن يردع بكين عن خوض الحرب لإجبار الجزيرة على التوحد مع البر الرئيسي.
ويقول البعض إن الشركة تشكل حافزا قويا للغرب للدفاع عن تايوان في مواجهة أي محاولة من جانب الصين للاستيلاء عليها بالقوة. لكن في ظل تصاعد التوتر في مضيق تايوان وتنشيط الصين لاستراتيجيتها الرقمية المستقبلة أصبح مفهوم درع السيليكون التايواني موضع تساؤل.
أضرار كبيرة على الاقتصاد العالمي
تعتمد الولايات المتحدة بشكل كبير على إمدادات أشباه الموصلات التي تنتجها الشركة التايوانية، وبالتالي فإن أي غزو سيكون له تداعيات هائلة على سلاسل التوريد ما من شأنه أن يجعل النقص الذي شهده العالم في 2021 يبدو وكأنه زوبعة بسيطة.
وقال «كريس ميلر» مؤلف كتاب «حرب الرقائق» الصادر في 2022 إنه يمكن «لضربة صاروخية واحدة على منشأة تصنيع الرقائق الأكثر تقدما في تي.إس.إم.سي أن تسبب بسهولة أضرارا (للاقتصاد العالمي) بقيمة مئات المليارات من الدولارات بمجرد حدوث تأخير في إنتاج الهواتف ومراكز البيانات والسيارات وشبكات الاتصالات وغيرها من التقنيات».
هذا التهديد دفع الولايات المتحدة والصين إلى تقليل الاعتماد على المصنعين التايوانيين في مجال أشباه الموصلات. هذا فضلا عن السعي إلى نقل خطوط إنتاج أشباه الموصلات إلى الولايات المتحدة تحوطا من تهديد محتمل لقاعدة التصنيع التايوانية. من جانبها تحاول الشركة التايوانية توسيع رقعة إنتاجها العالمي بيد أنها تحتفظ بأحدث تقنياتها في تايوان.
وفي أواخر العام الماضي، بدأت الشركة في بناء مصنع ثان للرقائق في ولاية «أريزونا» الأمريكية من المقرر أن يبدأ الإنتاج في عام 2026 باستخدام تقنيات متطورة. ويبلغ إجمالي استثمارات الشركة في المشروع نحو 40 مليار دولار حتى إن بعض الخبراء وصفوه بأنه «تايوان الصغيرة».
أثار المشروع مخاوف بعض المنتقدين من أن صناعة أشباه الموصلات التايوانية يجري تفريغها. وحذر البعض من أن المستثمرين العالميين الذين يغادرون تايوان قد يزيدون من احتمالية وقوع هجوم من جانب الصين.
لكن مسؤولين في تايوان سعوا لتهدئة المخاوف في هذا الصدد قائلين إن نقل الصناعة إلى الولايات المتحدة ليس بهذه البساطة نظرا لتفرد النظام التكاملي للصناعة الذي ابتكرته الشركة التايوانية. ويقول المسؤولون إن «تي.إس.إم.سي» لديها سلسلة إمداد كاملة في تايوان يصعب تكرارها وأكدوا أن التكنولوجيا الأكثر تقدما ستبقى في الجزيرة، مشيرين على سبيل المثال إلى عدم قدرة «إنتل» الأمريكية على اللحاق بنظيرتها التايوانية، بل واعتمادها الكامل عليها في تصنيع الرقائق التي تستخدمها في معالجاتها.
تعاون قديم:- يتناقص التوتر الإقليمي الحالي مع التقارب الذي حدث خلال فترة الرئيس التايواني السابق «ما ينج جيو» الذي تولى قيادة البلاد في الفترة من 2008 إلى 2016، عندما أدى التكامل الاقتصادي وفوائد البحث والتطوير المشترك إلى حالة شراكة غير مسبوقة بين تايوان والصين.
وفي عام 2005، فتحت بكين أبواب التعاون الاقتصادي في مجال التكنولوجيا الفائقة مع تايبيه، ما دفع التجارة الثنائية إلى الازدهار لأكثر من عقد من الزمان. كانت الصين تسعى إلى هدفين من خلال تعزيز روابطها من تايوان وهو الوصول إلى سلاسل التوريد المتطورة ذات التقنية العالية، حيث غذت الرقائق والمكونات والبرامج التايوانية سلسلة التوريد العالمية التي قادت الثورة الصناعية الرابعة.
جهود الصين:- في الوقت نفسه تنفق الحكومة الصينية مليارات الدولارات لتعزيز صناعة الرقائق، لكن خبراء في القطاع يقولون إن التكنولوجيا الصينية في مجال صناعة الرقائق ما زالت تتخلف عن نظيرتها التايوانية بما لا يقل عن خمس أو ست سنوات.
وسلط تقرير باسم «الصين الرقمية» الصادر عن مركز أبحاث «منتدى الباسيفيك» في هونولولو الضوء على القلق المتزايد في الولايات المتحدة وأوروبا ومنطقة المحيطين الهادي والهندي بشأن سياسات الصين التكنولوجية في عهد الرئيس «شي جين بينغ». يتتبع التقرير الاستراتيجية التي وضعها الرئيس الصيني على مدى العقد الفائت وتسارعها خلال جائحة كورونا. ويخلص التقرير إلى أن استراتيجية «الصين الرقمية» مصممة لمنح بكين ميزة تنافسية على الغرب من خلال التحول الرقمي للقواعد والمؤسسات والبنية التحتية.
تسعى الاستراتيجية إلى مساعدة الصين على تحدي ما تعتبره نظاما عالميا مهيمنا مرتبطا بالوضع الراهن وفي القلب منه صناعة أشباه الموصلات في تايوان. وفي أوائل مارس، ذكرت وسائل الإعلام الحكومية الصينية أن هناك جهدا وطنيا ينطلق لتعزيز صناعة أشباه الموصلات في الصين وجذب المواهب الأجنبية، وتزامن ذلك مع دعوات من القيادة الصينية إلى تعبئة الموارد الوطنية في تطوير الصناعة والتعهد بتوظيف خبراء أجانب لتحقيق اختراقات في مجال التكنولوجيا. وفي سعيها لمواجهة تشديد العقوبات الأمريكية عليها، انطلقت مساع لتجديد قطاع أشباه الموصلات الصيني. وحصلت شركة «يانجتسي ميموري تكنولوجي» الخاضعة لعقوبات أمريكية على دعم رأسمال قدره 7 مليارات دولار من مستثمرين مدعومين من الدولة، ما ضاعف رأسمالها المسجل إلى أكثر من 105 مليارات يوان.
سيناريوهات:- يقول خبراء إن الولايات المتحدة وضعت خطط طوارئ لإجلاء مهندسي الشركة التايوانية أو حتى تدمير منشآتها في حالة إقدام الصين على غزو الجزيرة. وذكرت ورقة بحثية نشرت في مجلة «Army War College Quarterly» الأمريكية أن «استراتيجية الأرض المحروقة ليس من شأنها فقط أن تجعل تايوان غير جذابة …لكن ستجعل الحفاظ عليها أيضا أمرا مكلفا للصين».
لكن المدير العام لمكتب الأمن القومي للجزيرة «تشانج مينج تونج» فند احتمال لجوء الولايات المتحدة إلى هذا السيناريو. إذ قال أمام البرلمان إنه لن تكون هناك حاجة إلى تدمير المنشآت، مشيرا إلى أن سلاسل التوريد الخاصة بالشركة شديدة التعقيد، ما يجعل إنتاج أشباه الموصلات مستحيلا في حالة الغزو.
وأوضح أن الشركة التايوانية تعتمد على موردين عالميين للمكونات والمعدات وفي حالة غزو الصين، فإن العقوبات العالمية والقيود التجارية ستقوم بما يكفي لوقف نشاط الشركة.
وأضاف «بدون المكونات والمعدات مثل تلك القادمة من شركة إيه.إس.إم.إل الهولندية وفي غياب أي مكونات رئيسية، لا توجد وسيلة تواصل بها تي.إس.إم.سي إنتاجها».
ركود عالمي:- يرى محللون أنه إذا هاجمت الصين تايوان، سواء بغزو برمائي أو بضربات صاروخية، فإن «تي.إس.إم.سي» قد توقف عملياتها ربما بشكل دائم اعتمادا على طبيعة الحرب. ونظرا لاعتماد الولايات المتحدة والصين معا على قدرات التصنيع التايوانية وهيمنة تايوان الحالية على السوق، فإن سلاسل التوريد العالمية للسلع عالية التقنية ستتضرر بشدة لعدة سنوات. ويقول المحللون إن اقتصاد الصين سيعاني أيضا لكنهم يشيرون إلى أن أي قرار لإجبار تايوان على الانضمام إلى الصين سيكون مدفوعا في النهاية بالسياسة وليس الاقتصاد. وبالنظر إلى الطبيعة التكاملية لقدرات التصنيع الخاصة بشركة «تي.إس.إم.سي» في الولايات المتحدة وأوروبا، فإن غزو تايوان سيؤدي إلى ركود عالمي في سوق أشباه الموصلات وتباطؤ اقتصادي أوسع نطاقا.
يخشى بعض المحللين من أن الصين قد تستهدف على وجه الدقة مصانع أشباه الموصلات التايوانية لتعطيل قدرة الجزيرة على تصنيع الرقائق تماما. لكن خبراء يقولون إنه في هذه الحالة المستبعدة إلى حد كبير، فإن قدرة الصين على إنتاج رقائق السيليكون يجب أن تكون اقتربت من مستوى مكافئ لما تصنعه الشركة التايوانية كما يجب أن تكون مدعومة بسلسلة إمداد مستقلة ومعقدة وآمنة وهو ما لم يحدث بعد. بشكل عام يرى بعض المسؤولين الأمريكيين ومن بينهم نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق «مات بوتينجر» أن درع السيليكون التايواني لن يردع الصين، بل إن تفوق تايوان في صناعة أشباه الموصلات سيمثل دافعا للحرب عليها. في هذا السيناريو، فإن إغراء الاستيلاء على قطاع أشباه الموصلات في تايوان وتحقيق الهيمنة الرقمية سيشجع بكين على غزو الجزيرة. ووفقا لبعض الخبراء فإن الصين والولايات المتحدة تستعدان لمثل تلك الحرب قبل عام 2027.
في المقابل يرى آخرون أنه من الممكن حدوث انفراج سياسي. وفي دراسة أجراها «ريتشارد كرونين» في مركز «ستيمسون» بشأن درع السيليكون في تايوان، فإنه اقترح احتمال أن ترفع الولايات المتحدة بعض العقوبات وحظر التصدير على الصين مقابل التزام بكين بتبني موقف أقل تهديدا. يتطلب هذا السيناريو أن تصبح استراتيجية «الصين الرقمية» أكثر ميلا إلى التعاون منها إلى المناورة التنافسية. يرى الخبراء أن هذا السيناريو الأقل احتمالا في ظل مواصلة الصين بناء ترسانة صاروخية تستهدف تايوان ورفضها مناقشة خفض التصعيد العسكري.
المصادر: أرقام- رويترز- بلومبرج- فورتشن- سي.إن.إن- مركز «جي.آي.إس» (Geopolitical Intelligence Services)

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى